q
لدينا اليوم حكاما من الإسفنج، فهم أصداء وليسوا أصواتا! ولدينا شعب مازال مغيّبا بالطقوس والخرافات، وما يضرّسه من علقم وحصرم وحصى هو حصاد ما زرعه بِيَدَيْهِ! وما أصاب العراق اليوم من تخلف وتهميش ونكبات، ما كان يحدث، لو أن هناك طفرة جينية من الغيرة الوطنية...

لن أتردد قولا وقناعة، بأن أهل السياسة في العراق يحملون فصيلة وراثية مرضيّة بالجينات والأنزيمات والكروموسات. فالخريطة الجينومية لهم هي جينات قاتلة لبروتين الحياة، ومعطلة للتطور، وقاتلة للأمل وخلايا الجمال. هم مافيا متحركة تنجذب مغناطسيا إلى عمالة المال والدول، أكثر مما هم طبقة سياسية. فهم ليسوا كلهم سياسيين: منهم “كورس سياسي” مربوط بحبل الحزب دون شراكة في القرار “لا في العير ولا في النفير”. ومنهم “بوق سياسي” ينشر “مكبات” حزبه بين الناس، يدعوهم إلى الفضيلة، وعدم معصية الله، وآل البيت الكرام، لكنه غارق بفضيلة معاصي متعة زواج المال والجسد، ونهب الوزارات والمنافذ والعقود، ومال اليتيم والفقير. قليلون هم السياسيون العراقيون الذين يزرعون الأمل للوطن، ويرممّون البيت العراقي بالموزاييك الوطني الأصلي.

وقد قيل، ليس كل من وطئ مياه البحر أصبحَ سبَّاحًا، وليس كلُّ من اقتنى صِّـنارةً أصبحَ صَيّادًا، وبالتالي، ليس كلُّ من أدعى الوطنية أصبحَ صوتَ الشعب. فقد غرق معظمهم في بحر قتل الشعب وتجويعه، وفي رذائل الفساد، وعمالة الأجنبي، ووحل الطائفية المقيتة. فأصبحت ” صنارتهم” لصيد الأمل وقتله، وإفراغ بحر الوطن من المفكر والمثقف والفنان، وما تبقى من جمال الروح والموقف. حتى وصلنا إلى قاع مجهول لا نستطيع فيه التنفس، لأن شرايين رئة الوطن أمتلئت بالجلطات الدموية، فانغلقت منافذ العيش السليم، وتوطنت جراثيم الأحزاب وفيروساتها في خلايا الوطن.

لقد ابتلى الوطن بمافيا مسلحة بالجهل وعقدة العوز، ومرضى السادية، جعلت من الصدف والأقدار أن يحكموا وطنا استوطنت فيه الحضارات المتنوعة، وخزائن الشعر، وألق الحرف والكتابة والقانون، وطن “عبقري المجد عزما وسماحا”.

فهؤلاء المافيا هم بلاء العراق، وسبب ظلمة نوره، واختفاء شمسه، وخفوت عنفوانه، وفقر شعبه، وإطفاء أنواره الثقافية والعلمية. هم من تفننوا بتهديم أسواره، فجعلوه ضيعة تابعة للأجنبي، وميدانا حربيا للصراعات العسكرية، وملاذا للميليشيات الوقحة، وموطنا للبؤس والمخدرات والطقوس والأفعال الاجتماعية القبيحة. صار الوطن غريبا في عراقيته، وعراقا غريبا عن موطنه وولادته!

كان المحتل الأمريكي ذكيا في اختياره لمثل هذه النخب اللقيطة، لأنه يعرف مؤهلاتها الشخصية، وأمراضها المزمنة، وقدرتها على هدم الوطن وتفكيك نسيجه الديني والقومي والاجتماعي. ويعرف إن ” شعيط” و”معيط”، يمكن لهما صنع عراق جديد، تموت الوطنية فيه، وترفع الغيرة منه، وتزداد فيه وقاحة النهب واللصوصية، ويقتل فيه الإحساس بالمواطنة والكرامة، ويكون القتل شجاعة، والعمالة للأجنبي انتماء، والخيانة مذهبا، ويصبح الوطن مستعمرة لأصحاب العمائم واللحى، والجهلة واللصوص والمستبدون. حيث تنتعش فكرة “محو العراق” لاستبداله بوطن مجهول النسب والتاريخ.

لذلك لا نستغرب أن نجد في عراق اليوم، سوى عراقي محدودب الظهر من أحمال ثقيلة ألقت بها هذه الأحزاب على ظهره بحجة الأزمات المتوالية. ولا أبطالا إلا في القبور، ولصوصا في القصور، وحكاما على جثث الناس يرقصون، وبالدين يظلمون ويقتلون ويكفرون. وأوغاد سياسة تتمجد بالعمالة، وتنافق بتحيّات العبيد المذعنين.

بلد متنافر، ومتفجر، ومُشَوَّهِ الهوية والشَخصيّة، حيث انتشار الفقر والبطالة والعوز، وتَدنّى مستوى التعليمِ والثقافة، مقابل انتشار العرافيّن والدجاليّن. حيث تسخّف مفهوم المواطنة والدولة، وانخفاض سقف الطموحات الوطنية، وانتقال جموع الجهلة إلى المؤسسات، وإقصاء رجال العلم والفكر عنها، لاستبدالهم بالأميين والمزورين واللصوص. ليصبح، مع الأسف، شعبَ العراق “تعظُـمُ فـي عَيـنِ الصّغِـيرِ صِغارُه”? بعد إن كان شعبَ “تَصْغُـر فـي عَيـنِ العَظِيـمِ العَظـائِمُ”!

صار الوطن يجمع “شعيط ومعيط وجرار الخيط “? أو” نطاط الحيط”. فالحاكم السياسي عندنا “حرامي” اسمه “شعيط”، وقاطع طريق اسمه “معيط“. كلاهما من فصيلة واحدة، تجمعهم شهوة الجوع، ودجل الخرافات الدينية، وتقية القتل والسرقة. فصار الكثير منهم قادة لأحزاب، ظاهرها “مخافة الله” و”وحب الوطن“? وباطنها “معصية الله ” و”سرقة الوطن “. حيث تفننوا بصناعة الطائفية والقتل والتهجير، و”شفط” المال والنفط، وتأسيس واقع مريض بالفقر والبطالة والمخدرات والخرافات والمزابل. فكانت مكرمتهم توسعة مقابر الوطن، بدلا من توسعة بساتين النخيل والبرتقال، ومتنزهات الزهور، ودور العلم والثقافة والفنون.

وبمنطق التاريخ، من كان فكره ملوثا بعقل الجاهلية الأولى، وبدجل العرافين والسحر والكهانة، لا يمكن أن يكون حاكما متحضرا وديمقراطيا ووطنيا، إلا عندما “يبيض الديك“، أو أن تتغير الفصول دون أن يتغير الطقس، أو نرى شعار” المجرب لا يجرّب” يجرّب لمرة واحدة فقط على حراميّة العراق!

فأيّ عراق نتحدث عنه اليوم، وقد هجره التاريخ، وَاسْتَلَبْت هويته الوطنية والعروبية، واستباح أرضه العجمي والتركي والأميركي، وأقوام الدنيا كلها. وايّ حاكم سياسي نتحدث عنه، وسيرته معطرة بالفضائح المخزية، ونوادر الزمن وعجائبه. فصار العراق يحكمه من كان مهنته “قاطع طرق”، و”حمله دار ” و” وراعي غنم ” و”مزور “. فكانت النتيجة بلد مدمر ومفكك وفاسد ومستباح، لا يعرف تاريخه ولغته، ولا يحسن أن يدرك من هو الابن أو العدو!

بالمختصر، لدينا اليوم حكاما من الإسفنج، فهم أصداء وليسوا أصواتا! ولدينا شعب مازال مغيّبا بالطقوس والخرافات، وما يضرّسه من علقم وحصرم وحصى هو حصاد ما زرعه بِيَدَيْهِ! وما أصاب العراق اليوم من تخلف وتهميش ونكبات، ما كان يحدث، لو أن هناك طفرة جينية من الغيرة الوطنية، وشيء من الحياء لدى من يحكم الوطن. لكن للأسف فإن الذين لديهم غيرة عراقية قد ماتوا عبّر الزمن بعطر العراق!

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق