q
ما هو دورك في مكافحة هذه العصابات، وأين حلولك، ولماذا هذا الصمت والتراخي عن ظاهرة يمكن أن تدمّر أجيالا بأكملها؟، حتى المجتمع نفسه بات عاجزا عن المساهمة في بعض الحلول، نحن نمتلك الأموال والعقول لمكافحة هذه الظاهرة، لكن لا توجد إرادة صادقة وحرّة ومخلصة لمكافحتها...

قبل سنوات بعيدة تفوق العقد، كنت أتجول في عاصمة أجنبية، فرأيت مجموعة من الأطفال ذكور وبنات، يرتدون ملابس أنيقة تتكون من قميص أبيض وبنطلون أو تنورة بلون أسود غامق، ويضعون على زنودهم إشارات وكلمات تدل على أنهم فرق جوالة تساعد رجال المرور في تنظيم حركة السيارات والمارّة.

أعادني منظر أولئك الأطفال إلى إشارات المرور في شوارعنا وإلى تقاطعات الطرق، وسرعان ما تمت المقارنة في ذاكرتي بين أطفال تلك العاصمة وعاصمتنا، فهناك كان الأطفال يتدربون على العمل الطوعي المنظّم، وأشكالهم تسرّ الأنظار والقلوب، وكانت وجوههم متوردة وعيونهم تشعّ بالأمل.

أما أطفالنا فهم عبارة عن مجموعة من المتسولين المشرّدين، بوجوه ذابلة وعيون مطفأة وملابس رثة، وقلوب ضعيفة تكره الحياة ولا ترى فيها أملا لمستقبل أفضل من واقعهم، إنهم أطفال الشوارع والتقاطعات وأطفال إشارات المرور، منهم الباعة أو الشغّيلة المقنّعون، باعة أشياء لا يحتاجها أحد ولا تُشترى، ومنهم من يبادر برش (جامة) السيارة الأمامية غصبا عن السائق وغصبا عليه أن يدفع لهم حرجا أو رأفة بهؤلاء الأطفال المتسولين والمشرَّدين.

وفي ظل الاهمال المتصاعد للطبقة الفقيرة، تتصاعد أعداد الاطفال الذين يفقدون فرص الدراسة، ويُجبرون على الانخراط في مهن وأعمال صعبة لا تناسب قواهم العضلية وأجسادهم المصابة بالهزال وشتى الامراض، بسبب الجوع والارهاق والعمل لساعات طويلة تحت لهيب الشمس ولهاث الانفاس المتقطع نتيجة لدفع عربات الحمل الكبيرة، أو سواها من الاعمال الشاقة

عمالة الاطفال واقع حال فرض نفسه بقوة على الطفل العراقي، بسبب الاهمال الحكومي الغريب لمعالجة أوضاع المدن والاحياء الفقيرة والاسر التي تفقد معيلها الاساسي بسبب العنف والارهاب او سواه، فتدفع الام بأطفالها الصغار الى الشوارع والساحات العامة والاسواق لكي يعودوا لها بما يسد الرمق.

ومع اجواء العمل والزحام وتداخل العلاقات والاستغلال الذي يحدث لهؤلاء الاطفال، تبدأ الدعارة تكشر عن انيابها، فتطيح بمعظم الباعة الاطفال الذين يضطرون لبيع اجسادهم مقابل مبلغ معين يعود به للبيت لكي يُسكت فم الام او الاب العاجز او اللامسؤول،

لا أحد يعبأ بأوضاعهم، ولا احد يهتم اطلاقا لبؤسهم، أو للجوع الذي يغرس أنيابه في أجسادهم النحيفة، ولعل علامة الاستغراب الكبيرة أو التساؤل المفجع يشير بقوة الى اهمال الجهات المعنية لهذه الشريحة وللفقراء عموما، في ظل ميزانيات مليارية لم يسبق للعراق أن حصل عليها أو أقرها عبر تأريخه الحديث او القديم.

إننا من جهة نرى المليارات تتكدس في خزينة الدولة عبر الموازنات المتلاحقة سنويا، يقابلها فشل ذريع في استخدام هذه الاموال، في ظل موجات السرقة والتجاوز المتفاقم يوميا على المال العام، مع ضعف في القانون الرادع، وفشل الجهات الرقابية والتفتيشية والنزاهة في الحد من حالة افتراس الحيتان للمال العام.

في هذا الوقت يتشدق السياسيون (كتل واحزاب وشخصيات سياسية وسواها) بالحرص على الشعب وحماية الناس من الجوع، فيما أصبحت الدعوات التي يطلقها بعض الكتاب والمفكرين والمصلحين من رجال الدين والحوزات الدينية، لا تشكل مصدر قلق للمسؤولين، ولا تعنيهم بشيء، ويبدو هذا واضحا من خلال اهمال المسؤولين لهذه الدعوات التي تحثهم على ضرورة معالجة اوضاع الفقراء.

ومن هذه الحالات الاطفال المشرّدون وفقدانهم لفرص الدراسة وتعرضهم لأخطار الدعارة مرغمين، بسبب تحملهم مسؤولية إعالة عوائلهم الفقيرة، وبالتالي يسقطون بوسائل الترهيب والترغيب والعوز، في حبائل اللواط وظواهر الانحراف الاخرى، كالتحول الى سرّاق ومجرمين ومحتالين وغير ذلك.

لا ريب أن هذا الإهمال الحكومي وحتى المجتمعي يصنع قواعد ودوافع خطيرة للانحراف، لأن اطفال (العمالة/ الدعارة) يتزايدون، لاسيما أننا لم نلمس خططا اجرائية واضحة ومنتظمة، تقوم بها جهات او دوائر رسمية تعمل على معالجة خطر عمالة الاطفال بدقة وسرعة مطلوبتين.

على العكس من ذلك، هناك اهمال منقطع النظير لهذه الظاهرة الخطيرة، في ظل تكالب السياسيين على المنافع والمناصب وانشغالهم التام بصراعاتهم المتواصلة مع اغفال متواصل للشعب والفقراء على نحو خاص.

الغريب أن الجميع يتحدث عن هذه الظاهرة، وأول المتحدثين والمشيرين له هم المسؤولون عنها، وأقصد بذلك الجهات الحكومة ذات العلاقة، مثل وزارة الشباب وسواها من الوزارات المعنية بشؤون الأطفال والمشردين والفقراء.

ما هي آفاق الحل؟؟، سؤال لا أحد يريد أن يزج نفسه فيه، حتى من لهم مسؤولية مباشرة مع هذه الظاهرة يصمتون، أو يتغافلون عن ذلك، وكأنهم لا يملكون عيونا تمر يوميا بتقاطعات الطرق وإشارات المرور، بعضهم يعزوا هذه الظاهرة إلى عصابات ومافيات وكذا، وبهذا هو يدين نفسه بنفسه.

ما هو دورك في مكافحة هذه العصابات، وأين حلولك، ولماذا هذا الصمت والتراخي عن ظاهرة يمكن أن تدمّر أجيالا بأكملها؟، حتى المجتمع نفسه بات عاجزا عن المساهمة في بعض الحلول، نحن نمتلك الأموال والعقول لمكافحة هذه الظاهرة، لكن لا توجد إرادة صادقة وحرّة ومخلصة لمكافحتها.

الكل مشغول بنفسه ومصالحه وعائلته وأمواله وثرواته، وكيف يجني أكثر قد ممكن من الأموال، ولا مشكلة في طريق كسبها، ولا يعنيه المشردين أو المتسولين أو المتسربين من المدارس، ولا يهمه أن تنشأ طبقة من المجرمين مستقبلا مستعدة لتدمير المجتمع وحياته لأنها حاقدة عليه بسبب إهمال الجميع لهم حين كانوا أطفالا يستجدون الـ (ربع دينار) ولا أحد يهتم لهم.

لابد من وقفة وإن كانت متأخرة، لوضع الحلول الصحيحة بعد الدراسة الصحيحة لكثرة أطفال إشارات المرور، ومضاعفة أعدادهم بدلا من تقليصها، الحلول موجودة والموارد موجودة، لكن يجب أن تتوفر الإرادة القوة للقضاء على هذه المشكلة.

اضف تعليق