q
الخطأ الكارثي الذي ارتكبته الحكومة حينذاك بيعها المشروع للقطاع الخاص جراء تدهور أحوال الدولة الاقتصادية أثناء الحصار، ثم نهبه في (هبة) الفرهود التي تعرفون بعد 2003 لنظل مستوردين ومستهلكين لبيض التفقيس والمائدة، بعدها لم أسمع حديثا عن جيل عراقي لأمهات الدجاج، لا من وزارة الزراعة ولا من غيرها...

بحرص شديد فكرنا في إيجاد جيل عراقي للأمهات، سنوات طويلة مرت ونحن نستورد أفراخ الدجاج من هولندا والدنمارك وفرنسا بالعملة الصعبة وبطائرات خاصة في مشروعنا الذي تمكن من تزويد جميع الحقول الحكومية بدجاج بيض المائدة من زاخو وحتى الفاو.

لقد تحكم الغربيون بالجينات الوراثية لأفراخ الدجاج من حيث ألوانها وكذلك بيضها بعد أن تكبر، فلون الذكور صفراء بينما الإناث حمراء، ويصلح بيضها للتفقيس مرة واحدة فقط، والدجاج الناتج عنه لبيض المائدة، أي للاستهلاك ولا يصلح للتفقيس، وهكذا ينتهي الجيل في أقل من ستة أشهر، لنعاود الاستيراد، وهكذا أُهدرت أموال طائلة لعقد ونصف قبل مباشرة المختصين في المراكز البحثية بالخطوات الأولى لإيجاد جيل عراقي، لكن المشروع تلاشى بعد الاحتلال بحسب علمي.

في هذا المقطع الزمني الذي عملت فيه بحقول دواجن الغالبية في محافظة ديالى بالتزامن مع اكمال دراستي الجامعية، وهو مشروع بنته شركة فرنسية في أواخر السبعينيات، وباشر بالإنتاج في بداية الثمانينيات، وتكّون من ستة حقول لتربية الأفراخ المستوردة، في كل حقل ثلاثة قاعات، ومفقس واحد من (72) حاضنة و(12) مفقسة، وسيارتان مبردتان لنقل الأفراخ بين حقول المشروع والمحافظات، في هذه المدة التي استغرقت ستة سنوات قبل الالتحاق بالعسكرية، اكتسبت خبرة ثرية من هذا المشروع الصغير بحجمه والكبير بإنتاجه، واستمتعت بنجاحاته، وتعلمت دروسا من الأشخاص الذين كلفوا بإدارته.

وعندما أخبرت الادارة بقبولي في الجامعة واضطراري لترك العمل، رفضت ذلك، والسماح لي بالذهاب الى الجامعة صباحا، وتكليفي بإدارة المفقس بعد الظهر وتسليمه صباح اليوم التالي لمديره الرسمي المهندس جبار عبد علي الذي تعلمنا منه درس الشغف بالعمل مهما كان طالما هو باب للرزق، جبار عبد علي او أبو عمر كما كان يُعرف مثال للوطنية، ليس بالكلام او الشعارات، بل ترجمها الى سلوك، نموذج مثالي للحرص على المال العام، وعلى تعليم العمال الأخلاق المهنية والانسانية، واكسابهم المهارات التي يقتضيها العمل، هذا الرجل الذي لا أعرف أين حل به الدهر الآن، اذ مضى على افتراقنا ما يقرب الأربعين عاما لم يبخل على متابعة العمل بوقته أثناء دوامه الرسمي او خارجه، وبالرغم من الكميات الهائلة من البيض والدجاج الذي نعمل في وسطه، لكني لا اذكر أبدا انه أخذ شيئا منه لبيته، فرأينا فيه النزاهة والتواضع، فيدهشنا قيامه بأعمال التنظيف عندما يكون العمال مشغولين بعمل آخر، فصرنا لا نستنكف من أي عمل مهما كان في مفقسنا.

الادارة الناجحة لهذا الرجل العراقي الأصيل جعلت من المشروع الأول عراقيا، وطوال عملي معه لم تقل نسبة الانتاج عن (90) وبلغت أعداد الأفراخ بعد التفقيس بين يوم وآخر (180) ألف فرخ دجاج، فزود جميع حقول دواجن المحافظات بالأفراخ الإناث، في حين تُهمل الذكور، لأن تكاليف تربيتها أضعاف تربية الإناث من حيث العلف، ولا تصل الى الوزن المطلوب (كيلو ونصف) ضمن مدة (45) يوما، وحقق هذا الانتاج اكتفاء ذاتيا للحقول الحكومية، وعدم الاستيراد من الدول المجاورة.

وبالرغم من ان الشركة المؤسسة للمشروع لم تخصص مساحات لزراعتها بالمحاصيل العلفية، الا ان الادارة استثمرت الأراضي المتاحة لهذا الغرض، فضلا عن انشاء بحيرات لتربية الأسماك، وتحويل الفائض منها الى بروتين يخلط مع العلف، ووظف المشروع أعدادا كبيرة من شباب القرى المجاورة ومن الجنسين، ولا تسعفني الذاكرة على تحديد عددهم.

الخطأ الكارثي الذي ارتكبته الحكومة حينذاك بيعها المشروع للقطاع الخاص جراء تدهور أحوال الدولة الاقتصادية أثناء الحصار، ثم نهبه في (هبة) الفرهود التي تعرفون بعد 2003 لنظل مستوردين ومستهلكين لبيض التفقيس والمائدة، بعدها لم أسمع حديثا عن جيل عراقي لأمهات الدجاج، لا من وزارة الزراعة ولا من غيرها. لا أظن يرضى السياسيون التجار بالحديث عن احياء مثل هذه المشاريع.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق