q
الكاظمي يلقي باللوم دائماً على من سبقوه من رؤساء الوزراء الضعفاء والذين لم يستطيعوا فعل شيء يجعل العراق يتقدم للأمام، وفي المقابل يعلنها صراحة أنه لا يختلف عمن سبقوه بتحوله إلى "معقب معاملات" بسبب تأخر حل المشكلات التي تحتاج لأسابيع وأشهر، لدينا هذا الإرث في اختيار رؤساء الوزراء...

في الحوارات السياسية عبر التلفزيون كما في البيانات الرسمية للكتل البرلمانية العراقية، يتكرر ذكر مواصفات رئيس الوزراء القادم، لكونه الهدف الأهم لكل حزب سياسي، والعقبة الأكبر بوجه تشكيل الحكومات السابقة، وعن طريق اختياره أولاً، ثم أدائه ثانياً يُقيّم شخص الرئيس والحزب الذي يقف خلفه.

وإذا كانت هناك تعقيدات في اختيار رؤساء الوزراء السابقين، فإننا اليوم نعيش جميع التعقيدات تلك، مضافاً إليها تعقيدات جديدة أفرزها اختلال خارطة التوازنات الانتخابية، والضغط الشعبي الهائل المطالب برئيس وزراء يستطيع نقل العراق إلى وضع أفضل ومغادرة حالة التأزم التي لم يستطع أي رئيس وزراء سابق التغلب عليها.

أول التعقيدات عاشها أياد علاوي رئيس أول حكومة مؤقتة بعد الغزو الأميركي للعراق، تلتها حكومة إبراهيم الجعفري من عام 2005 إلى عام 2006، وبالكاد حقق الرجلان إنجازً يستحق الإشادة.

هذان الرئيسان كانا من شخصيات الخط الأول للأحزاب المعارضة لنظام صدام الذي أسقطه الجيش الأميركي عام 2003، لكنها لم يفعلا شيئاً؛ لأن القيادة الفعلية للبلاد كانت بيد الولايات المتحدة الأميركية، وهما يعرفان هذا الواقع جيداً إلا أنهما لم يعترفا بالحقيقة، وصوّر كل منهما نفسه وكأنه رئيس وزراء كامل الصلاحيات.

كان دور رئيس الوزراء خلال السنوات الأولى للغزو الأميركي أشبه بمنصب المدير العام، أو المدير التنفيذي، فهل يعقل أن تترك أميركا دولة مثل العراق بيد رئيس وزراء بكامل الصلاحيات، لا سيما وأنها أنفقت مليارات الدولارات وخسرت آلاف الجنود، مع نشرها عشرات آلاف المجندين في جميع المحافظات العراقية.

ليس معقولاً أن تتركه أميركا بكامل الصلاحيات ولم يكن هناك جيش عراقي بل حرس وطني وتسليحهم بسيط لا يتعدى الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، أما الشرطة فحالهم أسوأ بكثير، حيث لا يملكون البنادق الكافية لمواجهة الجماعات المسلحة النشيطة.

أما على الجانب الاقتصادي والخدمي، فالبلد يعتاش على النفط، وأمواله مخزنة، على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، والحكومة تتصرف بالأموال بعد الموافقة الاميركية.

انتهت المرحلة الأولى لحكم العراق بإقرار الدستور، وإجراء أول انتخابات نيابية عام 2006، حيث كان من المفترض أن تكون الحكومة الجديدة مستندة إلى الدستور في قراراتها ولا تحتاج إلى توجيهات أميركية، لكن استمرار ضعف الأجهزة الحكومية الناشئة وانتشار العنف الطائفي زاد من خطورة منصب رئيس الوزراء.

كما انعكست الخلافات الشديدة للظفر بالمنصب على مواصفات رئيس الوزراء الجديدة، حيث استبعد الجعفري وهو صاحب التجربة والخبرة السياسية، وجيء بنوري المالكي، قليل التجربة ومن شخصيات الخط الثاني للأحزاب الحاكمة، وانتخابه لم يكن لتجربة سياسية حافلة بالإنجازات، إنما هو رئيس وزراء تسوية لإرضاء جميع الأطراف السياسية الداخلية والخارجية.

