q
بالرغم من التعافي النسبي الذي شهده الاقتصاد العالمي من تداعيات الجائحة ونشر اللقاحات، الى جانب السياسات التيسيرية النقدية وحزم الانقاذ المالية، واجه الاقتصاد العالمي مواطن ضعف كبيرة تمثلت في قطع سلاسل الامدادات والدخول في موجة تضخمية قوية وأزمة الطاقة وعدم كفاية امدادات الطلب على النفط، وصول اسعار النفط...

في مايو/ آيار 2020 أصدر صندوق النقد الدولي خارطة طريق تفصيلية وشاملة للقضاء على جائحة كوفيد-19 وانقاذ الارواح ووضع الاقتصاد العالمي على طريق التعافي الواسع النطاق، تحت عنوان "مقترح للقضاء على جائحة كوفيد-19" وقد لاقت هذه الخارطة تأييد واسع من أغلب المنظمات والمؤسسات، وقد استندت هذه الخريطة على فرضية تتمثل في إن القضاء على الجائحة شرط ضروري لا غنى عنه لاستعادة الوظائف وعودة النمو لمستويات ما قبل الجائحة وتحقيق التعافي والاستقرار للأسواق العالمية (1).

مع ذلك، بالرغم من التعافي النسبي الذي شهده الاقتصاد العالمي من تداعيات الجائحة ونشر اللقاحات، الى جانب السياسات التيسيرية النقدية وحزم الانقاذ المالية، واجه الاقتصاد العالمي مواطن ضعف كبيرة تمثلت في قطع سلاسل الامدادات والدخول في موجة تضخمية قوية وأزمة الطاقة وعدم كفاية امدادات الطلب على النفط، الأمر الذي أدى الى وصول اسعار النفط الى اعلى من 80 دولار.

وفي 24 نوفمبر/ تشرين الثاني، تم اكتشاف سلالة جديدة من متحور كورونا في جنوب افريقيا أطلق عليه اسم اوميكرون Omicron وقد صنفته منظمة الصحة العالمية كمتحور مثير للقلق، مؤكدة أن الأدلة الأولية تشير إلى أنه يتميز بطفرات أكثر من السلالات المتحورة الأخرى، وقد تكون أكثر انتشاراً، وهو ما جعل عدة دول تعود الى الاغلاق والحظر والتباعد الاجتماعي، ويعتقد الخبراء أن سلالة اوميكرون الجديدة تمتلك ما لا يقل عن 50 طفرة في السلالة المتحورة، مع 32 طفرة على القسيم الفولفي (بروتين سبايك)، وهو الجزء المسؤول عن العدوى التي تلتقطها الخلايا البشرية.

وقد أسفرت الموجه الجديدة من تفشي المتحور عن حالة من عدم اليقين في الاسواق العالمية، وزادت من المخاطر المحتملة، وهددت آفاق الاقتصاد العالمي، واضطربت الأسواق المالية ومنيت الكثير من الشركات في قطاعات مختلفة بخسائر كبيرة، ويأتي هذا في وقت تتصارع فيه الدول لاسيما الولايات المتحدة الامريكية والصين والدول الصناعية الاخرى للحصول على حصتها من الطاقة في الأسواق العالمية التي تعرضت الى حالة من عدم الاستقرار ومازالت تعاني من تحديات ضاغطة كبيرة أثرت على مستويات الاسعار تمثلت في الآتي:

- تزايد المخاوف المتعلقة بإجراءات الاغلاق في ظل مخاوف اقتصادية من تداعيات النسخة الجديدة من فيروس كورونا (اوميكرون)، التي اكتشفت لأول مرة في جنوب أفريقيا، ويعود هذا التأثير إلى مخاوف من أن يكون المتحور الجديد أكثر عدوى من سابقيه، ما يبطئ النمو الاقتصادي، ويعيد شبح الإغلاق وقيود الحركة مجدداً، وفي هذا السياق، فقد تأثرت الأسواق العالمية بالتصريحات التي أدلى بها الرئيس التنفيذي لشركة Moderna بشأن فعالية اللقاحات ضد المتحور الجديد، مما خلق المزيد من الضبابية والتخوف بشأن تقييم المخاطر المحتملة وانعكاساتها على اتجاهات الطلب العالمي للنفط.

- اعلان الولايات المتحدة الامريكية عن السحب من المخزون الاستراتيجي، إذ أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن الإفراج عن كميات من الاحتياطي النفطي الاستراتيجي بالتنسيق مع دول أخرى، ضمن خطوة لتهدئة أسعار الطاقة التي ترى الولايات المتحدة أنها تقود معدلات التضخم المرتفعة في الأشهر الأخيرة، وقرر بايدن استخدام 50 مليون برميل من مخزون الولايات المتحدة النفطي الاستراتيجي بالتنسيق مع دول أخرى من كبار المستهلكين، مثل الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة، في محاولة لتهدئة الأسعار، وأعلنت الهند أنها ستفرج عن خمسة ملايين برميل من احتياطاتها الاستراتيجية، فيما قال متحدث حكومة المملكة المتحدة، إن بريطانيا ستسمح بسحب 1.5 مليون برميل.

وفي كوريا الجنوبية، أشارت وزارة الصناعة إلى الموافقة على المشاركة في سحب مشترك من الاحتياطيات النفطية استجابة لطلب من الولايات المتحدة، مضيفة أن التفاصيل بشأن حجم وتوقيت السحب من احتياطيات النفط سيتقرر من خلال التشاور مع الدول الاخرى، وبحسب تقارير صحافية، ستعقد اليابان مزادات على نحو 4.2 مليون برميل من مخزونها الوطني بحلول نهاية العام الحالي، الذي يساوي نحو يوم أو إثنين من الطلب المحلي، وفي أحدث خطوة في هذا الشأن، أعلنت الصين عن استخدام مخزونها النفطي الاحتياطي بالتعاون مع دول أخرى لخفض أسعار الخام. وتاريخياً، لم تلجأ الولايات المتحدة الامريكية الى خيار استخدام المخزونات سوى 3 مرات منذ عام 1975 عندما وقع الرئيس الامريكي فورد قانون انشاء مخزون النفط الخام الاحتياطي الأول للطوارئ بعد أن أصيب بصدمة الحظر النفطي.

- ارتفاع مخزونات النفط الامريكية بسبب الارتفاع الملحوظ في صافي واردات النفط وتباطؤ نمو معدلات معالجة النفط بالمصافي الامريكية.

- الاجراءات المتخذة في الصين لمعالجة النقص في الماد الخام الرئيسة، بما في ذلك الفحم، واعلان الصين عن السحب من مخزونات الغازولين والديزل.

- احتمال إحياء المحادثات النووية بين إيران والقوى الكبرى.

- اعلان اوبك عن تمسكها بخطط اضافة 400 ألف برميل الى السوق شهرياً.

- اعلان تقرير بيكر هيوز الدولي لأنشطة الحفر الامريكية في بياناته الاسبوعية على إن نشاط الحفر في الولايات المتحدة الامريكية استمر في الارتفاع مع ازدياد عدد الحفارات.

- اعلان أمين عام منظمة "اوبك" بأن المنظمة ترى بأنه سيكون هناك فائض في المعروض النفطي خلال الربع الاول من عام 2022، بالتزامن مع اعلان معهد البترول الامريكيان مخزونات النفط ونواتج التقطير في الولايات المتحدة الامريكية قد ارتفعت خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، الى جنب ذلك أعلنت وكالة الطاقة الدولية عن خفض تقديراتها للطلب على النفط الخام خلال عام 2022.

ومع ذلك وبالرغم من كل التحديات التي واجهتها اسواق النفط العالمية وعلى الرغم من فقدانها نحو 11.5% من اسعارها بسبب المتحور (اوميكرون) إلا إنها لازالت عند مستويات جيدة وأعلى من مستويات عام 2020، وكما موضحة في الجدول (1).

جدول (1): اسعار النفط خلال الربع الاخير من عام 2021 (متوسط سلة خامات اوبك)

الجدول من عمل الباحث بالاستناد الى البيانات والاحصاءات التي تنشرها منظمة اوبك ومنظمة اوابك

يتضح من خلال بيانات اسعار النفط في الجدول (1) إنها شهدت انخفاضا في ظل تفشي المتحور اوميكرون، إذ انخفضت أسعار النفط في بداية شهر ديسمبر/ كانون الاول 2021 لتصل الى نحو 70.83 دولار للبرميل بالمقارنة مع 82.22 في بداية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، ومن ثم حققت الاسعار بعض المكاسب في الأسبوع الثالث من الشهر نفسه لتصل الى ما يقارب 73.3 دولار، وهي في أتجاه تصاعدي للعودة الى مستويات ما قبل اكتشاف المتحور الجديد.

عموماً، إن المكاسب المتحققة في أسواق النفط العالمية كانت مدعومة بجملة من الأسباب لعل أبرزها:

- انخفاض المخاوف المتعلقة بإجراءات الاغلاق المحتملة للحد من تفشي المتحور اوميكرون، إذ تشير الدراسات الى إن المتحور الجديد أقل خطورة من سابقاتهُ.

- تضاؤل احتمالات عودة صادرات النفط الايرانية الى الأسواق العالمية بسبب تعثر مفاوضات الاتفاق النووي، وعدم الوصول الى حل واضح بين إيران والدول الكبرى.

- تلقت أسعار النفط دعماً قوياً من التذبذب القوي والغير متوقع في المخزونات النفطية الامريكية خلال الاشهر الثلاث الماضية.

- تنامي الطلب العالمي على النفط وعودته الى مستويات ما قبل الجائحة في سياق عدم تحقيق الزيادة المتفق عليها لدى دول اوبك+ بسبب توقفات مفاجئة وغير متوقعة.

- تلقت أسعار النفط أيضاً دعماً من تنامي الطلب على الوقود في الولايات المتحدة الامريكية في ظل تمرير قانون "الاستثمار في البنية التحتية الامريكية" والذي يُعزز الطلب على الوقود، فضلاً عن الارتفاع الكبير في الصادرات الصينية في ظل تحسن سلاسل الامداد وتعافي حركة النقل ورفع القيود.

- قيام السعودية برفع أسعار خامها المباع الى آسيا والولايات المتحدة الامريكية.

- تلقت اسعار النفط دعماً من أزمة نقص امدادات الغاز والفحم وارتفاع اسعارهما بسبب الطلب القوي وموجة البرد القارس التي تمر بها دول اوروبا.

بناءً على ما سبق، لا يزال تعافي الاقتصاد العالمي مستمراً ولكن زخمه بات أضعف جراء تفشي السلالة الجديدة وزيادة المخاطر الصحية التي باتت تهدد آفاق النمو الاقتصادي، الى جانب كل ذلك تمر الدول الاوربية بموجة قوية من تفشي الجائحة سواءً من المتحور الجديد أو من المتحور الهندي، الأمر الذي قد ينعكس بشكل سلبي على أسعار النفط العالمي، ويبقى السؤال الاهم؟ هل تستطيع اسعار النفط مواصلة زخمها وصعودها أو على الاقل الثبات عند مستوياتها الحالية أم إنها قد تتعرض الى انخفاضات كبيرة على غرار انخفاضات عام 2020؟ والاجابة على هذا السؤال مرتبط بتطور الاوضاع الصحية التي يعيشها العالم، فلا أحد يعلم مقدار الضرر الذي قد تسببه الموجه الجديدة من تفشي الجائحة والى أي مدى تستمر.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2021
www.fcdrs.com

........................................
(1) روشير أغاروال وغيتا غوبيناث، اقتصاديات الجائحة، تحقيق تعافٍ اقتصادي واسع النطاق يقتضي وضع نهاية للجائحة، مجلة التمويل التنمية، واشنطن: صندوق النقد الدولي، العدد58، الرقم 4، 2021، ص10

اضف تعليق