q
إن تسلل الشخصيات السينمائية إلى البيوت والدخول إلى غرف المعيشة والنوم، بدون استئذان، يؤكد الهزيمة النهائية لشبح الرقيب، الذي كان يفرض سطوته ورأيه ومعتقده على مضمون النص السينمائي، ولا يتورع عن الحذف أو الإلغاء أو الرفض الكامل لسيناريوهات بعض الأفلام، ولا يتردد في اقتطاع مشاهد ولقطات من الشريط السينمائي...

إذا كنت تنظر إلى الشاشة الذكية في بيتك باعتبارها (تلفزيون)، وإذا كنت تسمي جهاز الهاتف الذكي بـ (التلفون) واذا كنت تتحسر على انتهاء عصر صالات عرض الافلام المظلمة، وتستغرب من غياب جمهور السينما والمسرح، فلا شك أنك ما زلت تفكر بعقلية الماضي ولم تستوعب بعد ثورة الشاشة الواحدة المدمجة في القرن الحادي والعشرين!

التلفزيون والسينما والانترنيت اندمجت في الشاشات الذكية التفاعلية لترسم مشهداً اتصالياً جديداً يقوم على سقوط الحواجز واندماج الوسائط، فالشاشة الذكية الواسعة النقية المبهرة في صالة البيت والشاشة الصغيرة في جهاز الموبايل في جيبك تكاد تسألك في كل لحظة، ماذا يدور في عقلك؟.. ماذا تريد، ومتى وكيف تريد، ولماذا تريد، وأنت تطلب والشاشة تجيب في هذا الزمن العجيب!

التطورات التقنية الاتصالية خلال ربع قرن سبقت نظريات الاتصال التقليدية وأسقطت قلاع الاعلام المركزي المؤسساتي، ولم تعد ثمة مسافة بين الاتصال الفردي والاتصال الجماهيري، كما لم تعد هناك حواجز بين التلفزيون والسينما وتطبيقات الانترنيت ذات الوسائط المتعددة والتفاعلية!

قبل بضع سنوات، بثت إحدى القنوات الفضائية اعلاناً طريفاً، يردد من خلاله عدد من الفنانين العرب عبارة: "السينما جاية لحد عندك" وهو ما يؤكد أن جدران البيوت قد سقطت إلى الأبد، مثلما سقطت حدود الدول، أمام طوفان الاتصالات الرقمية، وأصبحت الخيارات مفتوحة أمام المشاهدين، بسبب تعدد قنوات البث التلفزيوني وتنوعها، ولعل من أهم الظواهر في عصر البث الفضائي، وقوع الزواج العرفي بين التلفزيون والسينما.

حيث أصبحت غرفة النوم أو غرفة الجلوس العائلية بديلاً عن قاعة العرض السينمائي، وأصبح جهاز التحكم (الريموت) يتيح للمشاهد التنقل، بدون قيود، بين محطات عديدة، تبث على مدار اليوم أفلاماً قديمة وجديدة، وتحولت متعة المشاهدة السينمائية إلى مشاهدة تلفزيونية سريعة وخاطفة ومتغيرة، ومن النادر أن تجد اليوم عائلة بأكملها تستغرق في مشاهدة فلم طويل يعرض في التلفزيون حتى النهاية.

على عكس ما كان يحصل في دور السينما، ذات الطقوس المعروفة، بين بداية العرض ونهايته، فالمشاهد التلفزيوني يتميز بالكسل والاسترخاء والملل، ولا يتوانى عن الانتقال بين قناة وأخرى، أو فلم وآخر، بحثاً عن لذة مفقودة، وسط خيارات غير محدودة، لا توفر الإشباع العقلي والنفسي، بقدر ما تثير الاضطراب والقلق والارتباك، وتؤدي إلى عدم التركيز، في فهم أي موضوع يعرض على شاشة التلفزيون، حيث تسود المتابعة السطحية المتسرعة، وسط ضجيج العائلة، والفواصل الإعلانية المتكررة، وقد تغيرت، وسوف تتغير الكثير من عادات المشاهدة، في ظل تطور التقنيات الإعلامية، ومن أبرزها التلفزيون التفاعلي، الذي يتيح، حرية الاختيار الفردي أمام المشاهدين، حيث يصبح هناك برنامج أو فلم لكل مشاهد، يطلبه حسب رغبته، وفي الوقت الذي يناسبه!

إن تغيّر طريقة التلقي وظروف المشاهدة، يُعد أحد مظاهر الثورة الاتصالية، التي تعتمد على الوسائط المتعددة، والتداخل بين المقروء والمسموع والمرئي، فضلاً عن الاندماج بين التلفزيون والحاسوب، الذي جعل من الاتصال عملية تفاعلية في اتجاهين(المرسل↔️المتلقي) في آن معاً!!

لقد وُصفَت السينما، منذ اختراعها قبل نحو قرن، بأنها (خدعة لذيذة) لأنها الفن الوحيد الذي يقوم على عملية خداع بصري ونفسي، تعتمد تماماً على خلق وهم لدى المشاهد بأن ما يشاهده هو حركة مستمرة، وليس مجرد صور ثابتة ومتعاقبة، تعرض بسرعة 24 صورة في الثانية الواحدة، بل وربما يتعجب البعض عندما يعلم أن نصف الوقت الذي يمضيه في مشاهدة فيلم ما، تكون خلاله الشاشة سوداء تماماً، بسبب تلك الفواصل السوداء بين كل إطارين متعاقبين (أي بين صورة وأخرى)، والتي لولاها لأصبح الفيلم مجرد غشاوة لا تناسب العين البشرية على الإطلاق!

لا شك أن تجربة مشاهدة الفلم السينمائي، في قاعة العرض تختلف تماماً عن مشاهدته عبر شاشة التلفزيون، من حيث مساحة الشاشة السينمائية، وحجم الشخصيات والمناظر والأماكن والمؤثرات الصورية والصوتية، فضلاً عن أجواء القاعة المظلمة والمحتشدة بخليط من البشر، الذين جمعتهم الرغبة في المشاهدة والمتعة الفنية، في وقت ومكان محددين، مقابل دفع مبلغ معين من المال.. هذه الظروف تجعل من العرض السينمائي (حفلة عامة) تفرض نوعا من الالتزام الاجتماعي على المشاهدين، في مراعاة الذوق العام واحترام تقاليد المجتمع ومشاعر الآخرين، الذين جمعتهم الصدفة السينمائية، في حين ينزوي مشاهد التلفزيون في غرفته، أمام شاشة ضيقة، وربما يتحكم في موعد المشاهدة ومدتها، ولا يخضع لأية قيود اجتماعية، سوى ظروفه العائلية وحدها!

إن تسلل الشخصيات السينمائية إلى البيوت والدخول إلى غرف المعيشة والنوم، بدون استئذان، يؤكد الهزيمة النهائية لشبح الرقيب، الذي كان يفرض سطوته ورأيه ومعتقده على مضمون النص السينمائي، ولا يتورع عن الحذف أو الإلغاء أو الرفض الكامل لسيناريوهات بعض الأفلام، ولا يتردد في اقتطاع مشاهد ولقطات من الشريط السينمائي، بعد تصويره، وذلك وفقاً لمعايير سياسية واجتماعية ودينية!

ولعل من الإنصاف القول أن دور الرقيب لم يكن سيئاً كله، وهو يمارس دوره في حماية النظام الاجتماعي والسياسي من خطر الأفكار والصور والقيم السيئة، ولكن ما نشهده حالياً من اندماج بين التلفزيون والسينما، يجعل طريقة الرقابة أكثر مرونة، إن لم تكن سلطة الرقيب قد تلاشت تماماً، في بعض الدول، ومن ثم لا بد أن تطرح مشكلة التأثير الذي تفرضه المشاهدة السينمائية المنزلية المفتوحة على سلوك الفرد والعائلة، والتهديد الذي تواجهه الكثير من القيم والأعراف والأخلاق والمعتقدات الاجتماعية الراسخة!

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق