q
إن كان بايدن سيبقى ضعيفًا على المدى الطويل جراء الأزمة الأفغانية، الجمهوريين سيفعلون كل ما بوسعهم كي تكون الحال كذلك. تشوش هذه الانتقادات الكثيرة على البيت الأبيض الراغب في التركيز على تقدم الخطط الاقتصادية الهائلة للرئيس التي يُفترض أن تسمح للولايات المتحدة بـالفوز في المنافسة مع الصين...

يتحوّل انتهاء مهمة الولايات المتحدة في أفغانستان مع مقتل 13 جندياً أميركياً إلى سيناريو كارثي بالنسبة للرئيس جو بايدن الذي يواجه أخطر أزمة في عهده ويبدو مقيد اليدين أمام وضع لم يتوقعه أبداً.

وقال الخميس أمام الكاميرات "يوم صعب"، بعد ساعات من هجوم انتحاري مزدوج قرب مطار كابول، من دون أن يخفي الرئيس الـ46 للولايات المتحدة تأثره.

أشاد بايدن فيما كانت عيناه مغرورقتين بالدموع، بهؤلاء "الأبطال" الذين سقطوا في الهجوم الأكثر دموية بالنسبة للجنود الأميركيين منذ آب/أغسطس 2011.

تحدث بايدن بلهجة صارمة وكأنه يردّ على الاتهامات بالضعف. وتوجه لمنفذي الهجوم بالقول "سنطاردكم وسنجعلكم تدفعون الثمن".

بينما يتعرض بايدن أيضاً لانتقادات متزايدة لتجنّبه الردّ على أسئلة الصحافيين، أظهر انزعاجه فأغمض عينيه وأحنى رأسه مصغياً إلى صحافي من قناة "فوكس نيوز" المحافظة يسأله حول "مسؤولياته" الخاصة في هذه المسألة.

كما فعل مرات عدة منذ أسبوعين، اضطرّ بايدن إلى تغيير جدول أعماله، مرجئاً لقاءه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت يوماً واحداً.

يرى رئيس مجموعة "أوراسيا غروب" البحثية إيان بريمر في حديث لوكالة فرانس برس "أنها أزمة كبيرة في عهده" معتبراً أنه "فشل للاستخبارات، فشل للتخطيط، فشل للتواصل، فشل للتنسيق مع الحلفاء".

لم "يتوقع" الرئيس، باعترافه الشخصي، الانهيار السريع للجيش الأفغاني الذي درّبته واشنطن وجهّزته وموّلته، وسقوط كابول بين أيدي حركة طالبان.

وكما كانت الحال في النزاع بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية في أيار/مايو، تعطي إدارة بايدن انطباعاً بأنها تواجه صعوبة في التكيف مع ما حدث بشكل غير متوقع على الساحة الدولية.

ويبدو أن الغموض السائد منذ انتصار طالبان في 15 آب/أغسطس فاجأ بايدن الذي كان في كامب ديفيد حيث يمضي الرؤساء الأميركيون عطلهم. مذاك كثّف الرئيس الديموقراطي البالغ 78 عاماً تصريحاته، بعدما لزم في البداية الصمت، لكن ذلك لم يوقف الانتقادات.

وتمّ تأخير تصريحه الثلاثاء لحوالى خمس ساعات فيما كان العالم ينتظر معرفة ما إذا كان سيخضع للدعوات الدولية من أجل إرجاء الموعد الأخير للانسحاب الأميركي المقرر في 31 آب/أغسطس، وبالتالي لعمليات إجلاء الأجانب والأميركيين المهددين بهجمات انتقامية من جانب طالبان. وأكد أخيراً انهاء سحب القوات الأميركية في الموعد المحدد.

أكد جو بايدن الذي انتُخب لكونه عبر عن رؤية جامعة، قرار سلفه الجمهوري دونالد ترامب بسحب كافة القوات الأميركية من أفغانستان.

لكنه حالياً يواجه انتقادات من كل حدبٍ وصوب لإدارته عملية الانسحاب، ولعدم تنظيمه في وقت مبكر عمليات الإجلاء اللازمة، ما يرغم الجيش الأميركي على إرسال قوات على وجه السرعة لإدارة جسر جوي ضخم وسط الفوضى.

وقال ترامب الخميس إن "هذه المأساة ما كان يجب أن تحدث"، بعدما دعا الأسبوع الماضي بايدن للاستقالة.

من جهتها اعتبرت النائبة الجمهورية إيليز ستيفانيك أن "يدي جو يادين ملطختان بالدماء" مضيفةً أنه "غير قادر على أن يكون القائد الأعلى".

يشبّه مراقبون كثرٌ هجوم كابول الأخير بهجوم بنغازي عام 2012 الذي أودى بحياة السفير الأميركي لدى ليبيا، وأفسد صورة إدارة باراك أوباما.

يقول أستاذ العلوم السياسية مارك روم لفرانس برس، "لا أعرف إن كان بايدن سيبقى ضعيفًا على المدى الطويل" جراء الأزمة الأفغانية، مشيراً إلى أن "الجمهوريين سيفعلون كل ما بوسعهم كي تكون الحال كذلك".

تشوش هذه الانتقادات الكثيرة على البيت الأبيض الراغب في التركيز على تقدم الخطط الاقتصادية الهائلة للرئيس التي يُفترض أن تسمح للولايات المتحدة بـ"الفوز" في المنافسة مع الصين، ما يُعتبر الأولوية الفعلية الوحيدة لسياسته الخارجية.

تراجعت شعبية بايدن منذ عشرة أيام في استطلاعات الرأي، رغم أن جزءاً كبيراً من الأميركيين المرهقين من حروب الولايات المتحدة "التي لا تنتهي"، يعتبرون على غرار الرئيس، أنه كان ينبغي مغادرة أفغانستان.

ويرى مدير معهد "ماركيت لو سكول" لاستطلاعات الرأي تشارلز فرانكلن أن "السؤال السياسي هو أن نعرف بعد استكمال الانسحاب، إذا كانت الأغلبية راضية عن مغادرتنا" أفغانستان. ويضيف "إذا كانت هذه الحال، فالجدل يمكن أن ينتهي".

يبدو أن جو بايدن يراهن على ذلك.

وقال مجدداً الخميس في ختام مؤتمره الصحافي "سيداتي سادتي، حان الوقت لوضع حدّ لعشرين عاماً من الحرب".

تدارك تسارع الأحداث

ويبدي الرئيس الأميركي جو بايدن ثقة كبيرة بأن قرار الخروج من أفغانستان الذي قد يبدو كارثيا، ستثبت صوابيته في نهاية المطاف، وتعتلي وجهه ابتسامة عريضة لدى سؤاله عن تراجع التأييد الشعبي له.

نهاية الأسبوع، صرّح الرئيس الأميركي للصحافيين "أعتقد أنه عندما ينتهي هذا الأمر، سيفهم الأميركيون بكل وضوح ما الذي فعلته"، وتابع "يفرض عليّ منصبي اتّخاذ قرارات. اتّخاذ قرارات لا يمكن لسواي اتّخاذها".

وفي العاصمة الأفغانية عمّت الفوضى وتدفّق أفغان اعتراهم الذعر على مطار كابول، مما أسفر عن مشاهد مرعبة لأشخاص يحاولون التشبّث بطائرات وسقوطهم ومصرعهم.

وفي الولايات المتحدة لم يدل بايدن بادئ الأمر بأي موقف علني ما عرّضه لانتقادات حادة من الجمهوريين ومن بعض من حلفائه.

لكن البيت الأبيض يحاول حاليا استعادة زمام المبادرة على هذا الصعيد وتدارك تسارع الأحداث في ملف أفغانستان.

ويتولى البنتاغون جزءا من هذه المهمة عبر إحاطات يومية لسد الفراغ الذي خلّفه نقص المعلومات الصادرة عن البيت الأبيض في الأيام الأولى من الأزمة.

لكن بايدن البالغ 78 عاما بدأ يتولى بشكل تدريجي المهمة بتوجيهه كلمات شدّد فيها على أن ما يشهده الأميركيون ليس إخفاقا بل عملية انسحاب باسلة من حرب وجب أن تنتهي.

لكن مسار الأمور إلى الآن لا يصب سياسيا في مصلحة بايدن الذي ترزح إدارته تحت وطأة تفشي المتحورة دلتا من فيروس كورونا واحتجاجات على فرض الكمامات وحملة التلقيح.

وأظهر استطلاع نشرت نتائجه شبكة "إن.بي.سي" الأحد أن نسبة التأييد لبايدن تراجعت من 53 بالمئة قبل أربعة أشهر إلى 49 بالمئة، وأن نسبة عدم تأييده ارتفعت من 39 بالمئة إلى 48 بالمئة.

وحول طريقة إدارته لملف أفغانستان بلغت نسبة عدم مؤيدي الرئيس الأميركي 60 بالمئة، بحسب الاستطلاع.

لكن بايدن يجسّد مثال السياسي المواظب على التفاؤل، ولدى سؤاله عن النتائج السلبية للاستطلاع اكتفى بالابتسام والضحك وبالقول "لم اطّلع على هذا الاستطلاع".

ويبدي بايدن ثقته بأن صوابية القرار ستثبت في نهاية المطاف، لكن الوقت قد لا يصب في مصلحته.

كما أن الوقت بدأ ينفد على صعيد قدرة بايدن على تولي دفة القيادة السياسية وسط خصوم يحشدون طاقاتهم وحلفاء يعتريهم التوتر.

فعلى صعيد المشروعين الإنفاقيين الضخمين لتحديث البنى التحتية اللذين كان من المفترض أن يتوّجا النصف الأول من ولايته، بات التريث سيّد الموقف وسط مواصلة قادة الحزب الديموقراطي في الكونغرس سعيهم إلى ضمان العدد الكافي من الأصوات لإقرارهما في مجلس النواب.

كما تلوح في الأفق انتخابات منتصف الولاية التي قد يخسر فيها الديموقراطيون غالبيتهم الضئيلة في مجلسي النواب والشيوخ، الأمر الذي من شأنه أن يعقّد كثيراً العامين الأخيرين من ولاية بايدن.

لكنّ المتحدّثة باسم البيت الأبيض جين ساكي حاولت الإثنين التقليل من شأن هذه المخاوف.

وقالت للصحافيين إنّ "الحكم الرشيد لا يُقاس بمستوى أدائك عندما تكون في أفضل أيامك، بل بالطريقة التي تتعامل فيها مع الأمور في أصعب الأوقات".

سنطاردكم ونجعلكم تدفعون الثمن

وتعهّد الرئيس الأميركي جو بايدن ملاحقة منفّذي الهجوم الانتحاري الذي وقع الخميس قرب مطار كابول وأسفر عن مقتل 13 جندياً أميركياً وعشرات المدنيين الأفغان، مؤكّداً من جهة ثانية تمسّكه بإنجاز الانسحاب العسكري من أفغانستان في 31 الجاري وبمواصلة عمليات الإجلاء إلى ذلك الحين.

وفي خطاب ألقاه في البيت الأبيض ووصف فيه جنود بلاده الذين قتلوا في الهجوم الانتحاري بأنّهم "أبطال"، قال بايدن "لأولئك الذين نفّذوا هذا الهجوم وكذلك لأي شخص يتمنّى الضرر لأميركا، اعلموا هذا: لن نسامح. لن ننسى. سنطاردكم ونجعلكم تدفعون الثمن".

وقال بايدن إنّه "خلال الأيام المقبلة، بين اليوم و31" آب/أغسطس، هناك متّسع من الوقت لإجلاء المواطنين الأميركيين وأكبر عدد ممكن من طالبي اللجوء الأفغان الذين تمّت الموافقة على طلباتهم.

وأضاف "نظراً إلى أنّه من الممكن جداً أن يقع هجوم جديد فقد خلص الجيش إلى أنّه هذا ما يتعيّن علينا فعله، وأعتقد أنّهم (العسكريون) على حقّ".

وشدّد الرئيس الأميركي على أنّ عمليات الإجلاء ستتواصل من مطار كابول على الرّغم من الهجوم.

وقال "الولايات المتحدة لن تسمح بترهيبها"، مضيفاً "لن نسمح لإرهابيين بأن يثبطوا عزيمتنا. لن ندعهم يوقفون مهمّتنا. سنواصل عمليات الإجلاء"

كما أعلن الرئيس الديموقراطي أنّ لا دليل حتى الساعة على حصول "تواطؤ" بين حركة طالبان وتنظيم الدولة الإسلامية في الهجوم الانتحاري الذي تبنّاه التنظيم الجهادي وأسفر أيضاً عن إصابة 15 جندياً أميركياً بجروح.

وقال بايدن إنّه "حتى الآن، لم يتمّ تزويدي بأيّ دليل على حصول تواطؤ بين طالبان والدولة الإسلامية في ما حدث اليوم".

الجمهوريون يهاجمون الرئيس جو بايدن

بمواجهة الأزمة الأفغانية ومقتل 13 عسكريا أميركيا في الهجوم على مطار كابول، يشن الجمهوريون الأميركيون حملة ضد الرئيس جو بايدن منادين بـ"الاستقالة" او "الإقالة"، في بلد يلتف عادة على بعضه عند وقوع مأساة وطنية، ما يكشف عن عمق الانقسامات القائمة في واشنطن وحجم الرهانات السياسية القادمة.

وكتبت المسؤولة الثالثة في الحزب الجمهوري في مجلس النواب إليز ستيفانيك في تغريدة "يدا جو بايدن ملطختان بالدماء".

كما أعلن السناتور جوش هاولي أن على الرئيس الديموقراطي المسؤول عن "فشل مشين في أفغانستان" أن يستقيل، فيما دعت الجمهورية مارشا بلاكبورن صراحة كبار مسؤولي إدارة بايدن إلى التخلي عن مهامهم.

وإن كانت هذه الأصوات المؤيدة للرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب ترتفع بقوة، فإن كبار المسؤولين الجمهورييين يتفادون حتى الآن دعوة بايدن (78 عاما) إلى الاستقالة، غير أنهم يجمعون على التنديد بإدارته لعملية الانسحاب من افغانستان.

ورأى زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب كيفن ماكارثي الجمعة أن أعمال جو بايدن "تنم عن ضعف وعدم كفاءة".

وينعت العديد من الجمهوريين الرئيس بـ"الضعيف" منذ الاعتداء الذي أوقع 85 قتيلاً على الأقلّ، بينهم 13 جنديّاً أميركيّاً، وتبناه تنظيم الدولة الإسلامية.

وقال ماكارثي خلال مؤتمر صحافي في الكونغرس الجمعة "حتى يكون شخص القائد الأعلى، يجب أن يحظى بثقة" الأميركيين، إلا أن بايدن خسر هذه الثقة برأيه.

لكنه لم يمض إلى حد الدعوة إلى استقالته أو مباشرة آلية إقالة بحقّه، مكتفيا بالدعوة إلى إجلاء جميع الأميركيين المتبقين في كابول قبل انتهاء المهلة في 31 آب/أغسطس.

وأضاف "بعد هذا التاريخ، سيكون بإمكاننا بذل كل الجهود من أجل المحاسبة" مؤكدا "ستحين ساعة الحقيقة".

غير أن الاستقالة والإقالة مستبعدتان تماما في ظل سيطرة الديموقراطيين على الكونغرس واصطفافهم بقوة خلف بايدن.

لكن هذه الدعوات قد تحدث تعبئة بين الناخبين الجمهوريين مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية الحاسمة في منتصف الولاية الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 والتي تأمل المعارضة خلالها أن تستعيد الغالبية.

وعلقت خبيرة الإستراتيجيا الديموقراطية ليز سميث التي كانت مسؤولة عن الإعلام في حملة بيت بوتيدجيدج للانتخابات الرئاسية، في تغريدة الجمعة أن "الجمهوريين الذين يدعون بايدن إلى الاستقالة غير جدّيين تماما مثل الديموقراطيين الذين كانوا يدعون ترامب إلى الاستقالة".

وتابعت "يأتي وقت تفقد فيه هذه الكلمة أي معنى وتبدون مثيري للسخرية فحسب".

وبعد الاعتداء الدامي الذي استهدف مطار كابول، أعلن الرئيس الخميس من البيت الأبيض "أتحمل بشكل جوهري مسؤولية كل ما حصل مؤخرا".

لكنه ذكر بالاتفاق الموقع عام 2020 بين طالبان ودونالد ترامب الذي تعهد بسحب القوات الأميركية بالأساس في أيار/مايو، فدافع عن قراره الانسحاب بشكل تام من أفغانستان وطريقة تنفيذ هذا الانسحاب مؤكدا "حان الوقت لإنهاء حرب استمرت عشرين عاما".

وتتباين هذه الهجمات اللاذعة مع الصورة التقليدية لبلد اتحد على الدوام بمواجهة المحن بدون أن يوجه اللوم مباشرة إلى الرئيس، وهو ما حصل بعد اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر في عهد جورج بوش، وبعد الهجوم الذي أودى بـ241 عنصرا من المارينز في بيروت عام 1983 في عهد رونالد ريغان.

لكن الانقسامات التي كانت قائمة في عهد باراك أوباما (2009-2017) ازدادت حدة في عهد ترامب.

والدعوات إلى رص الصفوف التي وردت بعد اعتداء كابول كادت تبدو عبثية وبالية.

وكتب السناتور الجمهوري كيفن كريمر الخميس "إن كان البعض قد يرى فائدة في استغلال هذه اللحظة لتسجيل نقاط سياسية، فهذا ليس الوقت المناسب".

وتابع "أعزائي المواطنين، دعونا نتجمع ونحدّ على الذين سقطوا ونعزّي الذين يعانون ونصلي من أجل السلام وحس المسؤولية والأمن".

لماذا لم يترك بايدن 2500 جندي في أفغانستان؟

مع الانتصار الكاسح الذي حققته حركة طالبان بعد قرار جو بايدن الانسحاب من أفغانستان بحلول 31 آب/أغسطس، ترتفع أصوات منتقدة تتساءل لماذا لم يترك الرئيس الأميركي قوة من 2500 جندي في البلد لدعم الحكومة الأفغانية.

ذلك كان عدد العسكريين الاميركيين في أفغانستان عند دخول بايدن إلى البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير، بعدما خفض سلفه دونالد ترامب إلى حد كبير الوجود العسكري الأميركي في هذا البلد إثر رفعه إلى 15 ألف جندي في بداية ولايته.

وكان هذا الحجم من القوات الأميركية إضافة إلى 16 ألف متعاقد مدني مع الجيش الأميركي يبدو كافيا لإبقاء الحكومة الأفغاني في السلطة بعد توقيع الولايات المتحدة اتفاقا مع طالبان في 29 شباط/فبراير 2020، نصّ بالأساس على انسحاب القوات الأميركية قبل الأول من أيار/مايو.

وضاعفت طالبان على مدى أكثر من عام هجماتهم على القوات الأفغانية، غير أن انتصاراتها بقيت محصورة في مناطق ريفية غير استراتيجية.

وعملا بالاتفاق مع واشنطن، باتت الهجمات التي تستهدف قوات الحلف الأطلسي نادرة، ولم يُقتل أي جندي أميركي في أفغانستان منذ شباط/فبراير 2020.

ويرى معارضو بايدن في ذلك دليلا على أنه كان بإمكان الحكومة الأفغانية الصمود بوجه تقدم طالبان لو تم الإبقاء على قوة داعمة لها.

وقال رئيس الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل هذا الأسبوع "لم يكن لدينا سوى 2500 عنصر هناك، وهو وجود خفيف، ولم يكن هناك فوضى، ولم يقتل جندي واحد خلال عام من المعارك".

وحض بايدن على عدم الانسحاب من هذا البلد بل تعزيز الوجود العسكري الأميركي فيه محذرا من أنه "إذا تركنا طالبان تسيطر على أفغانستان والقاعدة تعود إلى البلد، فسيثير ذلك حماسة الجهاديين في العالم بأسره".

وعمد بايدن الذي يدعو منذ زمن طويل إلى الانسحاب من أفغانستان، في بداية ولايته إلى التريث قليلا لدرس المسألة، ثم أعلن في منتصف نيسان/أبريل أن الولايات المتحدة ستنسحب من افغانستان إنما بعد ثلاثة أشهر من الموعد الذي قرره ترامب.

وأوضح هذا الأسبوع أن الخيار "كان إما احترام هذا الاتفاق وإما الاستعداد لمقاتلة طالبان من جديد".

وقال إنه لو لم يحدد مهلة، لكان المتمردون استأنفوا هجماتهم على الجنود الأميركيين مؤكدا "لما كان هناك وضع قائم مستقر بعد الأول من أيار/مايو بدون قتلى أميركيين".

وكان لقرار بايدن وطأة مذهلة، فسرعت حركة طالبان هجومها العسكري وتوقف الجنود الأفغان عن القتال وسلم المسؤولون المحليون مدنهم لطالبان بدون مقاومة، وواصل المقاتلون حملتهم حتى سقوط كابول في 15 آب/أغسطس.

وحمّل المؤرخ العسكري ماكس بوت بايدن مسؤولية تفكك الجيش الأفغاني، في مقال نشرته صحيفة واشنطن بوست.

وكتب "يقول العديدون إن 2500 عنصر لما كانوا يكفون لإحداث فرق" لكن "أحداث الأشهر الأخيرة تنقض هذه الحجة: فهجوم طالبان الأخير لم يبدأ إلا عندما باتت القوات الأميركية على وشك استكمال انسحابها".

وأضاف أنه لو أبقت الولايات المتحدة هؤلاء الجنود في البلد وواصلت دعمها الجوي للقوات الأفغانية "لكان ذلك كافيا للحفاظ على توازن هش، مع تقدم طالبان في الأرياف وبقاء جميع المدن الكبرى بأيدي الحكومة".

يتفق بايدن ومعارضوه على أمر واحد، هو أن الحكومة والجيش الأفغانيين كانا يعتمدان إلى حد بعيد على الولايات المتحدة. وعند سحب الدعم العسكري والتقني لهما ووقف التمويل الأميركي، انهار البلد تماما.

ويشير المنتقدون إلى أن الولايات المتحدة تبقي 2500 جندي في العراق، فضلا عن عشرات آلاف العسكريين المنتشرين في ألمانيا وكوريا الجنوبية واليابان منذ الحرب العالمية الثانية.

ويؤكدون أن استثمارا بهذا المستوى في أفغانستان لكان منع عودة نظام صديق للقاعدة إلى البلد.

لكن في المقابل، يعتبر الرئيس الأميركي وحلفاؤه أن هذا لا يبرر الكلفة البشرية والمادية لقاء توفير دعم لحكومة أفغانية فاسدة وغير كفوءة، وأكد بايدن أن الوضع سيكون على ما هو حتى لو أبقى قوات هناك لخمس سنوات إضافية.

ولفت مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جايك ساليفان إلى أن الجيش الأفغاني كان في تراجع بالأساس حين رفع ترامب عديد القوات الأميركية في أفغانستان إلى 15 ألف عنصر في 2017.

وقال إن "ما حصل في الأسابيع الأخيرة أثبت بما لا يمكن نقضه أنه كان يتحتم الإبقاء على وجود عسكري ضخم أكبر بكثير من الانتشار الذي ورثه الرئيس بايدن لوقف هجوم طالبان (...) وكنا سنتكبد خسائر بشرية".

بايدن في مواجهة أميركيين خائبين وحلفاء ممتعضين

بدا الرئيس الأميركي جو بايدن وحيدا مع نواب من معسكره الديموقراطي يشعرون بخيبة أمل ورأي عام يتسم بالفتور وحلفاء دوليين يشعرون بالمرارة فيما يحاول البيت الأبيض جاهدا الدفاع عن إدارته لقرار الانسحاب من أفغانستان.

حتى الآن، كان قرار سحب القوات الأميركية الذي اتخذه دونالد ترامب في البداية وأكده جو بايدن من خلال تحديد الموعد النهائي في 31 آب/اغسطس، يحظى بشعبية لدى الرأي العام الأميركي.

لكن الأميركيين صدموا من السرعة التي سيطرت بها طالبان على البلاد ومن الصور المذهلة لمطار كابول الاثنين، والإجلاء الكارثي لموظفي السفارة الأميركية.

فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه "بوليتيكو" و"مورنينغ كونسالت" من 13 الى 16 آب/اغسطس أن 49% فقط من 1999 ناخبا يساندون قرار الرئيس الديموقراطي الانسحاب من أفغانستان مقابل 69% في نيسان/ابريل.

تريد إدارة بايدن أن تكون فعالة ومنظمة بشكل جيد وحريصة على إجراء مشاورات على المستوى الوطني كما الدولي لكنها تتعرض لهجمات حول كل هذه النقاط حتى من جانب ديموقراطيين في الكونغرس.

عبر الديموقراطي بوب مينينديز رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ عن "خيبة أمله لأن إدارة بايدن فشلت بشكل واضح في تقدير عواقب الانسحاب السريع".

من جهته، قال سيث مولتون وهو من قدامى المحاربين في الجيش الأميركي ونائب ديموقراطي في مجلس النواب "النداء الذي أوجهه الى الإدارة منذ عدة أشهر هو أنه يتعين علينا إجلاء حلفائنا والاهتمام بالشكليات الادارية بعد وضع الأبطال في مكان آمن. لم يسمعوا هذا النداء".

يتعرض الرئيس الأميركي أيضا لانتقادات بسبب برودته الظاهرة لا سيما وانه كان يبدي دائما تعاطفا مع مواطنيه.

وقال عرفان نور الدين الخبير في شؤون جنوب آسيا والاستاذ في جامعة جورج تاون إن "اللهجة التي استخدمها لوصف الجيش الأفغاني والحكومة كانت تفتقر إلى التعاطف والتفهم في وقت تطغى فيه على الشاشات الصور المؤلمة لهؤلاء الأفغان وهم يحاولون الهرب من الكابوس".

ينتقد البيت الأبيض أيضا العسكريين الأفغان الذين سلحتهم ودربتهم الولايات المتحدة بسبب تقاعسهم في مقاتلة طالبان.

أخيرا، يواجه جو بايدن الذي يفاخر دائما بخبرة طويلة في مجال السياسة الخارجية ويؤكد بانتظام أن "أميركا عادت" الى الساحة الدولية، حلفاء يشعرون بالمرارة.

أجرى الرئيس الأميركي الذي لم يتحدث إلى أي رئيس دولة أو حكومة أجنبية منذ سقوط كابول، محادثة مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون.

وذكر بيان للبيت الأبيض أن الرجلين "اتفقا على عقد قمة افتراضية لرؤساء دول وحكومات مجموعة السبع الأسبوع المقبل لمناقشة اعتماد مقاربة واستراتيجي مشتركة" كما جاء في بيان للبيت الأبيض.

انتقدت الحكومة البريطانية علنا قرار جو بايدن الذي أدى إلى رحيل قوات حلف شمال الأطلسي وبينهم البريطانيون. وقتل 457 جنديا بريطانيا خلال عشرين عاما من التدخل في أفغانستان.

من جهته قال الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير إن "صور اليأس في مطار كابول عار على الغرب".

إذا كان بايدن يؤكد بان الولايات المتحدة تنسحب من أفغانستان لتكرس جهودها نحو تحديات أكبر وخصوصا مواجهتها مع بكين، فإن النظام الصيني لم يوفر انتقاداته لسلوك واشنطن.

وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشونينغ الثلاثاء إن الأميركيين "تركوا وراءهم فوضى رهيبة" في أفغانستان.

مرارة لدى العسكريين الأميركيين أمام مشاهد الفوضى في كابول

سادت أجواء قاتمة الاثنين في أروقة البنتاغون حيث تابع العسكريون الأميركيون عاجزين مشاهد الفوضى في مطار كابول منتقدين في مجالسهم الخاصة بطء إدارة جو بايدن في إجلاء الحلفاء الأفغان للولايات المتحدة الذين يخشون من انتقام طالبان.

بعضهم يأخذ على وزارة الخارجية التي لديها لوحدها سلطة منح تأشيرات دخول للمترجمين السابقين ومتعاونين آخرين مع الجيش الأميركي وعائلاتهم، انتظارها أكثر من شهرين لبدء عملية منح تأشيرات هجرة للافغان الخائفين على حياتهم.

أظهرت أشرطة فيديو بثت على شبكات التواصل الاجتماعي مشاهد فوضى عارمة أظهر بعضها مئات الأشخاص وهم يركضون قرب طائرة نقل عسكرية أميركية كانت على تسير على المدرج فيما كان بعضهم يحاول التمسك بجناحيها او عجلاتها.

وقال مسؤول عسكري رفض الكشف عن اسمه "لقد لفتنا انتباههم منذ أشهر" إلى أن الأمر ملح.

وقال ضابط آخر "لست مستاء، انا غاضب" مضيفا أن "العملية (الانسحاب) كان يجب أن تتم بشكل مختلف تماما".

وقال الجنرال هانك تايلور المسؤول عن الشؤون اللوجستية في هيئة الأركان الأميركية في نفس المؤتمر الصحافي "الكثير منا أمضوا وقتا في أفغانستان في السنوات الماضية ونحن متأثرون بشدة بالأحداث الحالية".

وأضاف "لكن ما يجب ان نركز عليه هو الاجلاء الأكثر أمانا قدر الإمكان للأميركيين والأفغان".

حزن وصدمة في صفوف قدامى محاربي أفغانستان الأميركيين

بعد عشر سنوات على عودته من أفغانستان كان مارك سيلفستري على قناعة أن على رفاقه المتبقين المغادرة أيضا، إلا أن الجندي السابق في الجيش الأميركي صعق بالفوضى الهائلة التي خلفها انسحاب القوات الأجنبية من هذا البلد.

يقول الرجل البالغ 43 عاما الذي يشرف على خدمات قدامى الحرب في ريفيري في ماساتشوستس لوكالة فرانس "كانت الأيام الأخيرة صعبة".

ويضيف "كنت اؤيد الانسحاب، اعتبرت أن الوقت حان لذلك. لكن بعد مرور عشرين عاما وانفاق مليارات الدولارات لم أكن أتوقع سرعة حركة طالبان وجسارتها".

ويتابع قائلا "لم اتوقع يوما أن يذهب التدريب والأموال التي استثمرناها في الجيش الأفغاني هباء وأن يسلموا أسلحتهم ويسلموا بلدهم. شكل ذلك صدمة لي".

تفاوتت ردود فعل قدامى حرب أفغانستان في الولايات المتحدة على انتصار حركة طالبان الخاطف بين الصدمة والغضب والاستسلام والقلق حيال حلفائهم الأفغان ومواطنين في الولايات المتحدة يعانون من النهاية الكارثية للتدخل الأميركي.

وأدت هذه التطورات إلى مشاهد يائسة مع توافد آلاف الأفغان إلى المطار في محاولة للفرار فيما جهدت الحكومات الأجنبية لإجلاء موظفيها ورعاياها.

ويرى المحارب السابق تشاد فروس أن انسحاب القوات الأميركية "كان سيكون فوضويا على أي حال" بغض النظر عن الطرف الذي يتولى الحكم في أفغانستان بسبب الفشل في فهم هذا البلد فعلا.

ويضيف "الكثير من الناس سيسألون لماذا حصل ذلك؟ بالنسبة لي تواجدي هناك كان من دون جدوى وكان عبثيا أن أرى أصدقاء يقتلون هناك أو يفقدون أعضاء من جسمهم أو عقلهم... ويزداد إدراكي لعدم جدوى ذلك إذ إن النتيجة نفسها سجلت بعد وجود استمر عشرين عاما".

ويرى فروس وآخرون أن مصير النساء هو نقطة مؤلمة مع سيطرة طالبان على السلطة.

خلال حكمها أفغانستان بين العامين 1996 و2011، حدت حركة طالبان المتطرفة بشكل كبير من حرية المرأة مانعة إياها من مغادرة المنزل من دون محرم وحرمت الفتيات من ارتياد المدرسة.

وكان من أهداف الغزو الأميركي في 2001 تغيير هذا الوضع وقد حصل ذلك لغالبية النساء في المدن خصوصا.

إلا أن هذه المكتسبات التي انتزعت بصعوبة قد تتلاشى مع عودة طالبان إلى الحكم.

ويؤكد فروس "هذه المثل العليا التي كنا نظن اننا تدخلنا لضمانها، هي من الأمور التي تزعج الكثير من الناس. إنها تزعجني أنا أيضا".

وقال بوتر لوكالة فرانس برس "اسمع الكثير من الغضب" مضيفا أن ذلك ليس عائدا إلى الانسحاب بل إلى "الطريقة الفوضوية التي نخرجهم فيها".

وأشار إلى مشاهد مغادرة الأميركيين لسايغون والتي تنتشر الآن بكثرة مع مقارنة رواد وسائل التواصل الاجتماعي بين ما حصل هناك وما يحصل على صعيد الانسحاب من أفغانستان.

ويقول سيلفستري إن أحد قدامى حرب فيتنام اتصل به مع حصول الانهيار ليقول "لم اتصور يوما أني ساشهد ذلك مجددا أعادني ذلك بالذاكرة إلى مشاهد سقوط سايغون".

ويضيف أنه تحدث إلى عدد من القدامى وعائلاتهم الذين يتساءلون الآن إذا ما كانت تضحياتهم ذهبت سدى.

ويقول لوكالة فرانس برس "أظن أن أفضل شيء يمكن لكل واحد منا القيام به هو الاصغاء" مع توجيه منظمات كثيرة في الأيام الأخيرة رسائل تذكر بخدمات الدعم والمساعدة المتاحة للمحاربين القدامى.

ويضيف "أريد أن تعرف العائلات أن أبناءها لم يموتوا في سبيل قضية خاسرة.. على الأقل كانوا يقاتلون من أجلنا..تعذر على البعض العودة إلى الديار من أجل أن يتمكن بعضنا من ذلك".

اضف تعليق