q
في بلد مثل العراق يخوض تجربة حكم حديثة في تاريخه السياسي، وفي ثقافته الاجتماعية، فان استشعار المسؤولية الجماعية عن كل صغيرة وكبيرة يبدو امراً واجباً وحياتياً، فنحن أشبه بمن أمضى ساعات طوال لتسلّق جبل شاهق، ثم وصل الى حافة صخرية تمكنه من استرجاع انفاسه...

{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} سورة الصافات، الآية 24

نسمع دائماً من العلماء والحكماء حكاية معبّرة عن ذلك الرجل الذي يجلس في زاوية من السفينة منشغلاً بخرقها بمعوله بدعوى الحرية الشخصية وأنه دفع ثمن المكان الذي يشغله في السفينة، فاذا تركه الآخرون وما يفعل، سيغرق هو وسيغرقون الجميع.

هذه الحكاية تحمل اشارة عنيفة لفكرة تحمل المسؤولية الجماعية، بينما نعيش حالات لا تُعد يومياً من اللامسؤولية تنتشر في حياتنا مثل ذرات الهواء لا يشعر بها أحد، فهي مستساغة ولا تثير مخاوف تذكر كأصحاب السفينة تلك.

الحاجة القصوى

في بلد مثل العراق يخوض تجربة حكم حديثة في تاريخه السياسي، وفي ثقافته الاجتماعية، فان استشعار المسؤولية الجماعية عن كل صغيرة وكبيرة يبدو امراً واجباً وحياتياً، فنحن أشبه بمن أمضى ساعات طوال لتسلّق جبل شاهق، ثم وصل الى حافة صخرية تمكنه من استرجاع انفاسه، فان أخطأ التصرف في هذا المكان سيسقط الى السفح الذي انطلق منه، وربما يخسر حياته، كما يخسر جهوده واتعابه.

الحرية –مثلاً- التي ينعم بها العراقيون في الوقت الحاضر، وفي مقدمتها حرية الفكر والتعبير والعقيدة، الى جانب حريات اخرى –وإن كانت نسبية- مثل حرية العمل والسفر والبناء، وايضاً الحريات السياسية مثل؛ حرية الانتخاب والامتناع، وحرية التظاهر والاعتصام، وحتى السخرية من الحكومة ومن رموزها، كل هذا لم يصل الينا على طبق من ذهب، وإنما على أنهر من الدماء ومن التضحيات الجسام قدمها خيرة شباب وعلماء العراق طيلة حوالي نصف قرن من الزمن عندما كان الانسان العراقي لا يعدو كونه صامولة في ماكنة السلطة الصدامية، لا يحق له التفكير والتقرير لنفسه ولبلده، إنما الأمر والنهي والقرار بيد شخص واحد فهو يفكر بالنيابة عن افراد الشعب، وهو الذي يقرر مصيرهم، ما اذا كان يجب ان يعيشوا في أمن واستقرار ورخاء، أو يعيشوا في ظل حرب ضروس ومدمرة، تخلّف آلاف الارامل والايتام، و اعداد لا تُحصى من القتلى والمعوقين والمشردين.

ومن أبرز مظاهر الحرية؛ الخوض عميقاً في العالم الافتراضي بواسطة الشبكة العنكبوتية (الانترنت)، ومع التطور السريع والهائل لتقنية الاتصال وانتشار التطبيقات، ومواقع التواصل الاجتماعي، فالمسؤولية الاخلاقية أمام الشريحة المثقفة لتبيين الأطر الصحيحة للحرية، وكيف تكون وسيلة للتنمية والتطور من خلال البحث عن الجديد في العالم بما يخدم مصلحة الانسان والوطن.

إن التذكير والتبيه في كل مكان وزمان، ومن كل افراد المجتمع –حسب الامكان- بدءاً من جمع النفايات في المكان المخصص، وعدم التجاوز على الأرصفة من قبل اصحاب المحال التجارية، مروراً بمحاربة المحتكرين والمتلاعبين بالاسعار بمقاطعة بضائعهم، وحتى محاربة الفساد الاداري والفساد الاجتماعي. هذه وغيرها من شأنها انضاج التجربة الديمقراطية والظهور امام العالم بان في العراق تظافر جهود على التغيير الحقيقي –ولو تدريجياً- من الفوضى والفساد الى النظام والتنمية.

ربما يعد البعض هذا من المثاليات البعيدة عن الواقع، بيد أن هذا الواقع نفسه يصنعه اصحابه عندما يتخلّون الى الأبد عن فكرة الاعتماد على القوالب الجاهزة المستوردة من الغرب، فهل كانت تضحيات الشباب الجامعي وعلماء الدين والاخيار من المجتمع من اجل ان يستبدلوا مناهج حزب البعث بالمناهج الاميركية او الغربية؟! ولنا في افغانستان ومآلها المحزن خير عِبرة، فقد كان الرجل الافغاني في حقبة الثمانينات يفتخر كونه مجاهداً شجاعاً وبطلاً في عيون ابناء شعبه، بل وعند المسلمين في كل مكان، لأنه كان يحارب باسلحته البسيطة وبكل بسالة، جيش ثاني قوة عظمى في العالم (الاتحاد السوفيتي السابق)، أما اليوم فقد تلاشت من الذاكرة الافغانية صورة ذلك الرجل المجاهد، بعد ان باع زعماء "الجهاد" جهادهم للاميركان مقابل سراب يحسبه الظمآن ماء، فخسروا رصيدهم الضخم من جهاد وتضحيات ومعاناة الملايين من الشعب الافغاني، وكسبوا التبعية، ثم مزيد الحرمان والتخلف والجوع لهذا الشعب المقهور.

ما لا يشجع على تحمّل المسؤولية

في الوقت الذي يعد تحمل المسؤولية أمر ايجابي محبب الى النفوس، و مدعاة للاطمئنان والثقة، فهو سبب للتهرّب والتنصّل لما له من تبعات وتصدّعات، لاسيما اذا كانت المسؤولية تتعلق بقضية اجتماعية واخلاقية وانسانية لها خلفيات في أزمات شائكة، فواحدة تجر الأخرى، لذا نرى البعض –او الكثير- يتهرّب بعيداً عن التدخل في أمور من هذا القبيل مهما كانت الحاجة اليها ملحّة لفضّ نزاع ما، او استحصال حق مضيّع، فالكثير من افراد المجتمع، ومعهم جزء كبير من الشريحة المثقفة والواعية تتجنب الخوض في مشاكل من هذا النوع حتى لا "يتورطوا فيها"، وهذه من أمضّ السقطات الموجودة في واقعنا.

ولكن من اين تنشأ حالة اللامسؤولية عند البعض رغم حاجتنا الى من يتحملها وسط ركام من المشاكل والازمات الحائرة بين المجتمع ومؤسسات الدولة؟

هناك عوامل نفسية واخرى موضوعية لها مدخلية بنشوء حالة اللامسؤولية من جملة عوائل يذكرها سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- في كتابه "كل فرد حركة وفلسفة التأخر"، منها:

1- الانعزالية والتقوقع، و"عدم الألفة مع الناس"، ولهذا اسباب لسنا بوارد الحديث عنها، فالبعض يتصور إن تحمّل مسؤولية ما في محيط منطقته السكنية –مثلاً- في محيط عمله وفي الجامعة او غيرها، ربما تسيئ الى سمعته، وتقلل من شأنه، وتلحق به ضرراً معنوياً، وحتى مادياً، ثم إن "معاشرة عامة الناس من الامور الصعبة تحتاج الى مقومات كثيرة، فعلى الانسان ان يربي نفسه على الألفة، وإلا خسر نفسه وخسر غيره، فان في الألفة أخذ وعطاء، فأخذٌ لنفسه وعطاءٌ لغيره".

ويستشهد سماحته بحديث يرويه أمير المؤمنين عن رسول الله، بأن "لا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف"، موضحاً التفاتة جميلة بأن من السهل ان يألف الانسان الآخرين ويتقبلهم، وإنما المهم أن يكون هو ايضاً مألوفاً عندهم بمختلف الخصال والطباع والصفات الحسنة، مثل بشاشة الوجه، وحلو الكلام، والالتزام العملي بالقيم والاحكام.

2- اللامبالاة بالظواهر السلبية والاعمال المخالفة للذوق العام والاخلاق الحميدة، وهذه لعلها من أكثر مسببات التخلّف وتكريس الفساد والظلم، لأن ببساطة؛ مع مرور الزمن، لن يثير الناس أي شعور سلبي إزاء هذه الاعمال السيئة، وإن رفضوها وجدانياً، بيد أن "الأمر الواقع" يفرض عليهم القبول بما موجود رغم مساوئه، مع غياب البديل الصالح.

3- فقدان العدالة في التعامل مع الآخرين، و"عدم إعطاء الناس قدر حقهم في أي بعد من ابعاد الحياة، فانه ظلم وتعدّ وبغي، وقد قال –سبحانه-: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}.

يحصل أن البعض يتحدث عن تحمل مسؤولية الجماهير في شعاراته الانتخابية، او يتبجح بجهوده في تمشية معاملات المراجعين في الدوائر الحكومية، وأمثال ذلك، بيد أن هذه المسؤولية يتخذها وسيلة للمتاجرة سياسياً واجتماعياً، فهو يعمل ويتحرك ولكن؛ ليس لعامة الناس وإنما لنفسه وللمقربين، فمن "يفعل ذلك يهين نفسه ويسقطها من أعين المجتمع"، وقد ألفت سماحة المرجع الشيرازي الراحل الى هذا المطب قبل ان يسقط فيه من يدعون المسؤولية في العراق الديمقراطي، في هذا الكتاب الذي صدر اواسط تسعينات القرن الماضي.

مبدأ تحمل المسؤولية ليس فضفاضاً كما يتصور البعض، وبالامكان الالتفاف عليه، وتطويعه لمخرجات نفعية خاصة، بقدر ما هي قانون سماوي مفروض على كل من اكتسب العلم والمعرفة قبل غيره، فمن يرى في طريقه رجلٌ بصير (مكفوف) يسير باتجاه حفرة، من الطبيعي والبديهي أنه يسرع لإبعاده عن الحفرة، وإلا سيشعر بالذنب قبل ان يحمله المجتمع المسؤولية عن مصير وحالة ذلك البصير.

وفي وضع كالذي يعيشه العراق، بل وحتى سائر بلادنا المأزومة بشكل شائك بين الاجتماعيات والسياسيات والاقتصاديات، فان الواجب على الشريحة المبُصرة والمتنورة بنور العلم والمعرفة أن تدخل بقوة في الساحة للإسهام في معالجة المشاكل ما استطاعت الى ذلك سبيلا.

اضف تعليق