ومنذ ذلك التاريخ تأسست قاعدة جديدة في اختيار رئيس تسوية، وغير جدلي، وغير مجرب سابقاً، ويملك علاقات طيبة مع جميع الأطراف، وغيرها من المصطلحات الشائعة بشأن المنصب الأعلى والأهم في البلاد.

استمرت قاعدة اختيار رئيس وزراء من الخط الثاني لوجود مخاوف لدى القوى الحاكمة من خسارة مواقع القوة في حال انتخاب رئيس حكومة قوي، إذ تستطيع المحافظة على مواقعها في ظل رئيس وزراء قليل الخبرة وضعيف القرار ولا يستطيع التحرك دون أخذ الإذن من القوى السياسية الرئيسية.

يوفر رئيس الوزراء الضعيف مجالاً للمناورة، ففي حال عدم انصياعه لقرارات الأحزاب المتنفذة يمكن اسقاطه قبل أن يكبر ويتوسع نفوذه، وهو ما حصل مع نوري المالكي في فترته الانتخابية الثانية حيث اسقط عام 2014، وانتخب خلفه حيدر العبادي الأضعف منه والطامح لرئاسة الحكومة بينما لا يملك حزباً يدعمه، وهي سابقة سياسية لا تقوم إلا في العراق حيث يُراد لرئيس الوزراء أن يكون منقاداً لا قائداً.

مع المالكي تأسست قاعدة اختيار رئيس وزراء من الخط الثاني للحزب الذي يرشحه، بمعنى أن رئيس الوزراء يملك حزباً لكنه من شخصيات الخط الثاني.

ومع العبادي ولدت قاعدة أو صفة ثانية وهي أن يكون من شخصيات الخط الثاني ولا يملك حزباً سياسياً يدعمه داخل البرلمان.

تعززت القاعدة الثانية مع انتخاب السيد عادل عبد المهدي عام 2018، فهو لا يملك حزباً يدعمه داخل البرلمان، وضعيف بحيث تُدار رئاسة الوزراء من قبل الأحزاب المتنفذة، وخلال حكمه شهدت رئاسة الوزراء ضعفاً لم يشهده أي رئيس وزراء سابق.

هذا النوع مفيد للأحزاب المتنفذة، فهي تقود الحكومة من الخلف، لكنها تتخلى عنها عندما تحدث بعض الاضطرابات، وعندما اندلعت احتجاجات تشرين 2019 المطالبة بإصلاح النظام السياسي، كادت أن تقتلع الأحزاب الكبيرة، لكن تمت التضحية بعبد المهدي بكل سهولة لأنه شخصية ضعيفة استطاعت التخلص منه وعبور ذلك المطب الخطير والانتقال إلى رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، فهو ليس من قيادات الخط الثاني فقط، وليس من الشخصيات التي لا تملك حزباً، بل من رؤساء الوزراء الذين تعهدوا بتسلم المنصب مقابل عدم المشاركة في الانتخابات.

أي ضعف وصل إليه منصب رئيس الوزراء؟

الكاظمي يلقي باللوم دائماً على من سبقوه من رؤساء الوزراء الضعفاء والذين لم يستطيعوا فعل شيء يجعل العراق يتقدم للأمام، وفي المقابل يعلنها صراحة أنه لا يختلف عمن سبقوه بتحوله إلى "معقب معاملات" بسبب تأخر حل المشكلات التي تحتاج لأسابيع وأشهر.

لدينا هذا الإرث في اختيار رؤساء الوزراء وما زالت نشرات الأخبار تزدحم بمواصفات أسطورية للشخص الذي يجب أن يشغل المنصب في الحكومة المقبلة.

لا حاجة لتحليل البيانات والتصريحات السياسية، مواصفاته أن يكون رئيس وزراء برتبة مدير عام بالوكالة.

اضف تعليق