q
آراء وافكار - مقالات النبأ

قلم جاف

ماذا نقصدُ بالمعلم الأب؟، إنه ذلك المعلم الذي يتعامل مع طلابه كأبناء له، ويشعر بأنهم كذلك فعلا، ويكون حريصا على علاقته بهم وعلى ردود أفعالهم تجاه شخصيته، وأقواله، وسلوكياته، وأخلاقه، مثل هذه الشخصية التدريسية نجدها في جميع الحقب والأزمان، ولا ينحصر وجودها بمكان، فقد نجدها في الشرق أو الغرب، في الجنوب أو الشمال...

ماذا نقصدُ بالمعلم الأب؟، إنه ذلك المعلم الذي يتعامل مع طلابه كأبناء له، ويشعر بأنهم كذلك فعلا، ويكون حريصا على علاقته بهم وعلى ردود أفعالهم تجاه شخصيته، وأقواله، وسلوكياته، وأخلاقه، مثل هذه الشخصية التدريسية نجدها في جميع الحقب والأزمان، ولا ينحصر وجودها بمكان، فقد نجدها في الشرق أو الغرب، في الجنوب أو الشمال.

لا علاقة لنوع الأعراق ولا لنوع اللغة ولا للون البشرة بهذا النوع من المعلمين، إنه إنسان وهذا الانتماء لبني البشر يكفي لكي يكون المعلم قادرا على الأبوية دون تكلّف في علاقته مع طلابه، وكل منّا مرسومة في ذاكرته شخصية معلم نبيل نموذجي، ويمكن أن تحتفظ الذاكرة بمعلم غير جيد ولا يصلح أن يكون معلّما، ونأمل أن يكون هذا النوع من المعلمين قليلا.

في طفولتي ودراستي الابتدائية حظيت بنماذج نادرة من المعلمين، منهم معاون مدرسة الخزرجية التي درست فيها آنذاك، وهي موجودة إلى الآن لكن المعلم الذي ظلّ خالدا في ذاكرتي غادرنا إلى رحاب السماء، كان هذا المعلم والدا للجميع، فما أن يدخل علينا للصف حتى تنتشر خلطة عجيبة من الشعور بالأمن والسعادة والهدوء والاستقرار.

لا زلت أتذكر مواقفه الكثيرة معي ومع طلاب الصف الآخرين، أحد هذه المواقف كنتُ ناسيا قلمي الرصاص في البيت، وأهم شيء في التدريس الابتدائي هو القلم والدفتر، وكنت قلقا خائفا من أن يحاسبني ذلك المعلم على نسياني لقلمي، كنت أرتجف من هذا الخطأ وزاد من ارتجافي برد الشتاء القارس، وحين مرّ المعلم من جانبي لاحظ ارتجاف جسدي، وهناك دمعة تقف عند زاوية عيني، قد تسقط في أية لحظة.

توقّف المعلم عن الشرح وهو يقف إلى جانبي وأنا كنت جالسا على (رَحلتي الخشب)، شعرت بكف وأصابع دافئة حنونة تمشي على شعر رأسي، وتدفقت كلمات صادقة من فم المعلم، سألني لماذا ترتجف يا ولدي؟، لم أستطع الإجابة، كرّر سؤاله وأضاف: يبدو أنك بردان.

ونزع سترته الشتائية ووضعها فوق أكتافي، في هذه اللحظة أحسست بدمعتي تندلق من زاوية عيني وتجري فوق وجنتي، قال المعلم: هل البرد هو الذي أبكاك يا ابني؟، قلتُ: لا بل قلم الرصاص.. نسيته في البيت.

ترك المعلم سترته تغطي جسدي النحيف، وخرج من الصف وعاد بعشرات الأقلام الرصاص وقام بتوزيعها على جميع الطلاب مبتدئا بي، وكان هناك قلم جاف وحيد مع أقلام الرصاص، وحين استلم جميع الطلاب أقلامهم بقي القلم الجاف وحيدا في كف المعلم، ثم تقدّم إليَّ وسلمني قلم الجاف قائلا بحنان أب: هذا القلم الجاف لك.. خذه لكي يتوقف جسدك عن الارتجاف....

وضحك بقهقهة هادئة ليضحك معه طلاب الصف كلهم، بسعادة ولطف وهدوء.

هذا نموذج من معلّمي الأمس البعيد، وقد احتفظتُ بقلمه الجاف إلى أن أنهيت دراستي الابتدائية، فحتى حين انتهى حبره أعطيته لأمي وقلت لها احتفظي لي بهذا القلم، إنه هدية المعلّم الأب، وفعلتْ أمي ذلك بحرص وامتنان.

مشهد آخر حكاه لي حفيدي الذي يدرس حاليا في مدرستي الخزرجية نفسها التي درست فيها قبل خمسة عقود، وهذا المشهد يخص معلم نموذجي من معلّمي الحاضر، فقد بادر هذا المعلم بتكريم أبنائه من التلاميذ الصغار من خلال فكرة رائعة، حيث وعد كل طالب من طلابه بهدية جميلة إذا حصل خمس مرات على درجة كاملة (10) في إملاء اللغة العربية، وبدأ الطلاب يتبارون فيما بينهم ويتنافسون على جمع درجة (10) لخمس مرات.

وأخذ حفيدي يتصل بي في كل مرة يحصل فيها على (10) في الإملاء، وكان حريصا على إخباري، وكنت أشعر بفرحته الكبيرة وأراها في قسمات وجهه وهو يبشرني بعشرة جديدة بالإملاء، وحين كنت أسأله ما هي الهدية التي سيقدمها المعلم، كان يقول لا نعرف الهدية، لكن معلّمنا يفاجئنا بهدايا جميلة دائما.

خمسة طلاب صغار معهم حفيدي حصلوا على الدرجات المطلوبة لكي يحصلوا على هديتهم، فما هي هذه الهدية، لقد أخذ المعلم النموذجي طلابه الخمسة بسيارته الخاصة إلى مطعم ترفيهي خاص بالأطفال، بعد أن أخبر أولياء أمورهم بذلك.

حين عاد التلاميذ الخمسة من جولتهم (الهدية) المريحة المفرحة، حملوا معهم لقطات وصورا جميلة جدا، جماعية وفردية تجمعهم مع المعلم، ومن بينها صور تُظهر الألعاب التي لعبوا بها والأماكن النظيفة التي تمتعوا فيها، والأهم من هذا وذاك أن هذه الهدية تحمل جانبين:

الأول: أنها خطوة تشجيعية رائعة وبسيطة وسهلة ومبتكَرة أيضا، تساعد وتشجع الطلاب على التنافس النزيه، وتعلّم الاندفاع الصحيح لتحقيق أهدافهم.

الثاني: سوف تبقى هذه الهدية في ذاكرة الطلاب إلى الأبد، وسوف تنعكس على حياتهم إيجابيا، بغض النظر عن مجال العمل الذي يدخلونه مستقبلا.

نقطة أخيرة لابد من قولها، إن مثل هذه المبادرات الكريمة، تدل على أن هذا المعلّم ليس من نوع المعلمين الذين يؤدون عملهم بشكل روتيني، يدخل الصف ويلقي المحاضرة بأية طريقة كانت، ثم يذهب إلى بيته وينشغل باهتماماته الخاصة.

المعلم النموذجي الذي نحتاجه اليوم في مجتمعاتنا، هو حامل لواء الإنسانية وصاحب الابتكارات المتفردة التي تدفع طلابه إلى أمام وتزرع في عقولهم القيم النبيلة، فطوبى لهذا المعلم المعاصر....

وطوبى لمعلمي صاحب قلم الجاف الذي لا يجف حبره وذكراه إلى الأبد.

اضف تعليق