q
لم تشهد الأجيال الشابة الحالية صراعاً عسكرياً مثل الذي يحصل الآن. في الواقع، هذه أول حرب تنتشر بهذا الشكل على وسائل التواصل الاجتماعي. في الأيام الأولى من الصراع، قام موقع «تويتر» بردّة فعل كبيرة. إذ حذف عشرات حسابات الـ«OSINT» التي كانت تنشر معلومات حول تحرّكات القوات والمعدّات الروسية...

مع انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بدأ عمالقة منصّات التواصل الاجتماعي حملة «إسكات» واسعة النطاق تجاه الناشطين الرقميين الروس، كما تجاه الحسابات التي تنشر معلومات عسكرية واستخبارية مفتوحة المصدر (تُعرف باسم OSINT اختصاراً من open-source intelligence) تُظهر أيّ تقدم روسي على الأرض. وبالتوازي مع ذلك، جرى استبدال مقولة «الرجل البرتقالي سيّئ» (orange man bad) في إشارة إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بمقولة «الرجل الروسي سيئ» (Russian man Bad) نسبة إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. الأدوات الرقمية نفسها التي استُخدمت تجاه ترامب تُستخدم اليوم ضدّ بوتين، تحت حجّة «مكافحة المعلومات المضلّلة» على الإنترنت. ومن دون أيّ اعتبار للواقع السياسي وخلفية الصراع، يتمّ «إخراس» أيّ أصوات لا تتماهى مع سردية المعسكر الغربي.

غزت مقاطع الفيديو والصور والتحليلات العسكرية عن الحرب الدائرة كلّ منصات التواصل الاجتماعي، لكنها تركّزت بشكل خاص بين منصة «تويتر» وتطبيق «تيك توك». الأخير بات يعجّ بمقاطع فيديو تُظهر دبابات ومدرّعات روسية مدمّرة أو فارغة من الجنود، في حين أن «تويتر» امتلأ بالتحليلات العسكرية المبنيّة على الفيديوات المنشورة على «تيك توك»، بالإضافة إلى انتشار فيديوات مفبركة (واقعية جداً) لأنظمة «سي رام» أوكرانية تقوم بإسقاط عشرات الطائرات القتالية الروسية، علماً بأن بعض تلك المنشورات هي حقيقية، لكن الغالبية الأعمّ كانت موجودة على الإنترنت قبل سنوات من اندلاع النزاع، والهدف منها إرباك مئات ملايين المستخدمين حول العالم في شأن تمثّلهم لطبيعة الصراع وكيفية تطوّره على الأرض. على سبيل المثال، انتشر مقطع فيديو يُظهر إنزالاً مظلياً كبيراً فوق أوكرانيا على «تيك توك»، وحصد ملايين المشاهدات. لكن بحسب مراسل شبكة «إن بي سي» الأميركية، بن كولينز، فإن الفيديو موجود على «إنستغرام» منذ سبع سنوات. وفي أحيان أخرى، أعيد تداول مقاطع من ألعاب الفيديو أو مقاطع فيديو من صراعات قديمة، على المنصة.

هبّ مجمّع «وادي السيليكون» كلّه لـ«مساعدة» الأوكران

هذا من ناحية المحتوى البصري. أمّا من جانب المنشورات والحسابات التي تقوم بتحليل ما يحدث، فسادتْها فوضى وبروباغاندا، تهدف بغالبيتها إلى إظهار ما تقول إنه الفشل الروسي العسكري على الأرض. ومن الأمثلة على ذلك، في الساعات القليلة الماضية، وبعد دخول الرئيس الشيشاني، رمضان قاديروف، النزاع العسكري بقواته، انتشر خبر مقتل القائد ماغوميد توشايف، كالنار في الهشيم. وتطلّب الأمر من قاديروف أن ينشر فيديو له وهو يتّصل بالقائد العسكري كي يدحض تلك المزاعم. لكن أكثر ما بدا لافتاً، هو التحليل العسكري من جانب حسابات الـ«OSINT» على «تويتر»، والتي ركزت على أن الدخول البرّي للجيش الروسي اعتمد على تشكيل سوفياتي قديم، يسمّى بالـ«Deep Strike». وبالتوازي مع تلك التحليلات، انتشر فيديو لمدرّعات تحمل إحداها علم الاتحاد السوفياتي. كلّ ذلك مدعوم بسردية الإعلام الغربي والأوكراني التي تشبّه الرئيس الروسي بـ«هتلر»، وتصوّره على أنه يريد إحياء أمجاد الاتحاد السوفياتي على دماء الشعب الأوكراني. من هنا، يبدو تشبيه ما يحصل اليوم بأيام الحرب العالمية الثانية عملاً مقصوداً، الهدف منه تثبيت سردية التمدّد الروسي، من دون الأخذ بعين الاعتبار توسّع حلف شمال الأطلسي «الناتو»، ومحاولته تطويق دول الاتحاد الروسي بالدرع الصاروخية.

إجراءات وادي السيليكون

لم تشهد الأجيال الشابة الحالية صراعاً عسكرياً مثل الذي يحصل الآن. في الواقع، هذه أول حرب تنتشر بهذا الشكل على وسائل التواصل الاجتماعي. في الأيام الأولى من الصراع، قام موقع «تويتر» بردّة فعل كبيرة. إذ حذف عشرات حسابات الـ«OSINT» التي كانت تنشر معلومات حول تحرّكات القوات والمعدّات الروسية. وبسبب الردود الشاجبة لما حدث، قال المتحدث باسم «تويتر»، ترينتون كينيدي، في بيان، إن «الأولوية القصوى لتويتر هي الحفاظ على سلامة الناس. كما نفعل عند الأحداث العالمية الكبرى، تراقب فرق السلامة ونزاهة المحتوى لدينا المخاطر المحتملة المرتبطة بالنزاع من أجل حماية الخدمة من الأخطاء، بما في ذلك تحديد وتعطيل محاولات تضخيم المعلومات الخاطئة والمضللة». ثمّ دافع رئيس سلامة نزاهة الموقع، يوئيل روث، بأن عمليات الإزالة كانت بسبب «عدد صغير من الأخطاء البشرية» التي ارتُكبت كجزء من جهد لفرض سياسات الشركة ضدّ وسائل الإعلام التي تمّ التلاعب بها، قبل أن يعلن «تويتر» أن الحسابات قد استعيدت. هنا، يبدو ذكر الأخطاء البشرية بالغ الأهمية، إذ يوضح أن مَن يقوم بالـ«فلترة» ليس ذكاءً اصطناعياً يعامل جميع الحسابات بالتوازي، بل مجموعة من الأفراد قامت بتحديد الحسابات التي يجب إغلاقها.

لم تشهد الأجيال الشابة الحالية صراعاً عسكرياً مثل الذي يحصل الآن

في حديث مع موقع «The Verge» المتخصّص، يقول أريك تولير، مدير الأبحاث والتدريب في «Bellingcat» (موقع إلكتروني للصحافة الاستقصائية مقره هولندا ومتخصّص في التأكد من الحقائق والمعلومات الاستخبارية المفتوحة المصدر)، إن عمليات تعليق الحسابات كانت مفاجئة في ضوء عدد الحسابات باللغة الإنكليزية المتأثرة. وأضاف إن العديد من الحسابات المعلّقة كانت حسابات تعيد تغريد حسابات أخرى تنشر محتوى أصلياً، بدلاً من مشاركة الصور ومقاطع الفيديو مباشرة. وهذا ما دفعه إلى الاستنتاج بأن تعليق الحسابات حصل عبر أفراد، بدلاً من خوارزمية.

من جهتها، أعلنت شركة «غوغل» أنها «علّقت» إمكانية جني عائدات الإعلانات والمشاهدات على مختلف منصاتها بالنسبة الى وسائل الإعلام المموَّلة من الدولة الروسية. وجاء هذا القرار بعد تدابير مماثلة اتّخذها موقع «يوتيوب» التابع لـ«غوغل». كما أعلنت شركة «فايسبوك»، الجمعة، أنها تحظر على وسائل الإعلام الرسمية الروسية بث إعلانات وجني عائدات من نشاطاتها على منصتها. ولعلّ أوضح دليل على تعاون تلك المنصّات مع السردية الغربية، هو قول أليكس ستاموس، المسؤول الأمني السابق في «فيسبوك»، في تغريدة على «تويتر»: إن «اتخاذ الشركات الأميركية موقفاً مع طرف ما في النزاعات الجيوسياسية مبرَّر، وينبغي أن يكون هذا اختياراً سهلاً».

هبّ مجمّع «وادي السيليكون» كلّه، إذاً، لـ«مساعدة» الأوكران، بمن فيهم تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة «آبل»، وإيلون ماسك، رئيس شركة «سبايس إكس»، والذي غرّد بأنه قام بتوجيه أقمار مشروع «ستارلينك» الاصطناعية لبث الإنترنت فوق أوكرانيا، وأن الشركة تعمل على زيادة عدد المنافذ من أجل الاستحصال على الخدمة في البلاد. عملياً، اليوم، بوتين هو ترامب. هو ذلك العدو الذي تريده محطات التلفزة الأميركية، والشرير الذي يمكن أن ينسي الأميركيين انقساماتهم الداخلية بسببه، والغريم الذي تَوحّد الغرب ضده. لكن، بمعزل عن كلّ هذا الصخب، لن تبقى الأمور هكذا إلى الأبد. ولربّما تكون هذه فرصة، لأن تنشأ أدوات رقمية جديدة في الشرق. فالعالم المتعدّد الأقطاب يحتاج إلى منصّاته الرقمية الخاصة أيضاً.

اضف تعليق