q
لقد استغلت تركيا الوضع المتدهور في العراق وسوريا، لا سيّما باحتلال داعش أجزاء منهما للمضي في مشاريعها المائية في حوضي دجلة والفرات، بل تمادت في تدخلاتها بالشأنين السوري والعراقي، بإرسال قواتها إلى داخل البلدين والبقاء فيهما، تارة بزعم التصدّي لداعش والإرهاب الدولي وأخرى لملاحقة المسلحين الأكراد...

تدرك تركيا أن بإمكانها أن تضطلع بدور لا تستطيع “إسرائيل” القيام به، فهذه الأخيرة هي في نظر الشعوب العربية قاطبة عدو قائم وعدوان مستمر، على الرغم من محاولات التطبيع والضغوط الدولية؛ وفي المقابل، تتمتّع تركيا بمزايا عديدة وشعبها مسلم وموقعها استراتيجي وقواها البشرية كبيرة، وإمكاناتها الاقتصادية هائلة، فضلاً عن ذلك، فإن لديها علاقات تاريخية مع العرب وحكمت البلدان العربية وغيرها أكثر من 4 قرون ونيّف من الزمان.

وتمتلك تركيا ترسانة ضخمة من السلاح، فهي بلد مترامي الأطراف، حيث منحها العامل الجغرافي سيطرة على آسيا الصغرى والمضايق، التي تشكل معاً حلقة الوصل بين دول البلقان ومنطقة الشرق الأوسط، كما منحها أهمية استراتيجية تعود إلى حدودها الشمالية الشرقية مع الاتحاد السوفييتي (سابقاً).

لذلك يمكنها أن تلعب دوراً محورياً في الشرق الأوسط، لا تستطيع دولة غيرها أن تعوضه، وهذا الاعتقاد هو الذي حدّد بعض ملامح الاستراتيجية التركية في العقود الماضية، ولا سيّما بعد الحرب العراقية – الإيرانية.

إن مثل هذه السياسة وذلك الطموح في السابق والحاضر يفسر دور تركيا بالسلب أو الإيجاب، فهي تريد أن تلعب دوراً محورياً إقليمياً معادلاً أو حتى أكبر من دور إيران، وتسعى للحصول على نفوذ من خلال علاقتها بين العرب و”إسرائيل”، برغم ما تعرّضت له مؤخراً من إشكالات مع الأخيرة، كما تريد تأمين مصالحها القومية المتعاظمة والظهور بمظهر الدولة القائدة في المنطقة، خصوصاً بـ”إسلام معتدل”، وهو غير الإسلام الإيراني أو الإسلام الذي كان يدعو إليه أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة أو تنظيم داعش وأبو بكر البغدادي، وقد تم تقديم الإسلام التركي باعتباره الأكثر قبولاً وانسجاماً مع مصالح الغرب، ومثل هذا التقدير يكاد يكون عاماً لدى أوساط مختلفة ومتعارضة أحياناً وفيه قدر من الحقيقة.

لكنه تعرّض للتصدّع بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في 15 تموز (يوليو) العام 2016 وما أعقبها من إجراءات وملاحقات وصفت بأنها كانت عقوبات جماعية وتضمنت انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، حسب العديد من تقارير المنظمات الحقوقية الدولية، وخصوصاً بتعاظم دور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وطموحاته التوسعية، التي تم انتقادها أوروبيا.

إن قطع المياه المتكرر من جانب تركيا والتي يتضرر منها كل من سوريا والعراق يوضح أبعاد المخطط الذي لم يكن في الواقع سوى “پروفة” دولية لقياس درجة رد الفعل العربي، علماً بأن تركيا ظلّت ترفض بحث الموضوع بصورة جدية مع سوريا والعراق حتى العام 1988ولعلّ سياسة تركيا المائية هي جزء من استراتيجيتها العامة التي تحاول أن تمدّ أذرعها، لا سيّما باستخدام نفوذها المائي، ويعتبر سد أتاتورك (الذي تم إنجازه) واحداً من 21 سدّاً تم انجازها في جنوب شرقي تركيا مع مطلع الألفية الثالثة، وبلغت كلفة المشروع 45 بليون دولار، وهو ما أدى إلى نقص هائل في مياه نهر الفرات يقدر بـ 14 بليون متر مكعب، علماً بأن النقص الحاصل من التبخّر يساوي 3 بليونات متر مكعب.

ومشكلة نهر الفرات قديمة نسبياً وتعود إلى بضعة عقود من الزمان عندما أزمعت تركيا على تنفيذ مشاريعها لري جنوب شرقي الأناضول، وقد ساهم الخلاف السوري – العراقي في عدم اتخاذ موقف موحد رادع لتركيا في حينها.

تبلغ سعة سد أتاتورك 48 بليون متر مكعب في حين تبلغ سعة خزّان سدّ الفرات في سوريا 9.3 بليون متر مكعب؛ وتسعى تركيا لزيادة الطاقة الكهربائية إلى الضعف من خلال المشروع والقيام بدور سلّة الغذاء من الناحية الزراعية لتمويل الشرق الأوسط، وذلك من خلال مشروع الغاب Gap. وكان الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال قد قال في وقت مبكر “سيأتي يوم نبدّل فيه برميل مائنا ببرميل النفط”.

باشرت تركيا منذ العام 1985 بتنفيذ مشروع الغاب Gap الضخم على نهري دجلة والفرات ويتألف من 13 قسماً، 6 منها على نهر دجلة و7 على نهر الفرات ويغطّي ست محافظات تركية، ومن الناحية الفعلية، فإن تركيا ومن خلال هذا المشروع العملاق يمكن أن تتحكم بالمياه وتستخدمها لفرض سياسات واقتصاديات على كل من سوريا والعراق، خصوصاً حين تصبح أيضاً “سلة غذاء” لتزويد الشرق الأوسط بما يحتاج من مزروعات وفواكه وذلك بالضد من معاهدة هلسنكي التي تنظّم حقوق الدول المتعلقة بالأنهار الدولية لعام 1973 ومؤتمر الأرجنتين حول الموارد المائية لعام 1977، تلك التي تنظّم طرق الاستفادة من الأنهار الدولية وفقاً لقواعد الحق والعدل والحاجة الضرورية، وبما لا يؤدي إلى إلحاق ضرر بالسكان والممتلكات والبيئة وغيرها من الاستخدامات غير المشروعة.

ومن مبرّرات تركيا أن حوضي الفرات ودجلة هما حوض واحد وتقترح جدولة الاحتياجات وإدخال نهر العاصي السوري في حسابات تقاسم المياه وغيرها من الذرائع التي تصرّ على كونها فنية ولا تحمل أي هدف سياسي ولا تضمر إلحاق الأذى بالجيران.

إن قطع المياه المتكرر من جانب تركيا والتي يتضرر منها كل من سوريا والعراق يوضح أبعاد المخطط الذي لم يكن في الواقع سوى “پروفة” دولية لقياس درجة رد الفعل العربي، علماً بأن تركيا ظلّت ترفض بحث الموضوع بصورة جدية مع سوريا والعراق حتى العام 1988، خصوصاً باستغلال ظروف الحرب العراقية – الإيرانية والخلافات السورية – العراقية، لكن امتناع البنك الدولي من تقديم المساعدة لتركيا لحين التوصل إلى اتفاق لاقتسام مياه النهر هو الذي جعلها توافق على وضعه على طاولة المفاوضات.

ويبلغ معدل التدفق السنوي لنهر الفرات 31.8 بليون متر مكعب وملء الخزان والسدود الأخرى يحتاج إلى قطع متواصل ربما لبضعة أسابيع أو أشهر وهو أمر يعطي فكرة عن حجم الضرر الذي سيقع على كل من سوريا والعراق والمخاطر والآفاق التي تنتظرهما.

فالفرات يروي ثلثي الأراضي المروية في سوريا ويوفر سد الفرات 70 % في المئة من حاجتها من الكهرباء ويولد طاقة بحدود 800 ألف ميغاواط سيتم تعطيلها عملياً، إضافة إلى إلحاق ضرر كبير بمشروع يوسف باشا الذي يؤمن ري 200 ألف هكتار ويولد طاقة بحدود 400 ألف ميغاواط.

يبلغ معدل التدفق السنوي لنهر الفرات 31.8 بليون متر مكعب وملء الخزان والسدود الأخرى يحتاج إلى قطع متواصل ربما لبضعة أسابيع أو أشهر وهو أمر يعطي فكرة عن حجم الضرر الذي سيقع على كل من سوريا والعراق

أما العراق، فإنه الأكثر ضرراً، فالفرات يروي 1.3 مليون هكتار (13 مليون دونم) من الأراضي الزراعية الجيدة، وتشرب منه 7 محافظات هي: الأنبار وبابل وكربلاء والنجف والقادسية والمثنى وذي قار، إضافة إلى 30 قضاء و70 ناحية وأكثر من 4500 قرية، ويبلغ عدد السكان المستفيدين منه نحو 14 مليون إنسان، ومع أن سد حديثة (القادسية) ومشروع سد الورار ومشروع سد الهندية، تتغذّى من النهر وتختزن المياه للاستفادة منها عند الحاجة وفي حال نقص المياه، إلاّ أنها لا تستطيع أن تسدّ النقص الذي يتسبب به انقطاع المياه، فضلاً عن أن ذلك أدى إلى التأثير على بحيرة الحبّانية التي تتغذّى من الفرات لمرّات عديدة، فهو مرتبط بمشروع بحيرة “وان”، وقد وصف سليمان ديميرال رئيس الوزراء التركي الأسبق المشروع بأنه “الوطن الذهب للقرن المقبل”.

لقد استغلت تركيا الوضع المتدهور في العراق وسوريا، لا سيّما باحتلال داعش أجزاء منهما للمضي في مشاريعها المائية في حوضي دجلة والفرات، بل تمادت في تدخلاتها بالشأنين السوري والعراقي، بإرسال قواتها إلى داخل البلدين والبقاء فيهما، تارة بزعم التصدّي لداعش والإرهاب الدولي وأخرى لملاحقة المسلحين الأكراد من حزب PKK، وهي ما تزال ترفض الانسحاب من الأراضي العراقية حيث توجد لها قاعدة عسكرية بالقرب من أربيل، حتى بعد هزيمة داعش عسكرياً، ناهيك عن مسعى فرض منطقة عازلة على الحدود التركية – السورية، بدعم من واشنطن وبحجة مواجهة الإرهاب، ولا سيّما بعد إعلان الانسحاب الأمريكي من سوريا.

في السابق كانت كلّما تتعقّد العلاقات العربية – التركية تلتجئ تركيا للتلويح بالسيف النووي الأطلسي وبدور الشريك مع الدول الغربية (امبريالية الفرع) وبمصالحها في العالم العربي، وقد تبينت هذه الصورة عند انقلاب كنعان إيڤرين في أيلول/سبتمبر 1980 الذي رفع الطموحات إلى مرحلة التنفيذ، لكي تساهم تركيا بنفوذ أكبر في المنطقة، وخصوصاً في العالم العربي، وذلك من خلال ضغوطها على كل من سوريا والعراق فضلاً عن استمرار علاقتها مع “إسرائيل”.

ومن أهم الاتفاقيات الجديدة الموقعة بين “إسرائيل” وتركيا بعد حكم حزب العدالة والتنمية مشروع نهر مناوجات الذي يصب في البحر المتوسط شرق إنطاليا، حيث تم الاتفاق على قيام تركيا ببيع “إسرائيل” 50 مليون كم3 لمدة 20 عاماً بواسطة النقل البحري، وقد تم ذلك في العام 2004 وحتى بعد حادث أسطول الحرية العام 2010 لم يعلن عن إيقاف العمل بهذا الاتفاق.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق