q
إنسانيات - علم نفس

تعلّم التفكير النقدي

التفكير النقدي خصيصة، مقدرة، مقاربة للعالم ولكل شيء؛ وهو على الإطلاق ليس نقدياً بمعنى العدوان، والسلبية، والعدمية، بل على العكس يقف التفكير النقدي في خدمة الحياة، في خدمة إزالة عقبات الحياة التي تشلّنا وإزالتها فردياً واجتماعياً. ويحتاج التفكير النقدي إلى الشجاعة إذا كان المرء يعيش في عالم...

إن المسألة الأساسية في رأيي تعلّم التفكير بطريقة نقدية. فالتفكير النقدي هو السلاح والدفاع الوحيدان اللذان يملكهما المرء ضد الأخطار في الحياة. إذا لم أفكر نقدياً فأنا عرضة لكل التأثيرات، ولكل المقترحات، ولكل الأخطاء، ولكل الأكاذيب المنتشرة، التي أتلقّنها من اليوم الأول فصاعداً. ولا يمكن للمرء أن يكون حراً، ولا أن يكون ذاتَه، ولا أن يكون لـه مركز في ذاته ما لم يكن قادراً على التفكير نقدياً ـ وإذا أردتم ـ كلبياً.

ويعني التفكير النقدي أن يصبح المرء مدركاً كما يمكن أن يُظهر الأطفال: فالأطفال يظلون أكثر نقدية بكثير من البالغين. فعندما يرى الطفل أمه قد قالت للسيدة س:"آه، كم رائع أن أراك" وتتظاهر بكل هذا الكلام، ثم قالت لزوجها بعد أن غادرتها السيدة س:" آه، الحمد لله أنها ذهبت"، يرى الطفل هذا التباين وقد يجرؤ بعدُ على السؤال إلا أن تفكيره النقدي حينئذ يجري تطريقه خطوة بعد خطوة بعد خطوة. وسواء كذبت الأم أو غضبت أو حزنت أو قالت: "أنت لا تفهم ذلك" فهكذا يغدو التفكير النقدي للطفل مختنقاً ببطء حتى لا يَرِد إلى ذهنه مزيد من الأفكار النقدية.

من وجهة نظر بيولوجية خالصة، كلما كنت أقرب إلى الواقع كنت أقدر على أن أعيش حياتي بصورة تفي بالمطلوب. وكلما كنت أقل اقتراباً إلى الواقع، ازدادت الأوهام التي لديّ، وكنت أقل قدرة على أن أتعامل مع الحياة بطريقة وافية بالمراد.

وقد قال ماركس ذات مرة كلمة يمكن أن تكون كذلك شعار التحليل النفسي: "إن المطالبة بالتخلي عن الأوهام حول ظرفه هي المطالبة بالتخلي عن الظرف الذي يحتاج إلى الأوهام"(K.Marx,Mega I,1,1,pp.607-08). وذلك يعني أنه بعدم تخلّص المرء من الأوهام يحافظ على حياة الظروف التي هي غير صحية ولا يمكن إلا أن توجد وتستمر لأن المرء يصنع بنفسه كل هذه الأوهام.

وليس التفكير النقدي هواية، وإنما هو مَلَكَة. وليس التفكير النقدي شيئاً تستخدمه بوصفك فيلسوفاً ثم عندما تكون فيلسوفاً تفكر نقدياً، ولكنك عندما تكون في البيت تتخلى عن تفكيرك النقدي، تخلعه. إن التفكير النقدي خصيصة، مقدرة، مقاربة للعالم ولكل شيء؛ وهو على الإطلاق ليس نقدياً بمعنى العدوان، والسلبية، والعدمية، بل على العكس يقف التفكير النقدي في خدمة الحياة، في خدمة إزالة عقبات الحياة التي تشلّنا وإزالتها فردياً واجتماعياً.

ويحتاج التفكير النقدي إلى الشجاعة إذا كان المرء يعيش في عالم يُزجَر فيه. ولكن على المرء ألا يغالي في تقدير الشجاعة التي يتطلّبها التفكير النقدي.

وأنا حتى الآن لا أتحدث هنا عن الكلام النقدي أو العمل النقدي. فالتفكير نقدياً ممكن حتى بالنسبة إلى الإنسان الذي يعيش في حكم دكتاتوري. إذا لم يُرِد أن يجازف بحياته فيمكن ألاّ يتكلم نقدياً، ولكنه يمكن أن يفكر نقدياً. ومع ذلك فإنه سوف يشعر بأنه اسعد وأشد حرية من الإنسان الحبيس في أفكاره والأسير لنظام فكري لا يؤمن به.

وبوسع المرء أن يكتب مجلدات حول صلة التفكير النقدي بالصحة الذهنية، والعصاب، والسعادة. ولو تكلمت الفلسفة عموماً بطريقة موجّهة إلى الشخص ad personam أكثر، أي بمزيد من الإشارة إلى ما تعني الفلسفة في حياتي وحياتك، لكان التفكير النقدي بالفعل ولكانت الفلسفة وبصورة أشد وضوحاً بكثير مجالاً ذا أهمية شخصية عظيمة. وسواء تعاملت مع سقراط أو كانْت أو سبينوزا، فالمسألة الأساسية هي أنهم يعلمونك التفكير النقدي.

* مقتبس من كتاب: فــن الإصــغاء-إريك فروم

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق