q
مرَّ عامٌ على هبوط «بيرسيفيرانس» Perseverance، المركبة الفضائية الجوَّالة التابعة لوكالة «ناسا»، على سطح المريخ. وخلال هذا العام، قطعت المركبة ما يزيد على ثلاثة كيلومترات على تضاريس الكوكب الصخرية، وسجَّلت أول رحلة جوية لطائرة مروحية فوق سطح الكوكب، كما تمكنت من جمع ستّ عينات ثمينة من صخور الكوكب...
بقلم: ألكسندرا ويتزي

مرَّ عامٌ على هبوط «بيرسيفيرانس» Perseverance، المركبة الفضائية الجوَّالة التابعة لوكالة «ناسا»، على سطح المريخ. وخلال هذا العام، قطعت المركبة ما يزيد على ثلاثة كيلومترات على تضاريس الكوكب الصخرية، وسجَّلت أول رحلة جوية لطائرة مروحية فوق سطح الكوكب، كما تمكنت من جمع ستّ عينات ثمينة من صخور الكوكب. إذا جرت الأمور على ما يُرام، سوف تُرسل لاحقًا – ضمن كثيرٍ من العينات الأخرى – إلى الأرض لدراستها.

حطَّت المركبة «بيرسيفيرانس» يوم الثامن عشر من فبراير عام 2021 على سطح المريخ عند «فوهة جيزيرو» Jezero Crater الصدمية، الواقعة شمال خط الاستواء المريخي مباشرة، في مهمة للبحث عن دلائل على وجود حياة سابقة. وكان المركبة الجوَّالة، التي تكلف تصنيعها 2.7 مليار دولار أمريكي، معدةً للتنقيب عن هذه الدلائل في موقع دلتا نهر قديم، حيث خلّف النهر، الذي كان يمر عبر الفوهة الصدمية، صخورًا وترسيبات يُحتمل أن تكون قد شكَّلت فيما مضى بيئة صالحة لنشوء الحياة. وحتى الآن، لم تتمكن المركبة من بلوغ تلك المنطقة.

عوضًا عن ذلك، أمضَتْ المركبة «بيرسيفيرانس» العام الماضي في الدوران حول قاع الفوهة الصدمية، فأثمر ذلك حشدًا من الكشوف العلمية المذهلة؛ منها أن قاع فوهة «جيزيرو» يتكون من صخور نارية، تشكَّلت عند برودة الصخور المنصهرة، ومن ثمَّ تيبُّسها قبل مليارات السنين. وكان بعض الباحثين فيما قبل يتوقعون أن يكون قاع «جيزيرو» مكوَّنًا من صخور رسوبية، تشكلت في صورة طبقات على مدار الزمن بفعل الرياح أو المياه، ولكن المركبة الجوَّالة استطاعت اكتشاف قصة أخرى وراء تضاريس المنطقة.

للصخور النارية أهمية كبرى، لأنها تتيح للباحثين دراسة درجة الاضمحلال الإشعاعي الذي يصيب العناصر المكونة لها، ومن ثم تحديد عمر هذه الصخور. ولذلك، فعندما تصل العينات التي التقطتها «بيرسيفيرانس» إلى الأرض – حالَ تمكُّن الباحثين من تحقيق ذلك – فسوف يكون بمقدور الباحثين، لأول مرة في التاريخ، تحديد عمر الصخور الملتقَطة من أماكن بعينها من سطح كوكب المريخ.

لم يدُر في خاطر الباحثين المشاركين في هذه البعثة الفضائية، قبل هبوط المركبة «بيرسيفيرانس» على سطح الكوكب الأحمر، أنهم على وشك تحقيق كشف بركاني مذهل. تقول كيتي ستاك مورجان، نائبة رئيس البعثة للبحث العلمي بمختبر الدفع النفاث (JPL) في مدينة باسادينا بولاية كاليفورنيا الأمريكية: "لقد زوَّدَتنا فوهة «جيزيرو» بمعلومات هامة". فقد اكتشف الباحثون أن قاع فوهة «جيزيرو» له طبيعة مغايرة لما كانوا يعتقدون وقتما بدأت المركبة الجوالة في الحفر لاستخراج أولى العينات في شهر أغسطس الماضي.

ماضٍ ناريّ

أثناء استكشافها لطبيعة المنطقة الجيولوجية على سطح المريخ، سحقت المركبة «بيرسيفيرانس» قطعة من إحدى صخور المريخ، فبدا سطح تلك الصخور أشبه ما يكون بالصخور النارية الموجودة على سطح الأرض، وبه ثقوب محفوفة بالملح، ربما تكوَّن نتيجة لمرور المياه من خلال الصخور. دلَّ هذا الاكتشاف العلماء على أن تلك الصخرة التي التقطتها المركبة الجوالة صخرة نارية قديمة تعرضت للمياه؛ ما يعطي مؤشرًا على وجود بيئة صالحة للحياة فوق سطح المريخ، كما لم يحدث من قبل في تاريخ استكشاف الكوكب. تقول مورجان: "كانت تلك لحظةً فارقة في مسار البعثة الفضائية، فهذه المناطق مثالية لاستكشاف دلائل على وجود حياة قديمة في طيَّات الصخور".

ولكن عندما حاولت المركبة «بيرسيفيرانس» استكمال الحفر لالتقاط عينة صخرية، تفتَّتت وانزلقت من أداة جمع العينات الملحقة بالمركبة. ولأن عملية جمع العينات تتم آليًا، ودون تدخل بشري، فلم يعد بحوزة المركبة الجوالة في نهاية الأمر سوى أنبوب فارغ، غير أنه مغلق، وهو ما حاول باحثو البعثة تصويره بصورة إيجابية، فوصفوه بأنه عيَّنة من الغلاف الجوي لكوكب المريخ، تقول تانيا بوساك، عالمة البيولوجيا الأرضية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في مدينة كامبريدج الأمريكية: "ليس في وسعك أن تضع لكوكب المريخ قائمةً بما تريد اكتشافه؛ بل هو ما يقرر ماذا يمنحك".

وبعد مرور شهر على تلك الواقعة، نجحت المركبة «بيرسيفيرانس» في الحفر والتقاط أول عيّنتين من صخور بركانية مشابهة للأولى، تغيرت طبيعتها بفعل المياه (انظر الشكل: جمع العينات من صخور المريخ)، وتغطي هذ التكوينات الصخرية، المسماة «ماز» Maaz، مساحة واسعة من قاع فوهة «جيزيرو».

وفي أعقاب ذلك، تحركت المركبة «بيرسيفيرانس» في اتجاهي الجنوب والغرب، مطوقةً منطقة مغطاة بالكثبان، تسمى «سايتا» Seitah، حيث التقطت زوجين آخرين من العينات. (تجمع المركبة العينات في أزواج، لكي تزيد من احتمالية عودة واحدة منهما على الأقل إلى الأرض). كان الباحثون المشاركون في البعثة يعتقدون أن منطقة «سايتا» تحتوي على صخور رسوبية؛ ذلك أن مظهر الصخور من الخارج كان يوحي بأنها متعددة الطبقات. ولكن بمجرد أن طحنت «بيرسيفيرانس» بعض الصخور الملتقطة من منطقة «سايتا»، كانت مفاجأة أخرى في انتظارهم: اتَّضح أن تلك الصخور هي الأخرى صخور نارية.

باستخدام أدوات عدة لفحص التركيب الكيميائي للصخور، عثرت المركبة «بيرسيفيرانس» على حبيبات ضخمة من معدن يسمى «الزبرجد الزيتوني» olivine، مغلفة داخل معدن آخر، هو «البيروكسين» pyroxene، وهما موجودان بكثرة في الصخور النارية، والمناطق البركانية الأرضية. تؤكد مورجان أن ذلك يعد دليلًا على أن الصخور المكتشَفة في منطقة «سايتا» قد تكونت عندما بردت رقعة كبيرة من الصخور المنصهرة. ومن المرجَّح أن تكون بلورات «الزبرجد الزيتوني» قد تكونت أولًا، ثم هبطت نحو قاع الصهارة أثناء انخفاض درجة حرارتها، وأن معدن «البيروكسين» قد تكوَّن بعد ذلك حولها، ومن ثم تشكَّلت الصخور الطبقية الشبيهة بالصخور الرسوبية.

ويدل تكوين الصخور الملتقطة من منطقة «سايتا»، مثل صخور «ماز»، على تعرضها للمياه في السابق، بل لعلها تحتوي على جزيئات عضوية ربما نتجت عن عمليات غير بيولوجية، مثل تلك التي شوهدت في النيازك المريخية، وفقًا للنتائج التي أعلنتها إيفا شيلير، باحثة الجيولوجيا في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا بمدينة باسادينا الأمريكية، خلال اجتماع عقدته «الجمعية الأمريكية لعلوم فيزياء الأرض»، في شهر ديسمبر المنصرم.

الضغوط تتزايد

مهما يكُن من شيء، فإن المركبة «بيرسيفيرانس» مكلَّفة بجمع 30 عينة على الأقل من الصخور والأتربة والغلاف الجوي المريخي، وإيداعها في مكان واحد أو أكثر، إلى أن تتولى البعثات القادمة حملها عائدةً إلى الأرض، لتكون أول مرة تُجلَب فيها عيناتٌ من كوكب المريخ إلى كوكب الأرض. وسوف تكون عملية حمل العينات إلى الأرض عمليةً طويلة ومركَّبة؛ إذ تتطلب إرسال جوَّالة أخرى لانتشال العينات، وصاروخ لإطلاقها في مدار كوكب المريخ، ومركبة فضائية لالتقاطها وحملها جوًا إلى الأرض، وهو ما لن يحدث قبل حلول عام 2031. وتتعاون وكالة «ناسا» و«وكالة الفضاء الأوروبية» في تنفيذ هذه المهمة، حيث أعلنت «ناسا» خلال الشهر الماضي عن تعاقدها مع الجهة التي ستتولى تصنيع الصاروخ المنوط به إطلاق العينات في مدار كوكب المريخ.

