q
لا شكَّ أن هذا التراجع المخيف في القيم السياسية والاجتماعية، ينم عن ضياع عقود من حداثة اجتماعية وثقافية مفترضة، ويدعو إلى موقف ثقافي ونقد اجتماعي وسياسي جاد لا يقاف التدهور، فليس من المعقول أن تنحدر الأمور إلى مستويات من التردي تعجز معها قوى الدولة ومؤسساتها عن وقف التدهور وتقبل بالأمر الواقع...

في عام 1992 أصدر مركز دراسات الوحدة العربية كتاب (صراع القبيلة والدولة في الخليج العربي) للأستاذ العراقي المغترب الدكتور محمد جواد رضا، تناول فيه المؤلف المخاض الصعب، الذي أدى إلى انتقال مجتمعات قبلية إلى دولة عصرية، بكل ما انطوى عليه ذلك من تنشئة سياسية وبناء مؤسسات، قادت إلى استقرار أسس الدولة ومكنتها من الشروع بتنمية شاملة، استطاعت خلال نصف قرن أن تتجاوز دولا أعرق منها في التأسيس للدولة الحديثة.

فكرة الكتاب كانت تدور حول رسوخ القيم القبلية وصعوبات الانتقال إلى قيم الدولة الحديثة، بما يستلزم القطع مع علاقات ومصالح القبيلة من هيمنة ونفوذ واستحواذ وتفضيل وأعراف إلى الفضاء الأوسع للدولة، التي ينبغي أن تعمل على قيم القانون والمساواة والحقوق وتكافؤ الفرص والولاء للكيان الأوسع لا لكيان القبيلة الضيق، كانت الشكوى كبيرة من صعوبات التحديث والانتقال الثقافي إلى رحاب ثقافة الدولة لا ثقافة القبيلة، وظلت ذيول ثقافة الأخيرة راسخة تتمظهر في صراعات مخبوءة على السلطة والثروة، بعد تنامي قوة القبائل السياسية بصعود من يمثلها، ويمثل مصالحها إلى قمة الهرم السياسي (نواب في مجالس التشريع ووزراء وفاعلين سياسيين).

قصة نشأة الدولة في الخليج تلقي الضوء على المسار الصعب، وربما البطيء للانتقال من التحديث الاجتماعي والاقتصادي إلى التحديث السياسي، الذي ما زال مرتبطا بمحددات القبائل ودور القبيلة الأقوى وربما الأكبر أو الأقدر على إنتاج بيوتات وأسر مالكة وحاكمة، عرفت الطريق إلى الانخراط في سياق التحديث والعولمة، رغم فكرها المحافظ واستطاعت النجاة من العواصف الفكرية والسياسية والأزمات والحروب، قياسا بالدول الأعرق ذات البنى الاجتماعية العابرة للقبائل، والحراكات السياسية الواسعة، والايديولوجيات المتصارعة والتاريخ الحافل بقيام وسقوط الدول.

لم يكن الطريق سهلا ومن دون ارتدادات فللتحديث ثمنه وللقيم الجديدة آثارها، ولضغط الفكر الذي يتوالد في البيئات العالمية نتائجه، فعلى وقع تسارع العولمة وتشيؤ الانسان وظهور الخيبات بإخفاق التعليم في بناء منظومات قيمية، تحض على المساواة والحقوق وبإخفاق النسق الحكومي في تثبيت قيم المواطنة والمساواة والتشاركية، كل ذلك أدى إلى انبعاث الاصوليات والعودة إلى الجذور، طلبا للحماية، وهي الظواهر، التي تحدث عنها الناقد السعودي عبدالله الغذامي في كتابه الذائع (القبيلة والقبائلية، قصة انبعاث الأصوليات) الصادر عام2009، أي بعد قرابة العقدين من صدور كتاب الباحث الراحل محمد جواد رضا .

تشير صعوبات التحديث والنقد والانتقال إلى ثقافة القبيلة بوصفها وحدة اجتماعية، ومكوننا من مكونات مرحلة ماقبل الدولة، إلى ثقافة الدولة، ثم معاودة ظهور ثقافة القبيلة مجددا كنسق عنصري تفضيلي داخل الدولة الحديثة.. تشير هذه الصعوبات إلى مشكلات فشل الدولة، أو بالأحرى فشل الانظمة السياسية والنخب التي تقودها وتنتمي إليها، أو تلك التي تتخادم معها، في الاحتراز من الممارسات والسلوكيات التي تدفع إلى انتكاسات اجتماعية، وتقهقر في الذهنية العامة يقود إلى الاستنجاد بقيم ما قبل الدولة الحديثة، أي إلى قيم العصبية والولاء للعائلة الكبيرة (العشيرة)، واختزال القانون العام بقانون القبيلة، وارتكاس القيم الفردية إلى قيم لا تنم عن انتماء إلى الفضاء الأوسع، فضاء مجتمع المدينة، بما فيه من تعاون ومصلحة مشتركة وتسويات اجتماعية وقبول بالتعددية واحترام حقوق الآخرين، علاوة على الالتزام بشروط العقد الاجتماعي، كالخضوع إلى القانون والمحافظة على الموارد العامة، وتبني قيم الجمال والنظافة والعمران ضمن نسق أخلاقي قيمي شامل.

تنبيء بعض الظواهر في الواقع العراقي الراهن إلى تقهقر كبير في ثقافة المجتمع أدى ويؤدي إلى تراجع عام على الصعد المختلفة، فقد صار القانون العشائري بديلا عن قانون الدولة، وصار القاضي القبائلي هو الأقدر على حل المشكلات الاجتماعية الأكبر والأوسع، وغدت الممارسة السياسية تتزعمها الشخصيات ذات الثقل العشائري، وباتت المشاركة في النشاط الاقتصادي ممهورة بقدرة الشخصيات العشائرية على الضغط وممارسة النفوذ، وربما ممارسة الابتزاز والتهديد للحصول على المقاولات وتلزيم المشاريع والحصول على التوظيف وفرص العمل لأفراد العشيرة، الاكثر من ذلك أن بعض الأحزاب السياسية صارت تحمل سمة القبيلة والحلف العشائري أكثر منها أحزابا حديثة.

ومن المؤكد في ظل صعود القيم القبائلية وتسلح العشائر وتزايد العصبيات، ألا يشهد العراق نموا أو تطورا أو ازدهارا في مشهده الاقتصادي والاخلاقي والجمالي ولا تحسنا في أمنه الاجتماعي والنفسي، بل إن المشهد السياسي المعقد والخطير، هو في ذاته ضحية ورهينة ثقافة قبائلية في عمقها، فعندما يغضب سياسي او زعيم أو ناشط كبير تلتهب الساحة السياسية والاعلامية وتسود الازمة وتتلبد غيوم الضغينة وتتحرك الوساطات، في محاولة لتهدئة الأمور خوفا من انزلاقها إلى المحذور.

لا شكَّ أن هذا التراجع المخيف في القيم السياسية والاجتماعية، ينم عن ضياع عقود من حداثة اجتماعية وثقافية مفترضة، ويدعو إلى موقف ثقافي ونقد اجتماعي وسياسي جاد لا يقاف التدهور، فليس من المعقول أن تنحدر الأمور إلى مستويات من التردي تعجز معها قوى الدولة ومؤسساتها عن وقف التدهور وتقبل بالأمر الواقع، لتصبح الدولة ومؤسساتها ونشاطاتها ووظائفها، خاضعة لمنطق القبائلية ومنتجاتها.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق