q
الإمام الحسين بن علي وفاطمة الزهراء (ع) يقف على رأس القيادة الاجتماعية بكل قوة وجدارة وذلك لأن ما يتصف فيه من صفات الكمال والعظمة لا تتوفر في أي شخص آخر في عصره، وذلك لأنه سبط النبي الأكرم (ص) وخامس أصحاب الكساء الذين باهل بهم رسول الله (ص)...

مقدمة

تحدثنا فيما سبق عن شروط القيادة في النظرية الربانية، والآيات الإلهية، وأشرنا سريعاً إلى المقاييس البشرية الزائفة في هذه المسألة والتي تنطلق من أصلين متجذِّرين في البشر هما: الأنانية الشخصية، وحب المال الذي يُعمي العيون عن رؤية القائد الرباني والحقيقي لهم.

وفي هذا المقال نبحث عن مسألة في غاية الأهمية وهي مثار تعجب من العلماء والأعلام الكرام منذ القِدم، وهي: عن الموانع الاجتماعية لظهور القائد الناجح فيه، ويمكن أن نطرحها على شكل السؤال التالي: ما هي الموانع الاجتماعية، والطبقات الاجتماعية التي تمنع استلام القائد الناجح لزمام القيادة في المجتمع؟

وسنحاول البحث عنها في آيات القرآن الحكيم أولاً، ثم في السيرة العطرة للرسول العظيم (ص)، ولنعكسها على قيادة الإمام الحسين (ع) الرَّبانية الناجحة بكل موازين الفوز والنجاح في هذه الحياة الدنيا كما في النظرية الإلهية لمسألة القيادة الناجحة والرائعة للمجتمع البشري والحضارة الإنسانية والمتناسبة مع العقل والضمير والفطرة السليمة.

الموانع الاجتماعية نظرة قرآنية

في القرآن الحكيم كل ما يحتاج له البشر في حياتهم من نظريات سليمة وصحيحة لو طبقها لحقق سعادته في الدنيا وبنى حضارته الإنسانية القيمية الراقية، وهي موزعة على قصص الأنبياء (ع) مع أقوامهم ومجتمعاتهم، والباحث فيها يجد أن أعظم الموانع الاجتماعية لتسلم القائد الناجح هي:

1- الحاكم الطاغية؛ وما نسميه بالظاهرة النمرودية، والفرعونية، الذي يؤثر في الناس إلى الدرجة التي يعبدوه فيها، قال تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (الزخرف: 54)، ذاك الاستخفاف والطاعة أدَّى به إلى أن يقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعات: 24)، وعادة كما في المثل المعروف: (الناس على دين ملوكهم)، لأنهم يفرضون ذلك عليهم إما بالحديد والنار، أو بالكذب والدجل لأنهم يظهروا أنهم ظل الله في الأرض، وأنهم خلفاء رسول الله فيتحدثون بكلام الأنبياء ويفعلون أفعال الشياطين.

2- الملأ الفاسد الذي يجمعه الطاغية من حوله؛ وهم الذين يمثِّلون الحكومة والمجالس النيابية، واللوردات، الفاسدة والمفسدة، هذه المحافل التي يجتمع فيها الوزراء والمقربين والحاشية من الخدم والقادة هم أحد أسباب عدم طاعة القائد الناجح، لأنهم يُريدون أن يكونوا هم ولا أحد سواهم لا سيما إذا كان القائد من خارج دائرتهم، ولذا تراهم رفضوا كل الأنبياء، والأوصياء، والمصلحين، وهم الذين قالوا عندما بُعث رسول الله (ص) وهو يتيم عند عمِّه العظيم أبو طالب (ع): (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف: 31)، فهم يريدون الأغنياء وأصحاب الجاه كالوليد وغيره.

3- الإرادة السلبية في المجتمع؛ وهي تتمثل بانسحاق إرادة الناس أمام سيطرة الطاغية فيقفوا دون تفكير خلفه وينساقوا كالقطيع إلى ما يُريده منهم حتى لو قادهم إلى المسلخ، والقائد الناجح قادهم إلى الجنان الوارفة، وأجمل صورة ينقلها لنا القرآن الحكيم لهذه الحالة السلبية في المجتمع قوله تعالى: (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ) (الشعراء: 40)، فهؤلاء جاؤوا واجتمعوا ولكن ليس ليتبعوا الحق بل قد قطعوا أمرهم أنهم من أتباع السحرة لأنهم أتباع فرعون الطاغية الذي سحق إرادتهم واستعبدهم واستخفَّهم فأطاعوه وعبدوه من دون الله وهو مخلوق مثلهم تماماً.

4- العادات والتقاليد الجاهلية الموروثة؛ وهذه من أكبر المعيقات أمام القائد المصلح الناجح في المجتمع البشري، لأنها ستكون سدَّاً منيعاً أم التطور والتقدم الاجتماعي وبالتالي البناء الحضاري في الأمة، قال تعالى عن هذه الحالة السلبية جداً: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف: 23)، فهؤلاء مصرون على ما ورثوه من الآباء والأجداد حقاً كان أو باطلاً.

في الحقيقة هذه بعض أهم الموانع الاجتماعية التي تمنع ظهور القائد الناجح في الحياة، بل ومحاربته عند ظهوره بكل ما أوتي أولئك من قوة، وهو طريق الصراع الأبدي منذ ابني آدم (ع)، وهي مستمرة حتى آخر معركة بين الحق والباطل في هذه الحياة الدنيا.

قيادة الإمام الحسين (ع) الاجتماعية

إذا بحثنا في التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية والولائية المطهرة يظهر لنا جليَّاً وواضحاً أن الإمام الحسين بن علي وفاطمة الزهراء (ع) يقف على رأس القيادة الاجتماعية بكل قوة وجدارة وذلك لأن ما يتصف فيه من صفات الكمال والعظمة لا تتوفر في أي شخص آخر في عصره، وذلك لأنه سبط النبي الأكرم (ص) وخامس أصحاب الكساء الذين باهل بهم رسول الله (ص) نصارى نجران وقطعهم، وأنزل الله فيهم آيات مباركات، لا سيما قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 33)، وهو الذي قال فيه رسول الله (ص) العشرات من الروايات الشريفة التي تشيد به وتدلُّ الأمة على تميُّزه، كقوله (ص): (حسين مني وأنا من حسين أحب الله مَنْ أحبَّ حسيناً؛ حسين سبط من الأسباط)، فالإمام الحسين إمتداد طبيعي ورسالي لجده المصطفى (ص) وكل مَنْ يرى النجاح بالرسول الأكرم يجب أن يراه بالحفيد المعظم (ع)، وذلك لأن الصل الطيب واحد، وكذلك المنهج القويم واحد.

بل أكد على قيادته حيث قال (ص): (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)، فهو القائد المختار من الله، والمصطفى من أهل البيت (ع)، والمجرِّب الذي حنَّكته الأيام وتقلباتها والحروب بأشكالها لا سيما وقد كان من القادة الكبار في حروب التأويل الثلاثة (الجمل مع الناكثين، وصفين مع القاسطين، والنهروان مع المارقين)، التي خاضها والده أمير المؤمنين (ع).

فالحسين (ع) كان يُنظر إليه كالنجم في كبد السماء في حياته الاجتماعية كلها لا سيما في مجتمع المدينة المنورة حيث الصحابة وأبناءهم الذي كانوا يُجلُّون ويُقدِّرون ويحترمون الإمام الحسين (ع) بما هو أهله من ذلك كله وسيرته العطرة التي امتدت لسبع وخمسين سنة تشهد بذلك لكه، حتى كان لا يُقاس به الحكام والولاة كما في قصة أُرينب زوجة عبد الله بن سلام، وهي واحدة من تلك المأثر التي سطَّرها الإمام الحسين (عليه السلام) لتكون درساً اجتماعياً راقياً جداً وفيها يشهد الخاطب وهو أبو الدرداء بقوله لها: " إن الحسين لا يقارن بأحد وهو خير البشر في هذا الزمان"، ونصحها بالزواج منه ففعلت، فكان المولى راجح على غيره في زمانه بل لا يُقاس به أحد من البشر عند عامَّة الناس في الأمة الإسلامية.

الموانع الاجتماعية لقيادة الإمام الحسين (ع)

1- الطاغية يزيد الشر، الذي كان فرعون هذه الأمة وجبارها العنيد، رغم أنه فاسق فاجر كما وصفه الإمام الحسين (ع) شخصياً للوليد في البيان الأول للثورة حيث قال (ع): (إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله)، في هذا البيان الرائع بيَّن المولى (ع) مكانته في الأمة وواقع يزيد الفاسق.

2- الملأ الذين يجتمعون عند الأمراء؛ وكان صورة واضحة عنهم ذاك الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون مروان بن الحكم الذي كان عند الوليد عندما دخل عليهم الإمام الحسين (ع)، ولكنه عندما رضي الوليد بقول الإمام الحسين (ع) انبرى قائلاً: "والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه"، تصوَّر هذا الرأي الخبيث الذي استنكره الوليد نفسه حيث تروي الرواة أنه قال للوليد بعد أن غادرهم الإمام الحسين (ع) إلى منزله مغضباً: "عصيتني لا والله لا يمكنك مثلها من نفسه أبداً".

فقال الوليد: "ويح غيرك يا مروان إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني ودنياي والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإني قتلت حسيناً، سبحان الله أقتل حسيناً إن قال لا أبايع، والله إني لأظن أن امرءاً يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة".

3- الإرادة السلبية في المجتمع؛ الذين لا يعرفون الحق من الباطل، ويريدون من الإمام الحسين (ع) أن يبايع ليزيد ويُعطيه شرعية وهو الفاقد للإنسانية، وهذا كان واضحاً من موقفهم في يوم عاشوراء وقولهم له: "لماذا لا تنزل على حكم الأمير؟"، لا سيما وأن بعض الروايات تذكر أنه – روحي فداه – خيَّرهم بأن يتركوه يرجع من حيث أتى، أو حتى يذهب إلى الشام فرفضوا إلا النزول على حكم عبيد الله بن زياد الطاغية فقال قولته العظيمة: (ألَا وإنّ الدَّعِيَّ ابنَ الدَّعِيِّ قدْ رَكَزَ بينَ اثنَتَينِ: بينَ السِّلَّةِ والذِّلَّةِ، وهيهاتَ منّا الذِّلَّةُ، يأبَى اللهُ لَنَا ذلكَ ورَسُولُهُ والمؤمِنونَ، وحُجورٌ طابَتْ وطَهُرتْ، وأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ ونُفُوسٌ أبِيَّةٌ مِنْ أنْ نؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ على مصارِعِ الكِرَامِ)، فلم يدعوه يتلكم (ع).

هؤلاء الذين وصفتهم الروايات لا سيما ما جاء على لسان الفرزدق حيث قال: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك"، فكانوا يحبون الإمام الحسين (ع) ويكرهون يزيد الشر إلا أنهم كانوا مع السلطان الغشوم وتألبوا معه لقتل الإمام الرؤوف، والقائد العطوف، وهم يبكون.

4- العادات الجاهلية المتوارثة؛ وهذه التي قام من أجل تصحيحها رسول الله (ص) ولما أعادها معاوية وبني أمية نهض الإمام الحسين (ع) ليُصحح الأمة ويُصلحها من جديد إلا أنهم كانوا إلى عادات الجاهلية الأموية أقرب حيث خاطبهم (ع) بقوله: (ويحكم، يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون).

هكذا كانت حقيقة الشخصية القيادية الراقية جداً للإمام الحسين (ع) في المجتمع الإسلامي إلا أن هذه الموانع أخفته كقائد بارز، وقتلته كإمام مفترض الطاعة، فعرج إلى ربه شهيداً سعيداً يشكوا الأمة الظالمة المعتدية عليه وعلى أهل بيته الأطهار (ع).

اضف تعليق