q
لا يعني توسيع ساحات الاشتباك بالضرورة نجاح المراهنة عليها، بقدر ما هو محاولة لصرف الانظار عن تطورات الساحة الرئيسية، الا وهي اوكرانيا، التي بات المواطن الغربي يئنّ من وطأتها الاقتصادية، بصورة مباشرة. هذا لا يعني تخلّي واشنطن عن توتير الجغرافيا المحيطة بروسيا، في أي وقت قريب...
د. منذر سليمان و جعفر الجعفري

جوهر الأزمة الأوكرانية هو صراع جيو-سياسي بين روسيا، من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، من الناحية الأخرى، قد ينزلق إلى مواجهة أوسع شمولية تطال الكون بأكمله.

من الثوابت الأميركية، في هذا السياق، لجوء دوائر صنع القرار إلى توسيع ساحات الصراع من أجل تخفيف الضغط الروسي عن أوكرانيا، بدءاً بالترحيب بانضمام "دولتين محايدتين سابقا"، فنلندا والسويد، إلى مظلة حلف "الناتو"، الأمر الذي يُدخل عنصر تحدٍّ جديداً لروسيا واضطرارها إلى نشر قواتها لتغطية مساحة إضافية من الحدود المشتركة مع فنلندا، بطول 1،300 كلم.

أيضاً، نشطت الاستراتيجية الأميركية في مياه المحيط الهاديء لتطويق كل من روسيا والصين، الأولى عبر تجديد صراعات تاريخية إقليمية مع اليابان، والثانية عبر حشد دول جنوبي شرقي آسيا، مجموعة "آسيان"، ودفعها إلى الانضمام إلى التوجهات الأميركية إلى محاصرة الصين وقطع الطريق عليها لضم جزيرة تايوان، وتزويد الأخيرة بأسلحة أشد فتكاً من قدرتها على استيعابه.

بيد أن انضمام الدولتين الاسكندنافياتين، السويد وفنلندا، إلى "الناتو"، تعترضه جملة معوّقات، على الرغم من الضخ الإعلامي المكثف بشأن حتمية موافقة كل أعضاء دول الحلف على الطلب المقدّم، أبرزها سريان مفعول معاهدة ثنائية بعدم الاعتداء بين روسيا وفنلندا، عقب الحرب العالمية الثانية في عام 1947 في باريس، تضمن وضعاً حيادياً لفنلندا في الصراعات الدولية، مدتها "أبدية perpetuity"، كما جاء في النص الأصلي للمعاهدة.

يُشار إلى أن الصراع الروسي مع فنلندا له جذور تاريخية تمتد منذ القرن الثاني عشر، ولاحقاً انضمت فنلندا إلى ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية وفتحت أراضيها ومياهها لجحافل الغزو في اتجاه أراضي الاتحاد السوفيتي، بحيث جرى استغلال قِصَر المسافة التي تفصل مدينة "ستالينغراد"، أي سان بطرسبورغ، 400 كلم، عن الشواطيء الفنلندية.

أدى حصار "ستالينغراد" الشهير إلى هلاك ما لا يقل عن مليوني إنسان، بعد استشراء الأوبئة والمجاعة، نتيجةً للعدوان النازي القادم من الأراضي الفنلدية والبولندية. وأبرمت معاهدة الحياد المذكورة بين موسكو وهلسنكي نتيجة هزيمة النازية، ودخول القوات السوفياتية عرين هتلر في برلين.

يشكّل طلب فنلندا عضوية حلف "الناتو" انتهاكاً صارخاً لنصوص المعاهدة السارية، بحسب القانون والعلاقات الدولية، نظراً إلى عدم إقدام أحد طرفيها على نقضها أو إنهاء العمل بها رسمياً. ما جرى، باختصار شديد، هو موافقة فنلندا على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وليس "الناتو" في عام 1995، وحافظت على وضعها الحيادي الدولي منذئذ، كما نصت المعاهدة إلى "الأبد".

أنصار معسكر الحرب في الولايات المتحدة يشيرون إلى مسألة "إجرائية" الطابع لتبرير تمدد "الناتو" عبر بوابة فنلندا، مفادها أن المعاهدة أُبرمت مع "الاتحاد السوفياتي"، الذي لم يعد له وجود، ولذا تسقط المعاهدة. حسم تلك القضية الإجرائية، استناداً إلى ضوابط العلاقات الدولية، هي برسم مجلس الأمن الدولي حصراً. كما أن فنلندا جددت توقيعها على معاهدة الحياد مع الاتحاد السوفياتي تباعاً لغاية 1983، ومع الاتحاد الروسي في عام 1992، وتعّهدت بموجبها الدولتان "تسوية النزاعات فيما بينهما بالوسائل السلمية"، تأكيداً لسياسة عدم الانحياز العسكري منذ ذلك الوقت.

الانضمام إلى حلف "الناتو" يعني، ببساطة، إعلان فنلندا حرباً على روسيا، والذي استدعى إطلاق روسيا رسائل سياسية قاسية، مفادها أنها "ستُضطر إلى اتخاذ خطوات انتقامية عسكرية – تقنية ونماذج أخرى، وتوسيع الأطلسي لا يجعل قارتنا أكثر استقراراً وأمناً".

يضم حلف "الناتو" 30 دولة، ويجب أن يحظى أي قرار فيه بالإجماع. من الناحيتين الشكلية والإجرائية، هناك عدد من الاعضاء لديهم تحفظات بشأن توسيع الحلف، وخصوصاً بعد تجربة أوكرانيا التي أنهكت الاقتصاديات الغربية.

سنعرض أبرزها للدلالة على العقبات المرئية:

تركيا: لا تزال حية في الذاكرة التركية معارضة كل من فنلندا والسويد عضويةَ تركيا في الاتحاد الأوروبي، وهو ما يفسّر جوهر تصريح منسوب إلى الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في 13 من ايار/مايو الحالي، ومفاده أن بلاده قد تستخدم حق النقض، كعضو في حلف "الناتو"، ضد مساعي قبول البلدين، كونهما بالذات "يدعمان حزب العمال الكردستاني".

في أحدث التطورات، أوضحت تركيا أنها قدّمت طلباً رسمياً إلى كل من السويد وفنلندا، يقضي بتسليم أنقرة عناصر مقيمة بالبلدين على خلفية علاقات تقيمها بحزب العمال الكردستاني، وتم رفض الطلب الذي يطالب بتسليم 12 عنصراً في فنلندا و21 عنصراً في السويد (وكالة الأنباء التركية، 16 أيار/مايو 2022).

من المرجّح إقدام الدولتين، فنلندا والسويد، على تشديد القيود السابقة على المهاجرين إلى اراضيهما، نتيجة اعتبارات داخلية، أهمها مواجهة ارتفاع موجة العنف والجريمة، ومن أجل التساوق مع توجه الاتحاد الأوروبي إلى وقف سيل الهجرة، الأمر الذي سيخدم تركيا في المحصّلة النهائية، نظراً إلى تواجد أعداد كبيرة من الكرد في الدول الاسكندنافية.

المجر: شهدت رئاسة فنلندا للاتحاد الأوروبي، في شهر تموز/يوليو 2019، شنّ موجة من التوترات الإقليمية ضد المجر، الأمر الذي استدعى هجوماً مضاداً تناولته بعض الصحف الأوروبية بعنوان: "فنلندا، العدو الجديد للمجر". رئيس الوزراء المنتخب للمرة الرابعة، فيكتور أوربان، لا يكنّ وداً لرئاسة الاتحاد الاوروبي، ويعدّ أن هدف تدخله في الشؤون الداخلية لبلاده هو "تقليص سيادة دول الاتحاد". واتهمه مجدداً، في احتفالات أداء القسم، 16 أيار/مايو الجاري، بـ"سوء استخدام سلطته بصورة يومية، وأنه يريد أن يفرض علينا أجندته التي نرفضها". ولا تزال المجر على موقفها الرافض عضوية فنلندا.

ألمانيا وفرنسا: تسعى الدولتان للوصول إلى تسوية مع روسيا، ولا ترغبان في التصعيد معها، كما يُفهم من تصريحات سابقة للرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، مفادها أن "انضمام أوكرانيا إلى الناتو قد يستغرق 10 أعوام"، وهو ما يؤشر على استبعاد نجاح انضمام فنلندا والسويد.

في ضوء ما تقدّم من اعتراضات محتملة، استغل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، لقاءَه وزراءَ خارجية حلف "الناتو" في برلين، 15 ايار/مايو الجاري، للإعراب عن ثقته بمحاولة الانضمام قائلا: "ستدعم الولايات المتحدة بقوّة طلب كلّ من السويد وفنلندا الانضمام في حال ترشّحهما رسمياً لعضوية الحلف، واثق بشدة بالتوصل إلى إجماع على ذلك".

الموقف الأميركي لا يعوّل كثيرا على "رفض" تركيا عضوية الدولتين، فنلندا والسويد، كونه يأخذ بفي الحسبان التوازنات الجيو-سياسية في الإقليم، وخصوصاً أن تمدّد حلف الناتو من شأنه "إضعاف روسيا"، الخصم التقليدي لتركيا، وسيعزّز موقف تركيا داخل حلف "الناتو"، بعد سلسلة توترات مع أعضائه منذ تولي الرئيس إردوغان مهمّاته الرسمية. يُضاف إلى ذلك موقف تركيا المؤيّد لأوكرانيا، وتزويدها بطائرات "درون" تركية الصنع خلال الأزمة الراهنة. أيضاً، سيفرض توسّع رقعة الناتو على روسيا نَشْرَ قوات في جبهة جديدة بعيداً عن حدودها مع تركيا، وربما تقليص وجودها العسكري في سوريا، بحسب القراءة الأميركية.

السؤال المحوري هو: هل هناك مبرّر لبسط "الناتو" مظلة حمايته على كل من فنلندا والسويد، اللتين تعايشتا مع "الوضع الحيادي الراهن" منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟ بعض عناوين الإجابة الموضوعية نجدها بين طيّات مراكز الأبحاث الأميركية، على الرغم من قلة عددها، والتي تعدّ المحاولة بمنزلة "دق إسفين في نعش استقلالية أوروبا"، وتبعيتها التامة لواشنطن في صراعاتها الكونية، وهي التي تنظر بازدراء إلى دول الاتحاد الأوروبي، كما فعلت نائبة وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند، عبر قولها: فليذهبْ الاتحاد الأوروبي إلى الجحيم.

السؤال الاخر هو: ماذا ستقدم الدولتان من إضافات نوعية إلى حلف "الناتو"؟ الإجابة، بحسب هؤلاء، "لا شيء، وعضوية الناتو ليست ضرورية لحفظ أمنهما". كما أن فنلندا بالذات ستضحي بمنزلتها المفضّلة كوسيط بين روسيا والدول الغربية، وتُنعش عقلية الحرب الباردة.

في المدى المنظور، ماذا سيحلّ بتلك الدول وترتيباتها المستعجلة عند تسلّم دونالد ترامب مهمّات ولاية رئاسية ثانية، أو أي مرشّح آخر غيرة، ذي مواصفات موازية؟ بل، هل سيعزز الرئيس المقبل أوهام الناتو بأن "روسيا أضحت دباً من ورق"، وينبغي المضي في الصراع معها إلى النهاية؟ أي استعادة المعادلة الصفرية لدى مراكز القوى التقليدية الأميركية.

مجدداً، لا يعني توسيع ساحات الاشتباك بالضرورة نجاح المراهنة عليها، بقدر ما هو محاولة لصرف الانظار عن تطورات الساحة الرئيسية، الا وهي اوكرانيا، التي بات المواطن الغربي يئنّ من وطأتها الاقتصادية، بصورة مباشرة.

هذا لا يعني تخلّي واشنطن عن توتير الجغرافيا المحيطة بروسيا، في أي وقت قريب، بقدر ما يؤدي ذلك الجهد والاشتباك اإلى تسوية تلك المسائل على طاولة المفاوضات، مهما طال أمد انعقادها، كما هي نهاية كل الصراعات الدولية.

* نشرة التقرير الأسبوعي لمراكز الابحاث الأميركية

اضف تعليق