q
في ذلك العصر الرهيب الذي تقلَّبت فيه الأمور والأحوال وتغيرت الدول والحكام حيث عاش المولى المعظم والإمام المكرم جعفر بن محمد الصادق سادس أئمة المسلمين، مخضرماً بين عهدين سياسيين وإمبراطوريتين دنيويتين باسم الدِّين الإسلامي الحنيف، وليس لهم من الدِّين إلا الاسم والاطار العام فقط، وأما الحقيقة...

استشهد الإمام الصادق (ع) في 25 شوال سنة 148 ه في المدينة ودُفن في بقيع الغرقد

مقدمة في السياسة

الدِّين جاء لتربية العباد، وترويضهم على العبادة والطاعة لأوامر الله تعالى، فهو سياسة شرعية يتضمَّن شريعة وقوانين سياسية عامة ترعى شؤون الناس على كل المستويات لتحقيق العدل العام في الحكم، والقسط الشامل في المجتمع، تلك التي قيل عنها: (ديننا سياسة وسياستنا دين) بهذا المنظار الدقيق لتقوى الله في البلاد والعباد أثناء سياستهم.

وأما السياسة اليوم التي تعني فن المراوغة والكذب وفن الممكن، تلك السياسة لا دين لها لأنها مبنية على المصالح الشخصية البحتة، وشعارها الغاية تبرر الوسيلة، وبما أن الغاية هي المصلحة الضيقة فكل الممارسات ممكنة لتحقيق مصالحنا ولو ذهب الجميع إلى الجحيم، فنحن أولاً كما رفعت إمبراطورية الشر منذ بدايتها بالظهور (أمريكا أولاً)، فأذاقت العالم أنواع الحروب وصنوف الويلات التي لم يخرج منها إلى الآن كما نرى ونعيش في أتونها المستعر.

ومن سيرة الإمبراطوريات في التاريخ البشري أنها تعتمد على السياسة بالمفهوم الأموي (شعرة معاوية، والغاية تبرر الوسيلة)، والعباسي (الملك عقيم ولو نازعتني عليه لأخذتُ الذي فيه عينيك)، وذلك لأنهم يدَّعون؛ أن السياسة لا دين لها ولا أم وأب تعرفه، فكم من الملوك أبادوا أسرهم خوفاً منهم، وكم من إخوة تقاتلوا على السلطة والحكم وأوضح مثال الأمين والمأمون العباسيين حيث تحاربا خمس سنوات أبادا الحرث والنسل إلى أن قُتل الأمين وقُطع رأسه وأُخذ إلى أخيه فأمر بتعليقه على باب المدينة التي هو فيها.

فهذه ليس سياسة بل هي خساسة ونجاسة، فالقائد السياسي هو بمثابة الأب الرؤوف، وليس الجلاد العسوف، كما يصفه الإمام الرؤوف السلطان علي بن موسى الرضا (ع) في حديثه الرائع لعبد العزيز بقوله: (الإمام الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، وألام البرَّة بالولد الصغير، ومفزع العباد في الداهية النآد (المصيبة الكبرى)، الإمام أمين الله في خلقه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذَّابُّ عن حرم الله)، بهذا الساسة الحقة.

الإمام الصادق (ع) والسياسة العباسية الظالمة

في ذلك العصر الرهيب الذي تقلَّبت فيه الأمور والأحوال وتغيرت الدول والحكام حيث عاش المولى المعظم والإمام المكرم جعفر بن محمد الصادق سادس أئمة المسلمين، مخضرماً بين عهدين سياسيين وإمبراطوريتين دنيويتين باسم الدِّين الإسلامي الحنيف، وليس لهم من الدِّين إلا الاسم والاطار العام فقط، وأما الحقيقة والواقع فكانوا جميعاً ضد الدِّين بالمعنى الحقيقي والواقعي للكلمة، في ذلك العصر ولد وعاش الإمام الصادق (ع) من (83 - 148 هـ)، فكان أطول الأئمة عمراً مباركاً، وأكثرهم حضوراً بعد جده أمير المؤمنين الإمام علي (ع).

وقد ذاق مرَّ العلقم من حكام وسلاطين بني أمية الأوزاغ اللعناء، فكم مرة رافق والده العظيم إلى الشام حيث كان يستدعيهما حكام بني مروان (الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون)، الذين (اتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً)، وحوَّلوا السلطة والحكم (إلى ملك عضوض)، فعضَّ الأمة الإسلامية كلها عامَّة، وأئمتها خاصَّة، ولكن الله سبحانه كان يُنقذهما بلطفه وكرمه.

والدعوة العباسية قامت باسمه الشريف وتحت رايته المباركة – كما أظهروا منذ البداية – لأنها كانت إلى (الرضا من آل محمد)، وكان الإمام الصادق هو رأسهم ورئيسهم دون شك ومنازع، إلا أن الأمور سارت بالشكل الذي رسمه أبو سلمة الخلال، الذي كان منحرفاً عن الولاية والإمامة، ومن أهل السياسة الدنيوية المصلحية، الذين يريدون الدِّين مطيَّة لهم للوصول إلى السلطة والحكم وليس ممَّن يجعلون الوصول إلى الحكم لتحقيق العدل والقسط.

ونأخذها من سماحة الإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله) من كتابه عن الإمام الصادق (ع)، حيث يقول: "روى المؤرخون: أنه لما قدم أبو العباس السفاح وأهله سراً على أبي سلمة الخلال الكوفة، ستر أمرهم، وعزم أن يجعلها شورى بين ولد علي والعباس، حتى يختاروا هم من أرادوا، ثم قال: أخاف أن لا يتفقوا؛ ثم عزم أن يعزل الأمر إلى ولد علي والحسن والحسين (ع)، فكتب إلى ثلاثة نفر منهم: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين (عليهم الصلاة والسلام)، وعمر بن علي بن الحسين (الأشرف)، وعبد الله بن الحسن بن الحسن (المثنى).

فبدأ الرسول بجعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) فلقيه ليلاً، وأعلمه أن معه كتاباً إليه من أبي سلمة، فقال (عليه السلام): (وما أنا وأبو سلمة هو شيعة لغيري).

فقال: تقرأ الكتاب، وتجيب عليه بما رأيت. فقال الإمام جعفر (عليه الصلاة والسلام) لخادمه: (قدِّم منِّي السِّراج (، فقدَّمه، فوضع عليه كتاب أبي سلمة فأحرقه (دون أن يقرءه)، فقال: ألا تجيبه؟. فقال: (قد رأيتَ الجواب).

فخرج من عنده، وأتى عبد الله بن الحسن المثنى، فقبِل كتابه وركب إلى جعفر بن محمد (عليهما الصلاة والسلام)، فقال: (أي أمر جاء بك يا أبا محمد! لو أعلمتني لجئتك)، فقال: أمر يجلُّ عن الوصف! قال: (وما هو يا أبا محمد)؟ قال: هذا الكتاب أبي سلمة يدعوني للأمر، ويرى أني أحقُّ الناس به، وقد جاءته شيعتنا من خراسان.

فقال له الإمام جعفر الصادق (عليه الصلاة والسلام): (وما شيعتك! أنتَ وجهتَ أبا مسلم إلى خراسان، وأمرته بلبس السواد؟ وهل تعرف أحداً منهم باسمه ونسبه؟ كيف يكونون من شيعتك وأنتَ لا تعرفهم ولا يعرفونك؟)، فقال له عبد الله: إن كان هذا الكلام منك بشيء.

وقال جعفر (عليه الصلاة والسلام): (قد علم الله أني أوجب على نفسي النصح لكل مسلم، فكيف أدخره عنك، فلا تمنينَّ نفسك الأباطيل؛ فإن هذه الدولة ستتم لهؤلاء القوم، وقد جاءني مثل ما جاءك)؛ فانصرف غير راض بما قاله". (من حياة الإمام الصادق (ع) عن عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب لابن عنبة: ص102)

وفي رواية المروج؛ فنازعه عبد الله بن الحسن الكلام، إلى أن، قال: إنما يُريد القوم ابني محمداً لأنه مهدي هذه الأمة، وقال للإمام: والله ما يصنعك من ذلك إلاّ الحسد. (أمر عجباً حقاً ينصحه الإمام بالحق فيتهمه بالحسد له ولولده رغم أنه يدَّعي لولده ما ليس له (الإمامة).

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (والله ما هذا إلا نصحٌ منِّي لك، ولقد كتب إليّ أبو سلمة بمثل ما كتب به إليك، فلم يجد رسوله عندي ما وجد عندك، ولقد أحرقت كتابه من قبل أن اقرأه)، فانصرف عبد الله من عند الإمام جعفر الصادق مغضباً " (التاريخ الإسلامي دروس وعبر: ص135 عن مروج الذهب)

فالسياسة الشرعية والدينية تقتضي أن يكون الإمام واضحاً وصريحاً في مسألة الحق وأن يحكم بالعدل ولا تأخذه في الله لومة لائم، لأنه سيحكم باسم الله وعلى كتاب الله وسُنة رسوله الكريم (ص) والحاكم باسمهما يجب أن يكون معصوماً لكيلا يقع في الخطأ والمعصية في أثناء تنفيذ الحكم وأين ذلك من حكام بني أمية أولاً، وبني العباس ثانياً، وغيرهم أخيراً؟

ليس هذا الأمر لنا

والإمام الصادق (ع) كان واضحاً وصريحاً من الدعوة الخراسانية من أبي سلمة، ولذا حاول أن يُحذِّر بني عمومته من مغبَّة الوقوع في شِراكه المنصوبة، لا سيما أبناء الإمام الحسن (ع)، ففي الاجتماع الذي عقد وحاولوا أن يُبعدوا الإمام الصادق (ع) إلا أنهم لم يستطيعوا ذلك لأنه الأعلم والأبرز من آل محمد (ص)، فلما اجتمعوا قال الإمام جعفر الصادق (ع) لهم: (لا تفعلوه فان هذا الأمر لم يأت بعد، وإن كنتَ ترى - يعني عبد الله - أن ابنك هذا هو المهدي فليس به، وإن كنتَ إنما تريد أن تخرجه غضباً لله ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإنّا والله لا ندعك وأنت شيخنا، ونبايع ابنك).

فغضب عبد الله وقال: لقد علمتُ خلاف ما تقول ووالله ما أطلعك الله على غيبه، ولكن يحملك على هذا الحسد لابني. (تأمل بهذه الفرية على الإمام الصادق الناصح المطلع على الغيب).

فقال (ع): (والله ما ذاك يحملني ولكن هذا وإخوته وأبناؤهم دونكم - وضرب بيده على ظهر أبي العباس، ثم ضرب بيده على كتف عبد الله بن الحسن - وقال: إنها والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنها لهم، وإن ابنيك لمقتولان).

ثم نهض، وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال: (أ رأيت صاحب الرداء الأصفر - يعني أبا جعفر المنصور - ؟ قال: نعم، قال: فأنا والله نجده يقتله، قال له عبد العزيز: أ يقتلُ محمداً؟، قال: نعم؛ قال: فلما قال جعفر ذلك انفضّ القوم وافترقوا ولم يجتمعوا بعدها".

وفي رواية الإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله) يقول: "إن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال لعبد الله بن الحسن: (إن هذا الأمر والله ليس إليك ولا إلى ابنيك، وإنما هو لهذا ـ يعني السفاح ـ ثم لهذا ـ يعني المنصور ـ ثم لولده بعده، لا يزال فيهم حتى يؤمِّروا الصبيان ويشاوروا النساء).

فقال عبد الله: واللهِ يا جعفر ما أطلعك الله على غيبه، وما قلت هذا إلا حسداً لابني.

فقال: (لا واللهِ ما حسدت ابنيك، وإن هذا ـ يعني أبا جعفر ـ يقتله على أحجار الزيت، ثم يقتل أخاه بعده بالطفوف وقوائم فرسه في ماء). ثم قام مغضباً يجر رداءه، فتبعه أبو جعفر (المنصور)، وقال: أتدري ما قلت يا أبا عبد الله؟ قال: (إي واللهِ أدريه، وإنه لكائن).

قال: فحدثني مَنْ سمع أبا جعفر يقول: فانصرفتُ لوقتي فرتبتُ عمالي، وميزتُ أموري تمييز مالك لها، قال: فلما ولي أبو جعفر الخلافة سمَّى جعفراً الصادق، وكان إذا ذكره قال: قال لي الصادق جعفر بن محمد: كذا وكذا، فبقيت عليه". (من حياة الإمام الصادق (ع) السيد الشيرازي: ص288 وما بعدها عن بحار الأنوار: ج47، ص160 ـ 161)

ويقول الإمام الراحل معلقاً على ذلك: " لقب (الصادق) من الله عز وجل ومن رسوله (صلى الله عليه وآله)، ولكن زعم بعض الناس أنه جاء من المنصور"، وهذا هو الحق الصريح من الروايات الصحيحة والصريحة باسم الأئمة الوقفي من الله تعالى وبيان رسوله (ص) لهم ولألقابهم.

السياسة العباسية الظالمة

إذا كانت الأمور بهذا السياق تجري، وأنها كانت باسم الإمام الحق المفترض الطاعة والرضا من آل محمد (ص) وهو الإمام الصادق (ع) شخصياً دون غيره من أهل بيته فلماذا وهو الذي بشَّرهم بالوصول إلى الحكم من قبل أن يصلوا إليه، فلماذا جرت الأمور بهذا الشكل الظالم والمفجع في كثير من مراحلها من بني العباس تجاه أئمتهم وسادتهم الأطهار الأبرار (ع)؟

تلك هي المسألة في السياسة العباسية الظالمة، وشعارها اللعين (الملك عقيم)، لمعرفتهم بأن الحق بغيرهم وليس فيهم ولا لهم فيه نصيب فحاولوا أن يُبيدوا أهل الحق لتصفو لهم الأمور لأن الظالم يحسُّ بالخيبة والخوف من صاحب الحق مادام حياً يُرزق، ولذا راح أبو جعفر المنصور بعد أن استتبت له الأمور يُضيِّق على الإمام الصادق (ع) ويُريد أن يتخلَّص منه بأي طريقة إلى أن قتله بالسم – والعياذ بالله – بعد معاناة عشر سنوات عجاف قضاها الإمام (ع) في حكم ذلك الطاغية الجبار العنيد.

حيث دسَّ إليه السَّم فقضى في الخامس والعشرين من شوال من سنة 148ه وذهب إلى الله شهيداً وشاهداً على ظلم بني العباس وطغيانهم، ودفن في بقيع الغرقد إلى جوار والده، وجده، وعمه؛ صلوات الله عليهم جميعاً.

والسلام عليهم أبد الدهر ومدار العصر وما تقلَّب الليل والنهار.

اضف تعليق