q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

مسؤولية الكلمة ومدى خطورتها

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

كل إنسان يمكنه أن يكون مؤثرا في محيطه الاجتماعي، وبالإمكان أن يكون نموذجا لهم، ولو فكّر كل إنسان أن يكون كذلك لصنعنا بنية اجتماعية أخلاقية لا يقترب منها الاختلال أو الانحراف، وإذا سأل أحدهم كيف يُصنَع النموذج للآخرين، فالأمر ليس صعبا بل طوع البنان، إذ على الإنسان أن يقارن بين ما يقوله وبين وما يفعله...

(إنّ الناس لا يكونون كما تقولون، بقدر ما يكونون كما تكونون)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

أجمع الفلاسفة والعلماء وأهل البلاغة العظماء، على ثِقَل مسؤولية الكلمة، ومدى خطورتها، سواءً في تأثيرها الجيد أو المسيء، النافع أو المضرّ، فالكلمة موقف تتشكل عليه الكثير من ردود الأفعال والتعاملات والأفكار والسلوكيات، وهناك من قال إن الكلمة إذا خرجت من فم المتكلم، لا يحق لها التراجع، لذلك على من يطلقها في فضاء الآخرين، أن يتأمل معناها بعمق وتروٍّ، وأن يتأنى كثيرا في إطلاقها.

فإن خرجت وهي تحمل معها طابعها الجيد والمفيد والعميق، سيكون لها أثرها العظيم في عقول ونفوس الآخرين، وبالضد من ذلك يمكن أن يحدث العكس، حين تُقال دون حسبان لنتائجها، وهناك جانب آخر أكثر خطورة من جودة الكلام أو عدمه، وهي تتعلق بمدى التطابق بين أقوال الإنسان ومجريات سيرته، فهل هو ملتزم بما يقول، أم أنه يقول شيئا ويفعل نقيضه، فالتناقض بين القول والعمل يجعل الناس ينظرون إلى الفاعل بارتياب.

لقد مرّ في حياة كل واحد منّا أناس لا يمكن أن يغيبوا عنّا حتى لو رحلوا عنا، وسبب عدم غيابهم عنّا، أنهم أثَّروا في حياتنا وأفكارنا وسلوكنا، فمنهم تعلمنا القول الصحيح والمواقف السليمة والقيم الكبيرة والأخلاق التي سمتْ بنفوسنا وقلوبنا، لتجعل منا أناسا يصطفون إلى جانب الخير، وينظر لهم الآخرون بمحبة وامتنان، لماذا؟ ومن الذي جعلنا نماذج صالحة؟، إنهم أولئك الذين يقدرون مسؤولية الكلمة ويشابهون بين قولها وتطبيقها، لذلك نحن لن ننسَ النماذج التي قالت الخير وطبقّته في حياتها، أي حوّلته إلى من لفظ إلى فعل.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يذكر هذه القضية في كتابه القيّم الموسوم بـ (العلم النافع) فيقول:

(إنّ الأشخاص الذين نراهم طيّبين ـ أو كنّا نراهم كذلك وانتقلوا إلى الدار الآخرة ـ إنّما تأثّرنا بسيرتهم أكثر ممّا تأثّرنا بكلماتهم، وما تأثُّرنا بكلماتهم إلاّ لأنّها طابقت أفعالهم. وبعبارة: إنّ كلماتهم التي نعتقد أنّها تتطابق مع سيرتهم هي التي أثّرت فينا وربّما غيّرتنا).

هكذا يكون الشعور بمسؤولية الكلمة، فلا تُطلق على عواهنها، ولا يلفظها صاحبها إلا إذا تأكد من أنه قادر على تطبيقها بنفسه قبل غيره، وإلا ما فائدة أن تحث الناس على شيء، وعندما يصل الأمر إليك فلا تعبأ به، ولا تسعى لتطبيقه، الجانب الأهم في حياة الإنسان أن يعرف جيدا مسؤولية ما يقول، ومدى خطورته، وكذلك مدى قدرته على تحويل اللفظ إلى عمل مجسَّد يراه الآخرون ليؤمنوا بهذا الإنسان وبمواقفه.

خطورة التناقض بين القول والعمل

كل إنسان منا أحبّ شخصا لأقواله وخطاباته أو محاضراته، فإنه سوف يتعلق بالكلمات التي يقولها وينفذها بنفسه، فإن دعا الآخرين إلى فعل الخير ومعاونة الآخرين واحترام حقوقهم ومعاملتهم بالحسنى، فحريّ به أن يطبق هذه الدعوات والمسميات على نفسه وفي علاقاته مع الآخرين، أما إذا قال كلاما جيدا، وفعل نقيضه، فإنه لن يكون نموذجا يحتذي به الآخرون، لاسيما إذا كان شخصية مهمة ومتميزة بين الناس.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد على: (أنّ الناس لا يكونون كما تقولون، بقدر ما يكونون كما تكونون، إنّهم يأخذون من سيرتكم أكثر ممّا يأخذون من أقوالكم).

وهكذا فإن سيرة الإنسان هي التي تُلهم الآخرين، وتجعلهم يتعلقون بهذه الشخصية أو تلك، سواء كانت على قيد الحياة أو غادرت إلى العالم الآخر، وفي المجتمعات التي لا تزال تبني نفسها كما هو حالنا اليوم، يحتاج الناس إلى من يدلّهم على الجادة الصواب، ويفتح أمامهم دروب الحياة التي تغص بالانحرافات والمغريات الهائلة.

حريّ بكل إنسان، مهما كان مركزه الاجتماعي أو الديني أو الوظيفي، أن يفهم بأن له دور كبير في إنارة عقول الناس وإرشادهم، حتى لو قال كلمة خير واحدة، على أن تتطابق سيرته مع ما يقول، أما حين نتحدث عن القادة وصنّاع القرار ومن تتعلق حياة الأمة بسلوكياتهم، فإن الأمر يغدو أكبر وأعظم، وأن مسؤولية الكلمة تتعاظم بسبب تعاظم ما ينتج عنها، فإن طالب المسؤول عامة الناس بحسن السلوك والأخلاق والتلفّظ وتنظيف النفس، حريّ به أن يكون النموذج الأول في تطبيق ما يقوله وما يطالهم به.

كل إنسان يمكنه أن يكون مؤثرا في محيطه الاجتماعي، وبالإمكان أن يكون نموذجا لهم، ولو فكّر كل إنسان أن يكون كذلك لصنعنا بنية اجتماعية أخلاقية لا يقترب منها الاختلال أو الانحراف، وإذا سأل أحدهم كيف يُصنَع النموذج للآخرين، فالأمر ليس صعبا بل طوع البنان، إذ على الإنسان أن يقارن بين ما يقوله وبين وما يفعله، ويمكنه أن يسعى لتحقيق هذا التطابق بالتدريب والتكرار، ويما بعد آخر يمكنه أن يفعل ما يقول ويصبح نموذجا للناس.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يسهّل القيام بهذا المهمة في قوله:

(إذا أردت أن يكون كلامك مؤثّراً فانظر إن كنت قد عملت به أم لا، وإن لم تكن قد عملت به بعدُ فحاول أن تعمل به قبل أن تتفوّه به، وكرّر المحاولات ولا تيأس، لأنّ الأمر ممكن وإن كان لا يخلو من صعوبة).

وقوف الكلمة بجانب الحق

هكذا يمكن للجميع أن يتدرّبوا على الجمع بين الكلمة وتطبيقها وبين الوعود والالتزام بها لو أنهم مسؤولون تنفيذيون، وإذا حاول أحدنا أن يُجري مقارنة بين ما يقوله وما يفعله، فإنه سوف يكتشف الفارق بين الاثنين، فغالبا ما يحصل بون شاسع بين القول والعمل، أي أننا نقول الكثير ونطبق القليل، لكن مع التدريب وتعويد النفس على إرفاق العمل بالقول، فإننا يوم بعد آخر نكون أكثر قدرة على الجمع بين الاثنين.

في هذه الحالة فإن الشعور بمسؤولية الكلام سوف تتضاعف عند الإنسان، وأنه مع مرور الزمن ومع استمرار تدريب النفس سوف يشعر بخطورة الكلمة، وسوف يبذل قصارى جهده لكي يكون من النماذج الجيدة التي تنجح في الدمج بين القول والعمل، رغم الصعوبة الكبيرة التي يواجهها الإنسان وهو يسعى إلى تهذيب نفسه وتشذيبها من الاخفاقات.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(لو راجع كلّ منّا نفسه بعد كلّ قول يقوله ونظَر إن كان قد عمل به أم لا، لتعجّب من كثرة ما يصدر عنه من أقوال مغايرة لأفعاله! وسيشعر حينها بمسؤولية الكلمة ومدى خطورتها، محاولاً أن يقترن كلامه مع عمله).

ومع كل ما تقدَّم في التركيز على اقتران القول بالعمل، إلا أن هذا الأمر لا يعني منع الإنسان من إطلاق الكلمات التوجيهية التي تساعد الآخرين على إبصار الدروب الصحيحة في حياتهم، لاسيما حين يتعلق الكلام بتقديم النصائح والمشورات والتجارب الأخلاقية التي يمكن أن تدعم الإنسان في مسيرته الحياتية.

كما أن كلمة الحق لابد أن تُقال دائما دونما تردد، في إطار الواجبات والمحرّمات، فالإنسان في جميع الأحوال مطالَب بقول الحق، وبحث الناس إلى التمسك به والانتصار له ضد الباطل، فمن يقف مع الحق إنما يقف مع نفسه، وهذا درس لفظي مهم يجب أن يقوله الجميع للجميع، لكي نحدّ من سطوة الباطل والظلم وانتهاك الحقوق.

سماحة المرجع الشيرازي يؤكد على هذه النقطة بقوله:

(إنّ القول الحقّ بحدّ ذاته واجب سواء في الواجبات أو المحرّمات، وهو ما يعبّر عنه الشرع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

أخيرا إن الشخصيات التي حافظت على ذكْراها الطيبة عند الناس، سواء حاضرة أو في رحاب الله، فإن ما جعلها متوقدة في الذاكرة البشرية أفعالها أولا، وثانيا الجمع بين الأقوال والأعمال، وشعورها العالي بمسؤولية الكلمة وخطورتها، مما ساعدت الآخرين على أن يقدّروا هذه المسؤولية ويفهموها جيدا، ويصبحون نماذج جيدة في للأجيال التي تأتي من بعدهم.

اضف تعليق