تقول ميناكشي وادوا، المتخصصة في علوم الكواكب بجامعة ولاية أريزونا في مدينة تيمبي الأمريكية، وهي الباحثة الرئيسة المسؤولة عن جلب العينات من كوكب المريخ في وكالة «ناسا»: "يملؤني الحماس لأننا أخيرًا بدأنا أولى خطوات جمع العينات، وربما ننجح في جلبها من المريخ فيما بعد".

وعلى الرغم من النجاح الذي حققته المركبة «بيرسيفيرانس» حتى الآن، فإن الضغوط تتزايد إذ يُفترض بها إنجاز المهمة التي طال انتظارها، والمتمثلة في الوصول إلى دلتا النهر القديم. والحقُّ أن المركبة تسعى إلى بلوغ تلك البقعة بأقصى ما لديها من سرعة، علمًا بأنها قد حققت خلال الشهر الماضي بالفعل سرعة قياسية في التحرك فوق سطح المريخ، حيث قطعت 240 مترًا خلال يوم واحد. وبالرغم من ذلك، فليس من المتوقع أن تصل المركبة إلى الدلتا قبل حلول شهر إبريل.

عامل الوقت مهم، إذ لم يتبق أمام «بيرسيفيرانس» سوى سنة أرضية واحدة، لتحقق خلالها المهمة الأساسية الموكلة إليها، وهي الوصول إلى الدلتا، وجمع العينات من هناك، والصعود إلى حافة الفوهة الصدمية لوضع العينات، تمهيدًا لالتقاطها لاحقًا. خلال الفترة الحالية، تتخذ المركبة طريق العودة إلى الموقع الذي حطَّت فيه. وحالما تصل إلى هذه النقطة، فسوف تقوم بدورة حول المنطقة المغطاة بالكثبان، لتصل إلى الدلتا. الجدير بالذكر أن المركبة «بيرسيفيرانس» تعمل بسرعة أعلى من سابقتها، وهي المركبة الجوالة «كيوريوزيتي» Curiosity التي أنزلتها وكالة «ناسا» فوق المريخ عام 2012. تقول تصرح بوساك: "علينا ألا نتوقف عن الحركة".

صحيحٌ أن المهمة تسير حتى الآن على ما يُرام، إلا أنها تعرَّضت لبعض الأعطال الصغيرة، إلى جانب المحاولة الفاشلة لالتقاط العينة الصخرية بادئ الأمر. وفي ديسمبر، تساقط بعض الحصى أثناء عملية استخراج عينة صخرية، وتسبب ذلك في انسداد بعض الأجزاء التي تتألف منها أداة استخراج العينات في المركبة. ولكن المهندسين نجحوا لاحقًا في أن يجعلوا المركبة تهتز بصورة معينة، جعلت الحصى يتساقط لتنتهي المشكلة. كما صرَّح خوسيه أنطونيو رودريجز مانفريدي، الباحث الرئيس المسؤول عن أداة تتبع الطقس المُلحقة بالمركبة بمركز علم البيولوجيا الفلكية في العاصمة الإسبانية مدريد، إن الهبوب المفاجئ للرياح الشديدة خلال الأسابيع القليلة الماضية تسبب في تناثر الغبار والحصى الصغيرة داخل أجهزة استشعار الرياح، المثبَّتة في جسم المركبة، مما تسبَّب في إتلافها.

أما المركبة المرافقة للمركبة «بيرسيفيرانس»، وهي الطائرة المروحية الصغيرة المسماة «إنجينيوتي» Ingenuity، فلا تزال تعمل دون كلل. كانت هذه المروحية مصمَّمة في الأساس لتنفذ خمس طلعات جوية خلال 30 يومًا، ولكنها قامت حتى الآن بعدد من الطلعات الجوية بلغ 19 طلعة، قطعت خلالها مسافةً تزيد على 3.8 كيلومتر. ولو استمرت هذه المروحية بحالة جيدة، فسوف تتم الاستعانة بها في استجلاء المسارات التي ربما تتحرك فيها «بيرسيفيرانس» حالما تبلغ دلتا منطقة «جيزيرو»، لجمع المزيد من عينات الصخور، تقول بوساك: "العينات التي سوف تُجمع من منطقة الدلتا ستكون مبهرة. إنني أتطلع إليها بكل شغف.. حقًا، بكل شغف".

اضف تعليق