q
أعلنَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن بلاده لن تقبل ببيع صادرات الغاز إلى من وصفها بالدول غير الصديقة إلا بالعملة المحلية الروبل، هذا يعني أن روسيا قد قرّرت من خلال هذا الإجراء الإنتقال إلى مرحلة الضغوط المضادة على البلدان الأوروبية تحديدا، في محاولة لتخفيف تأثير العقوبات القاسية المتخذة ضدها...

أعلنَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن بلاده لن تقبل ببيع صادرات الغاز إلى من وصفها بالدول غير الصديقة إلا بالعملة المحلية الروبل، هذا يعني أن روسيا قد قرّرت من خلال هذا الإجراء الإنتقال إلى مرحلة الضغوط المضادة على البلدان الأوروبية تحديدا، في محاولة لتخفيف تأثير العقوبات القاسية المتخذة ضدها، وفي ذات الوقت دعم قيمة العملة المحلية (الروبل) التي تعرضت لتراجع غير مسبوق نتيجة هذه العقوبات.

وهذا قد يعني أيضاً.. أن روسيا تدرك نقاط ضعف البلدان الغربية حيال عنصر الطاقة، و"الهستيريا" التي يمكن أن يتسبب بها حدوث ركود اقتصادي تاريخي فيها، مما سيدفع صنّاع القرار فيها إلى العودة إلى التفاوض معها، منعا لمزيدٍ من التدهور.

قد تكون هذه "التدابير" في الأجل القصير بمثابة فرصة تاريخية لوقف ربط الاقتصاد الوطني بالدولار. و على المدى القصير، فإنّ من المفترض أن يؤدي هذا القرار إلى زيادة الطلب على العملة الروسية، لأن المشترين "المُدمنين" على الغاز الروسي لن يكون لديهم خيار آخر.. وعلى وفق ذلك، فإن زيادة معينة في قيمة الروبل ستكون ممكنة تماما، وهو ما بدأ يبرز فور الإعلان عن هذه الخطوة، رغم استبعاد أن يعود سعر الروبل إلى مستويات أوائل فبراير/شباط 2022.

ولكن هذه "التدابير" قصيرة الأجل، قد تكون متعددة الأبعاد في تأثيراتها على المدى الطويل، فقد يصبح المشترون غير الراضين عن التغييرات في شروط العقود أكثر إصرارا على ترجمة "رغبتهم" بالتحوّل، إلى تحوّل "فعلي" بإتّجاه مورِّدين بديلين لواردات الطاقة الروسية. وفي الوقت ذاته، قد تكون هذه الخطوة الروسية غير المسبوقة بمثابة ذريعة للبلدان الأخرى التي تُصدِّر أيضاً موارد الطاقة للآخرين لكي تتفاوض مع المُستورِدين بشأن الأسعار، وآليات الدفع بعملاتها الوطنية.

منحَ الرئيس الروسي "الدول غير الصديقة" مُهلةً لغاية 31 مارس/آذار 2022 لتحويل المدفوعات مقابل الغاز إلى الروبل... ثمّ عاد الكرملين وأعلن لاحقاً أن عملية الانتقال إلى الدفع بالروبل مقابل الغاز الروسي ستستغرق وقتا طويلا، وأن الآلية الجديدة لن تبدأ في 1-4-2022، كما أُعلن سابقا.

إلى الآن، هذا صحيح، وصحيح جدّاً، بل أنّني قد نقلتُ جزءاً كبيراً منه عن "مُحلّلين" مُوالين لروسيا في موقفها الراهن من "الغرب".

غير أنّ هذا لا يجب أن يعني "الإستعجال" في الإعلان عن "انهيار" الدولار واليورو، والتهليل لـ "ميلاد" نظام مالي عالمي جديد، و"التبشير" بتقويض سريع لسيطرة الدولار على الاقتصاد العالمي (باعتباره عملة التسويات المالية الدولية الرئيسة) منذ منتصف القرن الـ20.. ولا يجب أن يعني صعود "اليوان" الصيني، أو الروبل الروسي (أو كلاهما) كعملات تسويات ماليّة دولية، بمجرد أن يندحر الدولار (وهو سيندحِر قريباً، وقريباً جدّاً، لأنّهُ يترنّح الآن !!!) أمامَ "ضربة المُعلِّم" البوتينيّة.

كما أنّهُ لا يجب أن يعني الإستعجال بالإحتفال بانتصار الإمبريالية الصينية -الروسية- الهندية على الإمبريالية الأمريكية -اليابانية -–الأوروبيّة.. لأن ذلك كُلّه سيتوقّف على مدى قدرة روسيا على إنفاذ قرارها بهذا الصدد، وليس على "جموحنا العاطفي" حيال قضايا مُعقدّة وحسّاسة وخطيرة كهذه.

و من خلال قراءة الكثير من التحليلات والدراسات (ومنها لكتّاب روس موالون لسياسات الرئيس الروسي) ، يمكن استنتاج أن القرار الروسي حول تسديد قيمة صادرات النفط والغاز الروسيّان الى أوروبا بالروبل لن تكون له آثار كبيرة، وحاسمة، سواء على قوّة وهيمنة الدولار كعملة دولية، أوعلى مقدرات سوق النفط العالمية.

ويتضح ذلك من خلال الاستثناء "الروسي" في حيثيات هذا القرار، والوارد في أمرين:

الأول: أن هذا القرار لا يسري على العقود المبرمة بين روسيا ودول أخرى خلال الفترة الماضية، وهو ما يعني أن العقود طويلة الأجل لن تخضع لقرار الرئيس الروسي.

الثاني: هو أن هذا القرار سوف يسري على صادرات الشركة الحكومية "غازبروم” (Gazprom)، ولن ينطبق على صادرات شركة "نوفاتيك " (Novatek) باعتبارها شركة خاضعة للقطاع الخاص، والاستثناءات بقدر ما هي تضعف قرار بوتين، فهي كذلك تفتح الباب لروسيا للخروج من ورطة عدم القدرة على التنفيذ.

وحسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، فقد بلغت صادرات السلع والخدمات لروسيا 481 مليار دولار و378 مليار دولار على التوالي في عامي 2019 و2020، كما بلغت واردات السلع والخدمات خلال الفترة نفسها على التوالي أيضا 352 مليار دولار و305 مليار دولار، وبما يعني أن روسيا كان لديها فائض تجاري مع العالم.

أمّا صادرات روسيا من النفط والغاز (حسب البيانات الرسمية الروسية) فقد بلغت بنهاية عام 2021 نحو 165 مليار دولار. وإذا ما افترضنا أن أوروبا تستوعب 50% من صادرات روسيا من النفط والغاز، فمعنى ذلك أن تعاملات الروبل للصادرات من النفط والغاز سوف تكون بحدود 85 مليار دولار، أو في أحسن الأحوال 100 مليار دولار، لأن القرار مُلزِم فقط للدول التي تؤيد فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا.

ومن هنا، لن يكون لقرار الرئيس الروسي في حالة نجاح تطبيقه سوى أثر محدود، و"معنوي"، يتلخّص في مجرد النجاح في فرض سياسة جديدة لـ "كسر هيبة" أميركا التي تحقّقها (بدرجة رئيسة كما تعتقد روسيا) من خلال سيطرة عملتها على النظام المالي العالمي.

لكن في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة من قبل أميركا وأوروبا، فإن الأوضاع مختلفة، وخاصة إذا عجلت أميركا بإبرام اتفاقها مع إيران، والذي سيمكنها في الأجل القصير من ضخ نحو 2 مليون برميل يوميا لسوق النفط، وهو ما يعني قرابة 40% من حصة روسيا التصديرية من النفط.

وقد تنجح أميركا في الضغط على السعودية والإمارات لضخ كميات إضافية، مما يعني أن إفشال خطة بوتين بالضغط على أميركا وأوروبا من خلال ورقة الطاقة بشكل عام هو أمرٌ واردٌ بنسبة كبيرة.

إنّ من مصلحة روسيا "استراتيجيّاً"، استمرار "إدمان" الأوروبيين على نفطها وغازها، وليس من مصلحتها دفع أوروبا للتخلّص سريعاً من هذا "الإدمان".

كما أنّهُ ليس بوسعِ أحدٍ (حتّى من المختصّين بإدارة الأدوات المُعقّدة للسياسة النقديّة) أن يُسوّقَ لنا (على نحو مهني و واضح ومُقنِع)، تلكَ "الآلية" التي ستعمل على وفقها، وستنجَح أيضاً، "أطروحة" السيد بوتين والتي مفادها: اشتروا غازنا ونفطنا بالروبل.. فإذا لم يكن لديكم روبل.. اشتروا الروبل من البنك المركزي الروسي.. وخذوا هذا الروبل، وسدّدوا به قيمة عقود تجهيزكم الموقّعة معنا أصلاً باليورو والدولار!!!

قد يكون هذا الإجراء الروسي ناجحاً في إرباك "الأعداء" في الأجل القصير، ولكنّهُ قد يكونُ أيضاً مجرّد "حماقة" سياسية - اقتصادية صرفة، وليس "تكتيكا" بارعاً، يؤسّس لستراتيجية قادرة على تقويض الهيمنة الإقتصادية الأمريكية على المدى البعيد.

إنّ "مُقاربة" كهذه قد تكون صحيحة ومُجدية ومُنتِجة مع دُول "صديقة" (كالصين والهند وإيران)... ولكنها مُستحيلة وضارّة ومُنهِكة اذا استخدمت لمواجهة اقتصادات دول "عدوّة"، أكثر تقدّما وقُدرة من الاقتصاد الروسي بكثير.

إنّ روسيا بإجراءاتها هذه، قد دفعت "الغرب" للتفكير على نحوٍ جدّي في البحث عن وسائل للخلاص من "تبعيته" المُفرطة لمصادر الطاقة الروسية. وهكذا فبدلاً من أن تعمل روسيا على "تعميق" هذه التبعية، فهي قد عملت على "تفكيكها".

وفي مواجهة ذلك قام "الغرب"، و بشكل سريع، بتشكيل لجنة أوروبية - أميركية مشتركة للبحث في إمكانية ايجاد بدائل لأوروبا في مجال الطاقة للاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية. وبالفعل اتخذت الولايات المتحدة قرارا يتضمن قيامها بمد أوروبا بنحو 15 مليار متر مكعب من الغاز المسال خلال عام 2022، وهو ما يعني العمل على تخفيف وطأة الأزمة على أوروبا، وفي الوقت نفسه يقلل من قيمة وخطورة الخطوة التي اتخذها بوتين.

وقد يكون من نتائج هذا القرار الأمريكي إعلان دول البلطيق قرارها بوقف استيراد الغاز الطبيعي من روسيا ، ممّا يفرضُ مزيداً من القيود على صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، وليس العكس.

ثمّ جاء قرار الولايات المتّحدة بضخ مليون برميل يومياً من مخزونات الإحتياطي النفطي في السوق، للتعويض عن عجز روسيا في الإيفاء بالتزاماتها، وهو القرار الذي يُتوقّع أن تتّخذهُ دول أخرى منتجة للنفط والغاز خارج "أوبك"، و"أوبك بلس"، ومنها بلدان تقع في أوروبا ذاتها.

وخلال التاريخ، علّمتنا السلوكيات الدكتاتورية الكثير من الدروس والعِبَر، ومنها أنّ "الزعامات" الدكتاتورية، تُفضِّل استخدام اسلوبِ الصدمة وترويع "الأعداء" وإرباكهم في الأجل القصير، وأنّها على استعداد للمضي قدماً فيما تعتقد أنّهُ يحقّقُ لها هذا الهدف، دون أن تولي أيّ اهتمامٍ يُذكَر لمصالح شعوبها وبلدانها في الأجل الطويل... بل أنّها تتجاهلُ حتّى ذلك "المصير الشخصيّ" البائس، الذي يمكن لحماقاتها هذه (أو ماشابهها)، أن ترمي بتلك "الزعامات" فيه.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق