q
كشف الأسباب الحقيقية المعرقلة لدور مراكزنا ووحداتنا البحثية الاكاديمية من شأنه تبديد الكثير من هذا النقد والاتهام، وتصحيح زاوية النظر للكثير من المهتمين، وقد يساعد القيادات العليا في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي على إعادة النظر بالسياسات المتبعة في الوقت الحاضر عند التعامل مع هذه المؤسسات البحثية...

توطئة

تعد مراكز البحوث والدراسات في عالم اليوم عموما، وفي المنظومة الاكاديمية المعاصرة بشكل خاص، مؤسسات معرفية عالية الجودة والمكانة من حيث منتجها المعرفي والعلمي من جانب، ومن حيث مهارات العاملين فيها من جانب آخر، لذا لا غرابة ان يسميها البعض خزانات الفكر والابداع؛ لأنها فعلا كذلك بحكم دورها الذي تلعبه في تطور المعرفة عموما، وفي عملية صنع القرار بشكل خاص، لذلك تلقى هذه المؤسسات اهتمام ورعاية الدول المتقدمة، وتأخذ غالبا دراساتها وتوصياتها طريقها الى صانع القرار لتساهم في اعداد السياسات العامة، وتقديم الحلول والخيارات المختلفة للتعامل مع المشاكل والأزمات الطبيعية والطارئة.

والعراق، لاسيما بعد سنة 2003، صار واحدا من البلدان التي ظهر فيها الكثير من مراكز البحوث والدراسات، الا انها على كثرتها لا زالت دون المستوى بكثير من حيث اثبات الوجود، واحداث التأثير في الرأي العام عموما، وفي عملية صنع القرار على وجه الخصوص، وتقف أسباب موضوعية كثيرة خلف ضعفها واخفاقها. ولا نريد الخوض بالحديث عن جميع مراكز البحوث والدراسات العراقية التي سبق لنا ان كتبنا بحثا مفصلا عنها بعنوان (مراكز الأبحاث في العراق: تنظيمها القانوني ودورها السياسي)، فضلا على كتابة أكثر من مقال حول الموضوع نفسه، ولكننا نرغب بتسليط الضوء على ما تعانيه المراكز والوحدات البحثية المنضوية تحت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية، تلك المراكز والوحدات التي كان لي معرفة كبيرة بها، بحكم ادارتي لأكثر من مركز بحثي، وعضويتي لأكثر من سنتين في هيئة البحث العلمي التي ترتبط بها هذه المراكز.

يوجد في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية -سواء مرتبطا بالوزارة مباشرة او مرتبطا بجامعاتها- اكثر من 120 مركزا ووحدة بحثية تتوزع في اختصاصاتها بين التخصصات الطبية والهندسية والإنسانية والمتعددة التخصصات، وهذه المراكز على كثرتها، لم تصل الى مستوى المراكز العاملة في البلدان المتقدمة: الأوروبية والأمريكية والجنوب شرق اسيوية، بل وحتى بعض المراكز في البلدان الشرق أوسطية، وهذا الواقع ربما يثير حيرة واستغراب الكثيرين، بل بسببه تصبح احيانا هذه المراكز والوحدات في مرمى النقد والاتهام من قبل الوزارة نفسها او من غيرها من المؤسسات الحكومية، بل ومن الرأي العام أيضا.

ان كشف الأسباب الحقيقية المعرقلة لدور مراكزنا ووحداتنا البحثية الاكاديمية من شأنه تبديد الكثير من هذا النقد والاتهام، وتصحيح زاوية النظر للكثير من المهتمين، وقد يساعد القيادات العليا في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي على إعادة النظر بالسياسات المتبعة في الوقت الحاضر عند التعامل مع هذه المؤسسات البحثية المهمة، وهو ما نحاول القيام به من خلال الفقرات القادمة.

أولا- التنظيم القانوني للمراكز والوحدات البحثية في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية.

ان التنظيم القانوني لعمل المراكز والوحدات البحثية داخل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي يحدده قانون الوزارة رقم (40) لسنة 1988 المعدل والنافذ، ونظام مراكز البحث العلمي رقم (1) لسنة 1995 النافذ، والتعليمات رقم (148) لسنة 2002 الخاصة بهيكل عمل الباحث في مراكز البحث العلمي والوحدات البحثية في الوزارة، والتعليمات رقم (158) لسنة 2005 الخاصة باستحداث مراكز ووحدات البحث العلمي في الوزارة.

ففي القانون رقم (40) أعلاه ورد الإشارة الى مراكز البحث العلمي في نص المادة العاشرة التي جاء فيها: " للجامعة والكلية ومركز البحث العلمي والمعاهد العليا المرتبطة بالجامعة، الشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي والأهلية القانونية اللازمة لتحقيق أهدافها، ويدير شؤونها كل منها مجلس". كما ورد الإشارة اليها –أيضا-في الفقرة (و) من المادة (19) التي تتحدث عن تشكيل مجلس الكلية التي عدت من أعضاء هذا المجلس الاصلاء "مديري مراكز البحوث المرتبطة بالكلية...) وهي فقرة نافذة ولم يتم الغائها بموجب قانون التعديل الثامن لقانون الوزارة لسنة 2013.

اما نظام مراكز البحث العلمي المشار اليه في أعلاه، فقد أسهب في الحديث عن تشكيل هيئة البحث العلمي داخل الوزارة والتي سترتبط بها المراكز والوحدات البحثية المواد (1، 3،2)، وبدأت الهيئة اعمالها فعلا منذ سنة 1996، وكانت تتضمن (18) عضوا، و(36) مركزا بحثيا، و(31) وحدة بحثية، وقد اعيد تشكيلها بعد سنة 2003 بموجب الأمر الوزاري (384) في 4/12/2003 لتتشكل من وكيل الوزارة لشؤون البحث العلمي رئيسا، ومدير عام دائرة البحث والتطوير نائبا للرئيس، وسبعة مساعدين لرؤساء الجامعات للشؤون العلمية أعضاء، وستة ممثلين عن الوزارات الأخرى أعضاء، وثلاثة عشر مدير مركز بحثي أعضاء.

وجرى في النظام الإشارة أيضا الى عائدية ارتباط المركز البحثي والوحدة البحثية بالنص عليها في (المادة 3-أ) التي ورد فيها: "ترتبط مراكز البحث العلمي المتعددة الاختصاصات برئيس الجامعة وترتبط الوحدات البحثية بعميد الكلية"، كما ورد الإشارة الى طريقة تعيين مدير المركز والوحدة وطريقة ادارتهما (المادة 3 – ب،ج، د،ه) ومهامهما (المادة 4)، ومهام مجلس المركز والوحدة (المادة 5)، وصلاحيات مدير المركز والوحدة (المادة 6)، وتشكيل الأقسام العلمية فيهما (المادة 7)، ومالية المركز والوحدة (المادة 8)، اما المواد من 9 ولغاية 15 فكانت مواد تتحدث عن عمل الباحثين العاملين في المركز والوحدة، وامور أخرى تنظيمية. ثم جاءت تعليمات هيكل عمل الباحث بموادها الـ(14) وتعليمات استحداث المراكز والوحدات بموادها الـ (12) لتكمل البناء التنظيمي القانوني لعمل هذه المؤسسات البحثية في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.

ونظرا لكون تعليمات هيكل الباحث لا تثير الإشكاليات الكثيرة، حول أصل المشكلة، على الرغم من الحاجة الى إعادة النظر فيها بما يتناسب وتطور عمل الباحثين في المراكز البحثية المتقدمة، فان التركيز على تعليمات الاستحداث مهم للغاية، لأسباب ستتضح لاحقا، فقد اشارت المواد من (1 ولغاية 7) الى الآلية والشروط التي تتبعها الجامعات والكليات في استحداث المراكز والوحدات البحثية، وقد جاءت المادة (8) لتضع شرطا الزاميا على الجامعة والكلية في الموضوع عندما نصت على: " تحدد مدة أقصاها سنة واحدة تستكمل فيها الجامعة او الكلية الملاكات العلمية والاساسية للمركز البحثي او الوحدة البحثية من تاريخ الموافقة على استحداث أي منهما وبخلافه تعتبر تلك الموافقات ملغية"، اما بقية المواد فهي ترتبط بقضية تعيين رئيس القسم في المركز (المادة 9)، وشروط تعيين الباحث او التدريسي الباحث في المركز والوحدة (المادتان 10، 11)، وتاريخ نفاذ التعليمات (المادة 12).

وبهذا نكون قد اعطينا تصور مجمل للقارئ الكريم حول التنظيم القانوني لعمل المراكز والوحدات البحثية في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية، ويبدو انه تنظيم جيد ولا بأس فيه للانطلاق الاولي نحو تفعيل هذه المراكز وجعلها تأخذ دورها المطلوب داخل مؤسساتنا الاكاديمية، ولكن على الرغم من وجود هذا التنظيم، فان مراكزنا لم تقم بما يجب عليها، لماذا؟

ثانيا- اسباب ضعف المراكز والوحدات البحثية داخل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية.

توجد جملة من الأسباب التي تقف خلف حالة الضعف والتردي التي تعاني منها مراكزنا ووحداتنا البحثية الاكاديمية، منها:

1- التطبيق غير الجيد للنصوص القانونية، ونقصد بذلك هو وجود النص القانوني، ولكن مع اهمال تطبيقه او تفعيله لسبب غير معروف، فعلي سبيل المثال أشرنا في قانون الوزارة أعلاه الى ان نص المادة العاشرة منه أعطت للمركز البحثي الشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي والأهلية القانونية لتحقيق أهدافه، فيما جعل نص المادة الثامنة من النظام أعلاه المبالغ المرصودة للمركز والوحدة البحثية ضمن موازنة الجامعة السنوية مصدرا مهما من مصادر تمويل نشاطاتهما البحثية، وهذا يعني من الناحية النظرية وجود ميزانية مالية مستقلة لهذه المؤسسات البحثية، ولكن الجانب النظري شيء، والجانب الواقعي شيء آخر؛ اذ تكاد تكون جميع المراكز والوحدات البحثية فاقدة لهذا الامتياز، فيما تتمتع به الجامعات والكليات والمعاهد.

لقد وصل الامر بمراكزنا ووحداتنا البحثية من الناحية المالية ان تكون مجرد هياكل رسمية مفلسة ماليا تماما، لا تستطيع توفير ابسط المستلزمات التي تعينها على إدارة شؤونها اليومية، فضلا على إدارة نشاطاتها العلمية، وعلى الرغم من المطالبات الكثيرة لمدراء المراكز والوحدات البحثية ولسنوات طويلة بتطبيق النصوص القانونية الا ان الوزارة والجامعات كانتا متجاهلتين تماما لتفعيل هذا النص، حتى وصل الامر بي وانا مدير مركز بحثي لسنوات طويلة ان ارفع طلبات مكافئة مالية بسيطة للعاملين في المركز يتم توظيفها بعد استلامها في تمشية النفقات الشكلية الملحة للعمل بحجة عدم وجود باب في موازنة الجامعات مخصص لنفقات البحث العلمي، بل وصل الامر ان السيارة التابعة لأي جامعة، كتلك السيارات الناقلة للطلبة في باحاتها لديها نفقات مالية شهرية وسنوية مخصصة لغرض الوقود والصيانة فيما لا يوجد أي نفقات مالية مخصصة للنشاطات العلمية للمركز والوحدة.

هذا التعامل المالي غير الصحيح مع المراكز والوحدات البحثية جعلها في موقف الاستجداء عند تنفيذ برامجها ونشاطاتها وهذا يحدث فيما يراقب العاملون فيها نظرائهم في المؤسسات البحثية الموجودة في البلدان المتقدمة الذين ترصد لهم موازنات سنوية بملايين الدولارات لتنفيذ برامج علمية داخل بلدانهم وخارجها، بل ويجدون انفسهم لمرات كثيرة في مواقف محرجة عند التعامل مع هذه المؤسسات فيما لو وجهت لهم دعوات زيارة لتبادل الخبرة والمنفعة واجراء البحوث والبرامج العلمية المشتركة تتحمل نفقاتها تلك المؤسسات، بينما هم عاجزين عن القيام بالمثل في توجيه دعوات لنظرائهم العاملين في تلك المؤسسات بسبب عدم قدرة المراكز والوحدات البحثية العراقية على تحمل هكذا نفقات.

ولا يقتصر الخلل في التطبيق القانوني على الجانب المالي، وانما يمتد الى تمثيل المراكز والوحدات البحثية في مجالس الجامعات والكليات، حيث ان الفرض القانوني يذهب الى ربط المركز البحثي برئيس الجامعة، وربط الوحدة البحثية بعميد الكلية، الا اننا نجد هناك ارباك قانوني واضح عند الحديث عن تمثيل مدراء المراكز والوحدات في مجالس جامعاتهم وكلياتهم، حيث جعلت المادة (19) من قانون الوزارة المشار اليها في أعلاه مدير المركز عضوا اصيلا في مجلس الكلية، وكان الأولى ان يكون مدير الوحدة البحثية عضوا اصيلا في مجلس الكلية لكون الوحدة كما اشرنا ترتبط بالكلية، اما مدير المركز فيكون عضوا اصيلا في مجلس الجامعة كون المركز يرتبط برئاسة الجامعة، وهذا الارباك القانوني انعكس سلبا على تمثيل هذه المؤسسات في مجالس الجامعات والكليات، بسبب امتناع الأخيرة عن السماح بتمثيلها مسنودة بغياب النص القانوني.

لقد حاولت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية تلافي هذا الخلل في احدى السنوات من خلال كتب رسمية طالبت فيها الجامعات والكليات بالسماح لمدراء المراكز والوحدات بالتمثيل في مجالسها بصفة ممثل غير اصيل الا ان هذا التوجه الوزاري الذي جرى التأكيد عليه في عهد وزير ما، تم تجاهله واهماله في عهد غيره، وهو أمر متوقع نتيجة وجود الخلل في النص القانوني. ان عدم الإشارة الصريحة الى تمثيل مدراء المراكز في مجالس الجامعات، ومدراء الوحدات البحثية في مجالس الكليات التابعة لها يعد خللا قانونيا ينتقص من دورها وتأثيرها على مستوى الجامعة والكلية.

فضلا على ما تقدم، تجد انه على الرغم من الإشارة الصريحة والواضحة، والشرط القانوني الوارد في المادة الثامنة من تعليمات استحداث المراكز والوحدات البحثية، والملزم للجامعات والكليات باستكمال متطلبات الاستحداث المادية والبشرية خلال سنة او يتم الغائها، فان الكثير من الجامعات والكليات لم تقم من جانبها باستكمال هذه المتطلبات خلال المدة المحددة، فيما لم تقم الوزارة بإلغاء استحداث معظمها على الرغم من ذلك، لذا تجد الكثير من المراكز والوحدات بقيت لسنوات طويلة مجرد اشباح قائمة على الورق يستهلك العاملون فيها الوقت والمال دون فائدة.

وهذا الامر ان دل على شيء فهو يدل على ضعف إرادة الجامعات والكليات في تطوير مؤسساتها البحثية من جانب، كما يدل على تقصير الوزارة بواجبها في الرقابة والاشراف واتخاذ القرارات الحاسمة بإلغائها من جانب آخر، مما شجع الكثير من الجامعات والكليات على استمرار الاخلال بواجبها في تحمل مسؤولية تأهيل مراكزها ووحداتها البحثية لتكون في المستوى المطلوب.

وعلى الرغم من وجود ثغرات قانونية أخرى بحاجة الى تعديل او تشريع في التنظيم القانوني للمراكز والوحدات البحثية داخل وزارة التعليم، لكنها تبقى اقل تأثيرا من الثغرات الثلاثة أعلاه، فالأخيرة تعد معرقلة بشكل كبير للتطور والارتقاء بمستوى مؤسساتنا البحثية الاكاديمية.

2- وجود الموارد البشرية غير المؤهلة. اذ مهما رصدت الدولة من ميزانيات بحثية او قدمته من دعم لعمل مراكزها البحثية، فإنها تبقى عاجزة عندما تكون الموارد البشرية العاملة فيها ضعيفة او غير مؤهلة. ان العمل في المراكز والوحدات البحثية لا يشبه العمل التدريسي في الكليات والمعاهد، فالأخير –على أهميته- يمكن –أحيانا –إنجازه من قبل كوادر بشرية محدودة المؤهلات، وان كنا على يقين ان نتيجة التعليم على يد كوادر تدريسية ضعيفة لن تشكل خبرا سارا على الاطلاق، ولكن لنقل مجازا ان ذلك ممكن، ولكن لا يمكن قول الامر نفسه عن العمل في المراكز والوحدات البحثية، فهذه المؤسسات متوقع منها تقديم منتج معرفي علمي عالي الجودة، ولذا هي بحاجة الى موارد بشرية عالية الجودة، لا على مستوى الباحثين والباحثين التدريسيين فحسب، وانما –أيضا- على مستوى الكوادر الإدارية المساعدة، وهذا ما لم تفهمه قياداتنا الإدارية في الوزارة والجامعات والكليات، فهي تعتقد ان عمل المراكز شبيه او امتداد واحيانا- ادنى من مستوى التدريس في الكليات والمعاهد، لذا غالبا بعد استحداث هذه المؤسسات تزج للعمل فيها كوادر بحثية وإدارية غير مناسبة، لا تعرف كيف تطورها، كما لا تعرف كيف تقوم بعملها، وبعضها يقضي سنوات طويلة وجل اهتمامه كيف يكمل نصابه ويقضي يومه، فتجد في المحصلة النهائية ان مخرجات هذه المؤسسات محدودة او ضعيفة وغير مؤثرة. وتزيد هذه الوضعية سوءا عندما تلجأ الجامعات والكليات الى سياسة سد النقص داخل هذه المؤسسات بكوادر غير متفرغة من العاملين في مجال التدريس او الإدارة في الكليات، وغالبا ما يتم ذلك بدون رغبة هذه الكوادر، فتصبح عبأ كبيرا على العمل، بل عصي تعيق حركة عجلاته، وتمنع تحقيق أهدافه.

فضلا على ما تقدم، فان مما يساعد على إبقاء مستوى الموارد البشرية ضعيفا هو عدم حرص الوزارة وتشكيلاتها الاكاديمية الأخرى على ادخال هذه الموارد في دورات تطويرية تتناسب مع دورها، وعدم مساعدتها على توأمة عملها مع نظيراتها في البلدان المتقدمة لاكتشاف طريقة عمل الأخيرة وآليات تنفيذ برامجها، والاحتكاك بمهارات وخبرات العاملين فيها، لذا ليس غريبا على الاطلاق ان تجد معظم العاملين لدينا في المراكز والوحدات البحثية يقضون وقتا طويلا من العمل داخلها دون ان يشاركوا في دورة تدريبية حقيقية تطور مهاراتهم، ودون زيارتهم لأي مركز بحثي متقدم في العالم، والتقصير في هذا الجانب تتحمله تماما الوزارة لافتقارها الى سياسة واضحة لتطوير الموارد البشرية لمراكزها ووحداتها البحثية.

ان معاناة مراكزنا ووحداتنا البحثية من سوء تقدير القيادات الوزارية والجامعية في مجال الموارد البشرية دفع حتى العناصر الكفوءة العاملة فيها الى الهرب منها في النهاية او جعلها لا مبالية، نتيجة خضوعها لقيادات غير مناسبة، وعملها مع موارد بشرية ليست مؤهلة، وقطعا مع وجود هكذا موارد ليس متوقعا من هذه المراكز والوحدات تحقيق طموحها في الوصول الى ما وصلت اليه نظيراتها في دول أخرى، ويمكن ابراز حجم المشكلة المرتبطة بضعف كفاءة الموارد البشرية من خلال حادثة حصلت معي نهاية سنة 2014 عندما كنت في بداية تكليفي بإدارة مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء، هذا المركز الذي قضيت فيه خمسة سنوات رائعة، والذي تم استحداثه كواحد من تشكيلات الجامعة في سنة 2012، ففي بداية لقاء العاملين فيه بمديرهم الجديد سألني احد الموظفين من الذين قضوا سنتين في العمل داخل المركز: ماذا يعني مركز الدراسات الاستراتيجية؟ معنى ذلك ان هذا الموظف قضى سنتين من العمل داخل مؤسسة بحثية وهو لا يعرف ماذا تعني، فكيف نطلب منه وامثاله الابداع والمساهمة الفاعلة في تطوير المؤسسة؟!

3- النظرة المتدنية للمراكز والوحدات من قبل القيادات الجامعية، قد يكون من المعيب والمخجل الحديث عن هذه الفقرة، ولكنه واقع حال لا يمكن بحال من الأحوال تجنبه او تجاهله، فعلى الرغم من ان المراكز البحثية توضع في صدارة التقييم من حيث الدور والتأثير في العالم المتقدم، تجد الامر على العكس من ذلك داخل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية، فمن لم يسمع ذلك الهمس او الاحاديث الصريحة التي تدور بين أروقة الوزارة والجامعات والتي مفادها ان المراكز والوحدات البحثية اصبحت منافي للموظفين داخل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بل ان احدهم وصفها يوما ما في اجتماع عالي المستوى انها مقابر وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، حيث ينفى اليها المعاقبون من التدريسيين والموظفين او ينسب لها المتقاعدون من الكوادر الاكاديمية والإدارية، حتى بات بعض العاملين فيها يخجل من القول انه يعمل في مركز او وحدة بحثية خشية ان يظن السامع انه تعرض الى عقوبة عمل او مشكلة ما مع رئيسه المباشر ترتب عليها تنسيبه او نقله للعمل في المركز او الوحدة.

ان هذه التصورات حول المراكز والوحدات ليست بلا أسس، فقد كان كاتب هذه السطور شاهدا على جزء منها، كما تحدث بشأنها الكثير من الزملاء الذين تحملوا مسؤولية ادارتها، بل أحيانا تجد مثل هذا التقييم والتصور للمراكز والوحدات موجودا على اعلى المستويات القيادية في الوزارة، ولذا تجد اغلبها تعاني من التهميش حتى في زيارات قياداتها الجامعية، عندما تقوم بزيارة الكليات والمعاهد العاملة ضمن تشكيلات الوزارة، دون ان تكلف نفسها عناء زيارة المركز والوحدة البحثية العاملة لديها للاطلاع على واقع عملها، وحاجات العاملين فيها، لذا ليس من المستغرب ان تجد مراكز ووحدات تشكلت وعملت لسنوات دون ان تزورها قياداتها العليا، ولو من باب تقديم الدعم المعنوي لها.

وإزاء هذا الوضع لن تجد غرابة ابدا في رفض معظم الكوادر الاكاديمية للعمل في المراكز والوحدات البحثية، بل لن تعجب عندما تجد هروبا مستمرا لها باتجاه الكليات والمعاهد، ففي النهاية لا يرغب الانسان في العمل داخل مؤسسة يفتقد فيها الى الحوافز المادية والمعنوية، ولا يشعر بفخر العمل والانتماء اليها.

4- ضعف الحرية الاكاديمية. فالحرية الاكاديمية للعمل البحثي لاسيما في المراكز والوحدات البحثية كالوقود المحرك للعجلة، ولما كان من المستحيل حركة العجلة بلا وقود، كذلك من المستحيل تطور المركز او الوحدة البحثية بلا حرية. وإذا كان موضوع الحرية ليس بتلك الحدة في المراكز والوحدات ذات التخصصات الطبية والهندسية والعلمية البحتة، فإنها في المراكز والوحدات ذات التخصصات الانسانية تبدو قضية بالغة الحساسية والخطورة؛ لأنه غالبا ما يتم تقييد عملها بمقتضيات الواقع السياسي، وايديولوجية النظام الحاكم، وتأثيرات مراكز القوة والنفوذ سواء كانت داخل السلطة ام خارجها، وهذا يجعل مساحة وحدود الموضوعات التي تغطيها محدودة او يتم ملامستها بشكل بسيط دون الغوص في أسبابها الموضوعية، خشية تعرض من يحاول ذلك الى العقوبة الإدارية داخل مؤسسته او التهديد والضغط من قوى خارجها.

ان ضعف الحرية الاكاديمية امر طبيعي في البلدان ذات الديمقراطية الهشة والثقافة السلطوية كالعراق، وقد لا تتحمل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وتشكيلاتها الجامعية المسؤولية عنها، ففي النهاية هذا واقع تعاني منه الوزارة ومؤسسات الدولة، كما يعاني منه الباحثون الاكاديميون، ولكن وجود القيود على الحرية الاكاديمية يعيق عمل المراكز والوحدات البحثية، كما يشكل قيدا على الفكر الحر للباحثين العاملين فيها، ولا تكون النتيجة خسارة واضعاف دورها، بل الخسارة الفادحة هي تلك التي تلحق بالدولة العراقية، عندما يفشل صانع القرار العراقي في الاستفادة من مؤسساته البحثية في تشخيص طبيعة المشاكل والتحديات التي يواجهها، والحصول على الخيارات المناسبة للتعامل معها. وعليه، فغياب او ضعف الحرية الاكاديمية ينتج عنه خسارة مزدوجة للمؤسسات البحثية من جانب، وللمجتمع ومؤسسات صنع القرار من جانب آخر.

5- اهمال مخرجات المراكز والوحدات البحثية، اذ تعاني مؤسساتنا البحثية مما تعاني منه جميع كلياتنا ومعاهدنا فيما يتعلق بالتعامل مع مخرجاتها العلمية، فكما ان البحوث والرسائل والاطاريح تركن على رفوف المكتبات في الكليات والمعاهد تغطيها الاتربة ويلفها النسيان، كذلك الحال مع البحوث والدراسات والتقارير التي تصدرها مراكزنا ووحداتنا البحثية، فهي لا تجد من يهتم بها او يحرص على تطبيقها في الميدان: سواء كان ميدان صنع القرار، ام الميدان العام؛ لأسباب كثيرة منها ضعف التنسيق والتواصل بين مؤسسات القطاع العام والخاص وبين المراكز والوحدات البحثية، وغياب المناهج العلمية العملية في إدارة الدولة، وعدم ايمان صناع القرار بقدرة مؤسساتهم البحثية على تقديم الحلول الناجعة لكثير من مشكلاتهم وعدم إعطائها مساحتها الحقيقية للعمل بفاعلية من خلال السماح لها بلعب ما يسمى بسياسة الباب الدوار والدبلوماسية الموازية وتقديم الدعم والاسناد لبرامجها وتوجهاتها البحثية... لقد ظلت مخرجات الكثير من المراكز والوحدات البحثية حبيسة الادراج والمكاتب، ولم يتجاوز التفاعل معها حدود الدعاية الإعلامية المؤقتة او عبارات الثناء المجاملة من هنا او هناك.

وعليه لا يمكن لأي صاحب بضاعة ان يطور عمله عندما لا يجد لبضاعته زبائن حريصين على اقتنائها والاستفادة منها، وبضاعة المراكز والوحدات البحثية هي الأفكار والتي مهما ارتفعت جودتها لن تكون مفيدة ما لم يكن هناك من يسعى الى الاهتمام بها لتحويلها الى واقع عملي قابل للحياة والتطور.

ثالثا التوصيات

ان التوصيات التي يمكن الخروج بها من هذه الورقة البحثية المختصرة هي من جنس الحلول للمشاكل المشار اليها في أعلاه، لذا يمكن تحديدها بما يأتي:

1- التطبيق الصحيح للنصوص القانونية ذات العلاقة بالمراكز والوحدات البحثية، لاسيما تلك التي تتعلق بمنحها شخصيتها المعنوية واستقلالها المالي، والحرص على تمثيلها الأصيل في مجالس الجامعات والكليات، وتفعيل دور رقابة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بشكل حازم، بحيث يتم فورا وبلا تأخير الغاء استحداث جميع المراكز والوحدات البحثية التي مضى على استحداثها سنة وأكثر دون استكمال مستلزماتها المادية والبشرية.

2- تشكيل لجنة خاصة متعددة التخصصات من المراكز والوحدات البحثية لإعادة النظر في التنظيم القانوني لعمل المراكز والوحدات البحثية داخل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بتعديل النصوص القانونية غير الملائمة وتشريع نصوص قانونية جديدة تساعد على الارتقاء بهذه المؤسسات بما يتلائم مع نظيراتها في البلدان المتقدمة، على ان تأخذ مقترحاتها طريقها الى التشريع النافذ دون تسويف او مماطلة.

3- تطوير الموارد البشرية البحثية والمساعدة العاملة داخل هذه المراكز والوحدات بالامتناع عن تزويدها بموارد ضعيفة محدودة القدرات من جانب، وتوفير جميع الإمكانيات اللازمة لتطوير كوادرها من خلال اعداد برنامج عالي المستوى من الدورات التدريبية داخل العراق وخارجه، وتشجيع برامج التوأمة وتبادل الخبرات والزيارات والبرامج بينها وبين نظيراتها العالمية، على ان تكون هناك إرادة حكومية وزارية وجامعية لتوفير الموارد المالية التي يقتضيها ذلك من جانب آخر.

4- تصحيح النظر الى دور المراكز والوحدات البحثية، وهذه المهمة تقع مسؤوليتها المباشرة على القيادات العليا في وزارة التعليم العالي وتشكيلاتها الجامعية، فجزء كبير من النظرة الحالية غير الصحيحة ناجمة عن تقصير او خلل في تصرفات هذه القيادات عند تعاملها مع مؤسساتها البحثية، ولعل اشراك هذه المراكز في وضع السياسة العامة والقرارات المؤثرة داخل الوزارة والجامعات يعد خطوة مهمة في تحقيق هذا الهدف.

5- إيلاء المزيد من العناية والاهتمام بالمخرجات العلمية للمراكز والوحدات البحثية، وللعاملين فيها، من قبل مؤسسات القطاع العام والخاص في العراق، ومن قبل صناع القرار بشكل خاص، للاستفادة الجادة منها في بناء الدولة على أسس متينة من الجودة والكفاءة الفكرية والبشرية.

* الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي، مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2021
www.fcdrs.com

اضف تعليق