q
الكرامة الإنسانية، تشكل حجر الزاوية في مشروع الإصلاحات والتحولات الإيجابية في أي مجتمع. فلا تطوير لأوضاع الأمة السياسية والحقوقية دون صيانة الكرامة الإنسانية أفراداً وجماعات، ولا تطوير لمناهج التربية والتعليم دون إعادة الاعتبار إلى الإنسان وجوداً ورأياً وحقوقاً، ولا استقرار عميقاً لكياناتنا الأسرية والاجتماعية دون الحفاظ...

مفتتح

لقد غدا مصطلح (الكرامة الإنسانية) من أكثر المصطلحات تداولاً في المحافل الثقافية، وهيئات المجتمع السياسي، وأطر ومؤسسات المجتمع الأهلي والمدني، ووسائل التواصل والإعلام بكل مستوياته، وأوساط الرأي العام.

وما الحديث المتسارع والمتنامي عن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتزايد المناداة والإلحاح على حمايتها وصونها ووقف الانتهاكات الفردية والجماعية التي يتعرض إليها الإنسان في بقاع شتى من العالم، إلا أحد الوجوه البارزة للاهتمام والحضور المتعاظم لقضية ومسألة (الكرامة الإنسانية) بكل تجلياتها ومصاديقها الخارجية.

لأنه وببساطة شديدة، الكرامة الإنسانية، تشكل حجر الزاوية في مشروع الإصلاحات والتحولات الإيجابية في أي مجتمع. فلا تطوير لأوضاع الأمة السياسية والحقوقية دون صيانة الكرامة الإنسانية أفراداً وجماعات، ولا تطوير لمناهج التربية والتعليم دون إعادة الاعتبار إلى الإنسان وجوداً ورأياً وحقوقاً، ولا استقرار عميقاً لكياناتنا الأسرية والاجتماعية دون الحفاظ على كرامة الآحاد ممن تتشكل منه الأسرة، ولا تنمية شاملة في مجتمعاتنا دون حفظ حقوق وكرامة الإنسان.

وفي المقابل فإن امتهان كرامة الإنسان، هو البوابة الواسعة لكل الكوارث الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية والسياسية التي تعانيها مجتمعاتنا، ونتوءاتها بارزة وتأثيراتها الكارثية واضحة على أكثر من صعيد. فامتهان الكرامة الإنسانية هو بوابة تدمير الاقتصاد والثقافة والاجتماع والسياسة في حياتنا وفضائنا الحضاري. ولا عودة حضارية لمجتمعاتنا إلا بعودة كرامتنا الإنسانية وصياغة حياتنا الخاصة والعامة على أساس احترام وتقدير كل مقتضيات ومتطلبات الكرامة الإنسانية على المستويين الفردي والمؤسسي.

ولو تأملنا في طبيعة الاحتلالات الأجنبية التي تعرضت لها بلداننا العربية والإسلامية، وساهمت في نهب ثرواتنا، والقضاء على قدراتنا والتحكم بمصائرنا؛ لوجدنا أن امتهان الكرامة الإنسانية هي بوابة كل هذه الانحدارات التي أصابتنا وحوَّلتنا إلى سديم بشري لا حول له ولا قوة.

وإن عملية التصحيح والانعتاق من ربقة كل هذه المآزق، لن تتم إلا بتصدر مفهوم وحقائق الكرامة الإنسانية حياتنا ومشهدنا الثقافي والسياسي.

الإنسان في الرؤية الإسلامية

وفق الرؤية الإسلامية التوحيدية، فإن ماهية الإنسان وطبيعته، قد تحددت في العلم الإلهي قبل الوجود الإنساني – العيني؛ إذ يقول تبارك وتعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

فالطبيعة الواقعية للإنسان محددة قبل الوجود العيني للأفراد؛ إذ يقول تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}. فهذه الآية القرآنية الكريمة، توضح وتخبر عن وجودٍ للإنسان سابقٍ على وجوده العيني، وتم فيه أخذ العهد بالإيمان من بني الإنسان جميعاً.

ووفق الآيات القرآنية الكريمة فإن الماهية الإنسانية تتقوم بعنصر أساسي هو عنصر شهادة الربوبية واعتراف الإنسان المطلق بألوهية الخالق ووحدانيته، كما توضح الآية القرآنية الكريمة سالفة الذكر. فالإيمان بوحدانية الخالق وألوهيته هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولكن هذه الحقيقة الفطرية الراسخة في الوجود الإنساني، لا تتحقق بالنسبة إلى آحاد الإنسان إلا بالاختيار والجهد الإرادي الحر. وحينما يذهب الإنسان بعيداً في اختياره، فإن هذا الإنسان يُصبح {كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (الفرقان، الآية 44). ويقول عز من قائل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}. فالإنسان -كما يقرر الراغب الاصبهاني- يحصل له من الإنسانية بقدر ما يحصل له من العبادة التي لأجلها خُلق، فمن قام بالعبادة حق القيام فقد استكمل الإنسانية، ومن رفضها فقد انسلخ من الإنسانية.

«فالإنسان في التصور الإسلامي لا يبدع ماهيته كما تعتقد الفلسفة الوجودية، وإنما هو يحققها من خلال جهده الإرادي بإخراجها من طور القوة والكمون إلى طور الفعل والظهور».

والإنسان حين يعتقد ويؤمن بالحكمة الإلهية لوجوده {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، فإنه سيعمل ويكدح ويسعى لأجل تحقيق غاية هذا الوجود التي من خلالها يرتقي لتحقيق ماهيته الإنسانية. فإنسانية الإنسان لا تتحقق صدفة، وإنما هي بحاجة إلى تربية وتهذيب، وعمل وكفاح، واتصال دائم بالحقيقة المطلقة وهو الباري عز وجل. وبمقدار التصاق الإنسان بخالقه، عبر عبادته العبادة الحقة، والالتزام بتشريعاته ونظمه المختلفة في مختلف جوانب الحياة، بالقدر ذاته يقبض الإنسان على إنسانيته، ويتخلص من كل رواسب ونزعات الشر والابتعاد عن الطريق المستقيم. والإرادة الإنسانية هي حجر الزاوية في مشروع تحقيق إنسانية الإنسان. أي أن الرغبة المجردة لا تحقق ما يصبو إليه الإنسان. وإنما هو بحاجة دائماً إلى إرادة وعزم وتصميم لمحاصرة وضبط أهوائه وشهواته، من أجل التدرج في مدارج الكمال الإنساني. وبمقدار ما يتخلى الإنسان عن نزعاته ونزواته الشريرة، يرتقي من مدارج الكمال، ويقترب من الصورة التي أرادها الله سبحانه وتعالى له.

لذلك نجد الآيات القرآنية الكريمة تمتدح الإنسان الذي لا يخضع إلى شياطين الإنس والجن. قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}.

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}.

فالرؤية الإسلامية وضعت الإنسان في أشرف المراتب؛ فالباري عز وجل وضع فيه أشرف المخلوقات وهو (العقل)، واختياره لخلافته في الأرض. إذ يقول عز من قائل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.

فالوضع القيمي للإنسان يتميز بشكل نوعي عن بقية المخلوقات، كما أن الباري عز وجل منحه تكريما لا يضاهيه أي تكريم إذ سجل في محكم التنزيل {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}.

فالإسلام لا يعتبر الإنسان بوجوده، موجوداً عاصياً ومذنباً، بل ينظر إليه بوصفه موجوداً فطريًّا مهما احتجبت وتلوثت تلك الفطرة فيه نتيجة الغفلة والنسيان والذنوب. وهذا هو مقتضى قول الباري عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، والأديان والرسالات والتشريعات السماوية، جاءت لتظهير هذه الحقيقة المغروسة والموجودة في جوهر الوجود الإنساني.

«من هنا، دعانا الإسلام وقبل كل شيء إلى استحضار تلك المعرفة المغروسة في أعماق نفوسنا، وبسبب أهمية تلك المعرفة في رسم السعادة الإنسانية فإن الإسلام خاطب الإنسان بوصفه صاحب عقل لا صاحب إرادة فقط، فإذا كان التمرد على الله وهو الذنب الأكبر عند المسيحية ناشئاً من الإرادة، فإن الغفلة تشكل الذنب الأكبر في الإسلام، والتي تكون نتيجتها عدم قدرة العقل على تشخيص الطريق الذي رسمه الله للناس، ولأجل ذلك، فإن الشرك من أعظم الذنوب التي لا تغتفر، وهو بعبارة أخرى يساوي إنكار التوحيد».

فالرؤية الإسلامية للإنسان، قائمة وبشكل جوهري، على أن الإنسان بعقله وإرادته وقلبه وبكيانه كله، لا بد أن يكون عبداً حقيقيًّا ومخلصاً لله سبحانه وتعالى، يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه ويُسلِّم تسليماً مطلقاً للواحد الأحد.

وإن هذا التسليم ليس ضرباً من ضروب الجبر، بل نتيجة طبيعية للإيمان والرضا بما قدَّر الله سبحانه وقضى.

والإنسان حين يكون متصلاً بالله تعالى، وملتزماً بشريعته، فهو يتحرر من كل الضغوطات الداخلية والخارجية، ويصبح رأسماله الحقيقي هو كرامته الإنسانية. فالحاجة مهما كانت، لا تقوده إلى الذل وامتهان الكرامة.

فالكرامة الإنسانية والشعور العميق بها، هي وليدة العبودية لله وعدم الخضوع لأي حاجة قد تُذل الإنسان، وتُخرجه عن مقتضيات الكرامة والعزة.

الكرامة الإنسانية.. المبادئ والمرتكزات

لا يمكن أن يتضح مفهوم الكرامة الإنسانية، في الرؤية القرآنية، دون تحديد الأسس والمباني والمبادئ القرآنية الكبرى، التي هي بمثابة الحاضن لكل مفردات وتجليات ومصاديق الكرامة الإنسانية في جوانب الحياة المختلفة. وإن مفردات ومصاديق الكرامة الإنسانية مبثوثة في كل جوانب التشريع الإسلامي.

وحين التأمل في كتب الأصول والفقه، نرى أن المباحث التي لها صلة بمفهوم الكرامة الإنسانية ومصاديقها المتعددة موجودة في مباحث الحق حيث توضح أساس الحقوق، ومباحث الحكم التخييري وهي توضح أساس الحريات، ومباحث الحكم الاقتضائي التي توضح الواجبات. ولعل المطلوب هو تجميع هذه المفردات والعناوين في سياق ومنظومة واحدة، حتى نتمكن من تظهير الرؤية الإسلامية المتكاملة لمفهوم الكرامة الإنسانية بأبعادها المختلفة.

وفي تقديرنا أن أسس ومبادئ الكرامة الإنسانية هي النقاط التالية:

1- المساواة بين الناس

فالناس جميعاً بصرف النظر عن منابتهم الأيديولوجية وقومياتهم ولغاتهم وألوانهم سواء لدى القانون وفي الحقوق والواجبات.

ومقتضى المساواة هي رفض التمييز بين الناس لاعتبارات قومية أو جنسية أو لغوية أو دينية. لهذا فإن كل جهد أو ممارسة أو سياسة، تميز بين الناس، وترتب على أساسها الحقوق والواجبات، هي جهود وممارسات مناقضة لمفهوم الكرامة الإنسانية؛ لأن من أسس ومبادئ الكرامة الإنسانية المساواة بين الناس.

فلا فرق بين الناس في طبيعة الخلق؛ إذ يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، ولا تمييز على أساس الون أو اللغة؛ إذ جاء في الحديث الشريف «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أسود على أبيض إلا بالتقوى»، بل جُعل معيار التفاضل بين الناس، معياراً كسبيًّا {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.

وإن العمل الصالح بكل مستوياته ودوائره، مآله الحياة الطيبة، سواء كان هذا العمل من ذكر أو أنثى؛ إذ يقول تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

وإن التعدد والتنوع في القبائل والشعوب، ليس مبرراً لاستعلاء أحد على أحد، أو شعور طرف بأنه أفضل من الطرف الآخر، وإنما كل هذا التنوع والتعدد من أجل {لِتَعَارَفُوا} بكل ما تحمل هذه المقولة من مضامين حقوقية واجتماعية وثقافية؛ إذ يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ( الحجرات، الآية 13 ).

2- الفطرة والجِبِلَّة الإنسانية

وهذا المبدأ يرتكز في أسسه الأولى إلى الوجود الإنساني المتميز خلقاً وغايةً. إذ هو المخلوق المكرَّم من الباري عز وجل؛ إذ يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، وهو مخلوق لغاية خصه الله سبحانه وتعالى بها وهي الاستخلاف إذ يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. ويقول عز من قائل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.

وعلى ضوء قيمة الاستخلاف، حدَّد الدين الإسلامي علاقة الإنسان بالأرض بأنها علاقة سيادة، كلَّفه الخالق عز وجل بعمارتها؛ إذ قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}، ومقتضى التكريم الرباني للإنسان أنه فضَّله على سائر المخلوقات {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، ووفر للإنسان القدرة والمكنة للهيمنة على كل ما في الأرض وما عليها وما في باطنها وما يحيط بها والاستفادة منها؛ إذ يقول تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، و «إن هذا التكريم يمكن أن يتبدَّى في جانبين: الجانب النسبي، وهو يعني تكريم الإنسان بإعطائه درجة على ما سواه وتسخير المخلوقات له. والجانب المطلق، وهو يعني إقرار كرامة الإنسان وترسيخها في علاقاته الاجتماعية، أي داخل نوعه نفسه، وذلك على أسس أهمها:

أولاً: معاملة كل إنسان وفق الشروط التي يعامل بها الآخر، عندما يكون الاثنان في الوضع القانوني نفسه.

ثانياً: أن تطلق حرية الإنسان في التصرف، تعبيراً عن إنسانيته ومواهبه بشكل يسمح له بالقيام بكل ما هو غير ممنوع.

ثالثاً: أن تُؤمَّن له الوسائل لتأمين العيش الكريم بقدر ما تسمح به الأوضاع الاقتصادية ليقوم بدوره سياسيًّا واجتماعيًّا على أكمل وجه.

رابعاً: إمكانية أن ترفع عنه الظلامات فور وقوعها وتعويضه عن كل ما يطال شخصه أو حريته أو ماله ليستمر من دون عوائق، ممارساً لدوره الذي خلقه الله من أجله».

فالفطرة الإنسانية التي خلق الله الإنسان عليها متقومة بمعنى التكريم والاستخلاف الإلهي، وأي انحراف عن هذه الفطرة يُعدُّ تعدياً على كرامة الإنسان؛ لأن مفهوم الفطرة وعلاقتها بالعبودية الإنسانية لله تعالى تجعل من ولاية الإنسان على نفسه محددة بالفطرة أولاً، وبالشريعة الإسلامية ثانياً.

لهذا فإن الانتحار أو الإضرار بالنفس والجسد كيفما كان نوعه، والشذوذ الجنسي، لا يمكن اعتبار كل هذه العناصر من الحقوق الإنسانية المحترمة، لأنها مناقضة للفطرة والجبلة الإنسانية.

«إذن لا بد من اعتبار الحيثية الذاتية للإنسان، وعلاقة هذه الحيثية بالفطرة الإنسانية؛ لأن الإنسان ليس موجوداً ماديًّا تصوغه الطبيعة ويُشكِّله الواقع الاجتماعي فقط. كما تذهب إليه الفلسفة الغربية ذات الجذور الغارقة في المادية. لذلك لا بد من تصحيح هذه النظرة الخاطئة التي تنبني عليها حقوق وهمية، تضر بالفطرة الإنسانية، وتخالف المفهوم الحقيقي لوجود الإنسان. بل إن هذه المخالفة للفطرة والشريعة، تؤدي بالإنسان إلى الخروج عن الصفة الإنسانية. وهذا ما تشير إليه الآية القرآنية {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}».

وهذا يجعلنا نعتقد بأصالة الكرامة الإنسانية، وأن الأصل الذي ينبغي للإنسان -مهما كانت ظروفه وأوضاعه- أن يحافظ عليه ويدافع عنه، ويرفض رفضاً قاطعاً أي تعدٍّ عليه.

وعلى أساس أصالة الكرامة الإنسانية، تبلورت أصالة حرية الإنسان وعدم عبوديته لأحد من الخلق؛ إذ جاء في الحديث الشريف عن الإمام علي (عليه السلام): «يا أيها الناس إن آدم لم يلد عبداً ولا أمةً، وإن الناس كلهم أحرار».

وسيرة أهل البيت (عليهم السلام) توضح لنا مدى حرصهم على كرامة الإنسان، ورفضهم أن يُذل الإنسان نفسه لأي حاجة. وروي أن الإمام علي (عليه السلام) عند مسيره إلى الشام لقيه دهاقين الأنبار، فترجلوا له واشتدوا عليه، فقال (عليه السلام): ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خُلُق منا نُعظِّم به أمراءنا، فمنعهم (عليه السلام) عن هذا الفعل بقوله: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم،وإنكم لتشقون به على أنفسكم في دنياكم، وتشقون به في آخرتكم، وما أخسر المشقة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار.

ومن جهة أخرى يذم الإمام (عليه السلام) تكبُّر الحاكمين، لأنها تساهم في خدش كرامة الإنسان إذ جاء في الحديث الشريف: «فلو رخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه، ولكنه سبحانه كره إليهم التكابر ورضي لهم التكبر». ومبدأ الكرامة الإنسانية، يسع ويغطي الإنسان في حياته ومماته، لذلك نصت التوجيهات الإسلامية على ضرورة حفظ كرامة الإنسان الميت، وهناك العديد من الآداب المتعلقة بهذا الأمر، يمكن العودة إليها في الكتب الفقهية والأخلاقية.

3- مكافحة الظلم

فحين تمتهن الكرامة، ويتم التعدي على الحقوق، فإن المطلوب هو مكافحة الظلم، ومقاومة كل الأسباب المفضية إلى امتهان الكرامة أو التعدي على الحقوق. وإن التجارب الإنسانية تثبت -بشكل لا لبس فيه- أن الطريق إلى صيانة الحقوق والكرامات هو رفض الظلم ومقاومة الظالمين.

والآيات القرآنية التي توضح هذه الحقيقة عديدة منها: قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (إبراهيم، الآية 42)، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (النساء، الآية 10 )، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.

ومكافحة الظلم في القرآن الحكيم، تأخذ الصور التالية:

1- رفض التعدي على أموال الآخرين وأنفسهم وأعراضهم. يقول تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، ويقول عز من قائل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

فحين التأمل في هذه الآيات، نكتشف أنها بشكل صريح، تحرم التعدي على أموال الآخرين أو أنفسهم وأعراضهم. وإن هذا التعدي يقتضي العقوبة الشرعية الكفيلة برد الاعتداء وتطهير الفضاء الاجتماعي من السرقة والتعدي على أعراض الناس ونواميسهم.

2- رفض الظلم ونبذ الظالمين والنزعات الفرعونية، التي تمارس الحيف والاضطهاد بحق الناس وتنهب خيراتهم، وتتعدى على حقوقهم وإنسانيتهم.

والباري عز وجل أرسل أنبياءه الكرام من أجل إقامة العدل والقسط، وتخليص الإنسان من ربقة الذل والاضطهاد والاستبداد. إذ يقول تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}.

وإن السكوت عن الظلم يفضي إلى تراكم الأخطاء والذنوب والكوارث السياسية والاجتماعية لهذا يقول تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وإن مقاومة الظلم هو السبيل إلى التمكن في الأرض، وإنهاء كل مخاطر الذلة والهوان.

ويوضح هذه الحقيقة الباري عز وجل بقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، ويقول: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}. وفي تفسير قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «ليس العبادة هي السجود والركوع، إنما هي طاعة الرجال. من أطاع المخلوق في معصية الخالق فقد عبده».

لهذا كله فإننا نعتقد أن من أهم مباني ومرتكزات الكرامة الإنسانية، هي تلك المنظومة القيمية والمفاهيمية، التي تؤكد على ضرورة رفض الظلم ومقاومة الظالمين، والسعي والعمل لإنجاز مفهوم العدالة في الواقع الإنساني.

إن هذه المنظومة تشكل الإطار المرجعي الأساسي لقيمة الكرامة الإنسانية بكل تجلياتها وأبعادها. فالمطلوب دائما اتِّباع الحق بصرف النظر عن قائله أو مكتشفه فـ«الحق حق أين ما كان وكيفما أصيب وعن أي محل أُخذ، ولا يؤثر فيه إيمان حامله وكفره، ولا تقواه وفسقه، والإعراض عن الحق بغضاً لحامله ليس إلا تعلُّقاً بعصبية الجاهلية التي ذمها الله سبحانه وذم أهلها في كتابه العزيز وبلسان رسله (عليهم السلام)».

الطريق إلى الكرامة

وعلى ضوء الموقعية المركزية لقيمة الكرامة في التشريعات الإسلامية، ما السبيل الذي ترسمه آيات الذكر الحكيم لتعزيز قيمة الكرامة في واقع الإنسان الفرد والجماعة والأمة.

لأن الكثير من المآزق التي يعيشها الإنسان اليوم، هي (في المحصلة النهائية) من جراء غياب أو تغييب الكرامة، ووجود قوى مختلفة داخلية وخارجية، تعمل عبر أساليب مختلفة لقمع الإنسان وامتهان كرامته والإمعان في إذلاله. لهذا كله نحن أحوج ما نكون إلى تلمُّس الطريق والسبيل للقبض على قيمة الكرامة، والعمل على تجسيدها في واقعنا الخاص والعام.

لأنها جسر العبور إلى الفلاح الدنيوي والأخروي. وإنه لا حرية بلا كرامة، ولا تنمية دون كرامة إنسانية. وكل مشروعات التنمية التي انطلقت على حساب الإنسان وكرامته، وصلت إلى طريق مسدود، وساهمت بشكل أو بآخر في مراكمة الأخطاء والمشاكل في حياة الإنسان والمجتمع. ولا عدالة اجتماعية وسياسية دون إنسان يشعر بعمق بكرامته وعزته.

لهذا فإن الكرامة الإنسانية هي حجر الأساس لكل قيم الخير والفضيلة الفردية والجماعية. لذلك يقول الباري عز وجل: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، وجاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إن الله فوَّض إلى المؤمن أمره كله ولم يُفوِّض إليه أن يكون ذليلاً. فإن المؤمن أعز من الجبل يستقل منه بالمعاول، والمؤمن لا يستقل من دينه شيء». فالوقوع في المذلة والمهانة الفردية والجماعية، ينافي الإيمان ويناقضه؛ لأن مقتضى الإيمان أن يبقى الإنسان عزيزاً وكريماً في كل أطواره وأحواله.

وبإمكاننا أن نُحدِّد طريق الكرامة، وفق الآيات القرآنية الكريمة في النقاط التالية:

1- بناء الإنسان والجماعة المؤمنة

فالكرامة بكل مصاديقها وبركاتها، ليست ادِّعاءً يُدَّعى، أو لقلقة لسان، وإنما هي مرحلة يبلغها الإنسان والمجتمع من خلال تهذيب النفس وتنشئة الإنسان تربويًّا وعقليًّا وأخلاقيًّا وفق مقتضيات العزة والكرامة.

ولا يمكن لأية أمة أن تحقق كرامتها، وتصون عزتها، دون جماعة من المؤمنين يجسدون قيم الخير، ويعملون على محاربة أسباب الذلة والمهانة الموجودة في مجتمعهم.

لهذا فإننا نعتقد أن الخطوة الأولى في مشروع صيانة العزة والكرامة لمجتمعنا، هو العمل في بناء الإنسان والجماعة المؤمنة، التي تجسد قيم الكرامة، وتحمل لواء الدفاع عن عزة المسلمين وكرامتهم.

لذلك يقول الباري عز وجل: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}، فهذه الآية القرآنية الكريمة، تتحدث عن فئة من المجتمع، وعن نوع آخر من الناس «عاش المعرفة فكراً وإيماناً، وتحمَّل مسؤوليتها جهداً وعناءً وتشريداً، من أجل أن يُحوِّلها إلى فكر يشمل الناس كلهم، وإلى إيمان يحتوي الحياة كلها من موقع المسؤولية الرسالية التي أراد الله لعباده أن يحملوها إلى أنفسهم وإلى الآخرين. فلم يرد لهم أن ينكمشوا في داخل ذواتهم، ليكتفوا بما لديهم من المعرفة لحياتهم الخاصة، بل أراد لهم أن يتحملوا مسؤوليتها في الدعوة إليها، مهما كلَّفهم ذلك من جهد.

وهؤلاء المهاجرون الذين تمردوا على العذاب في سبيل الثبات على إيمانهم بالإسلام، وهاجروا من مواقع الضعف التي عاشوا فيها الحصار المادي والمعنوي إلى المواقع التي يعملون –من خلالها– على صنع القوة، من أجل تركيز قواعد الإسلام في المجتمع الجديد، ثم الالتفاف بالقوة الجديدة على المجتمع القديم، من أجل إفساح المجال هناك للقوة الإسلامية أن تنشر سلطتها هناك».

ويقول عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. وفي تفسير المقطع الأخير من الآية يقول سماحة المرجع السيد محمد تقي المدرسي في تفسيره (من هدى القرآن) التالي: «هناك تكتلات عدوانية الهدف منها ظلم الناس واستغلالهم مثل تكتل التجار المحتكرين ضد المستهلكين، وتعاون الأنظمة الجائرة ضد الشعوب المستضعفة، وهذه لعنة سوداء. وهناك تكتلات تهدف إشاعة الخير وتطبيق النظام. أما إشاعة الخير فهي البر، وليس البر أن تسعد على حساب غيرك، بل أن تسعد الجميع معك.

وأما النظام وتطبيقه فهو التقوى. إذ هو الحذر من الله، واتِّقاء بلائه، وهو لا يكون إلا بتطبيق نظامه الذي أوحى به إلى رسله، ومراعاة سننه التي أركزها في الطبيعة. وبتعبير آخر: يجب أن يكون الهدف من التعاون إشاعة الخير ومقاومة الشر أنَّى كان مصدرهما».

وهذه الجماعة المؤمنة، لها صفات وخصائص معينة، توضحها العديد من الآيات القرآنية الشريفة، وهذه جملة من الآيات، التي توضح صفات وخصائص الجماعة المؤمنة:

1- قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

2- قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}.

3- قال تعالى: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}.

4- قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.

5- قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.

6- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

7- قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.

2- بناء مجتمع العدالة والمساواة

لعلنا لا نجانب الصواب حين نقول: إن صيانة الكرامة الإنسانية، لا يمكن أن تتحقق دون مجتمع تسوده قيم العدالة والمساواة؛ لأن الكثير من الانتهاكات والممارسات المناقضة لمفهوم الكرامة الإنسانية ومقتضياتها، هي نابعة من الفضاء الاجتماعي غير المنضبط بضوابط العدالة والمساواة.

لهذا فإن الطريق لتعزيز قيمة الكرامة الإنسانية في واقعنا ومجتمعنا، هو العمل على بناء المجتمع الإسلامي والأمة المؤمنة التي تُجسِّد قيم العدالة والمساواة في كل شؤونها وأحوالها.

وحيث يغيب المجتمع العادل، تتزايد صور انتهاك الكرامة الإنسانية، ولا سبيل إلى إنجاز حقائق الكرامة الإنسانية الذاتية والمؤسسية دون العمل والسعي المستديم لبناء مجتمع العدالة والمساواة.

وإن المؤسسة السياسية التي تدير شؤون الناس والمجتمع، دون قيم العدالة والمساواة، هي مؤسسة تساهم بشكل مباشر في التعدي على كرامة الإنسان الفرد والجماعة؛ لأنها تؤسس بسلوكها التمييزي والظالم، لكل الموجبات والمناخات المفضية إلى التعدي على حقوق الإنسان وكرامته المادية والمعنوية.

لهذا فإن كل سعي وجهد فردي أو جماعي، يستهدف بناء دولة العدالة ومجتمع المساواة، هو جهد يصون الكرامة الإنسانية ويحافظ على موجباتها وأبعادها المختلفة.

يقول تبارك وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. لهذا فإن الاستجابة لله والرسول، هي التي تحيي مجتمعنا، وتخلصه من مآزق الظلم والاستبداد. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.

فـ«الإسلام هو دعوة إلى الحياة فيما أراده للإنسان من حركة ووحي ونمو وانطلاق، من خلال مفاهيمه الواسعة الشاملة، التي تفتح آفاقه على الكون كله. ليكون ساحة لفكره، ومنطلقاً لعمله، وتجربة لمسؤوليته. مما يجعل منه طاقةً حيَّةً متحركةً في أكثر من اتجاه، ومن خلال شريعته التي تُنظِّم له حياته فيما يأكل وفيما يشرب، وفيما يستمتع، وفيما يعيش من علاقات، فيتحقق له التوازن في ذلك كله، فلا تنحرف حياته إلى خط السلبية التي تُهمل كل شيء حولها، ولا تتطرف في خط الإيجابية حتى تغلق على نفسها كل باب للحرية. وهكذا يمتد التوازن فيما بين النزعة المادية والنزعة الروحية إلى الانسجام بين الشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية. فيحسب لكل شيء حسابه، ويضع كل شيء في موضعه على أساس الحكمة والاتزان»

فظلم الناس والتعدي على حقوقهم، لا يبني استقراراً، ولا يُنجز تنميةً، ولا يحقق أمناً.

بل على العكس من ذلك تماماً. إذ إن ظلم الناس والتعدي على حقوقهم، يدمر الأوطان، ويؤسس لكل أسباب الفوضى واللا استقرار ويُضيِّع الثروات والإمكانات. قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

فـ«هناك بعض المجتمعات تحصر الدين في اتِّباع بعض الطقوس دون التوجه إلى القضايا المصيرية الهامة التي تُكلِّفهم الإيثار والجهاد والشهادة، ففي الوقت الذين يبنون المساجد ودور العلم تراهم لا يتورعون عن ظلم بعضهم، ولا يدافعون عن أحكام الله. وإنما يهتم القرآن ببيان صفات المجتمع المسلم في كثير من سوره وبصورة مجتمعة لكي يُعطينا صورة متكاملة عنه نعيش بها مجتمعنا، ونعرف مدى قربه وبعده من المجتمع الذي يُبشِّر به القرآن. ومن أبرز صفات المجتمع الإسلامي، السعي من أجل اجتناب كبائر الإثم والفواحش، حيث يجب أن يتنظف المجتمع المسلم من الجاهلية بكل أبعادها الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية».

وجماع القول: إن صيانة الكرامة الإنسانية في مجتمعاتنا، تتطلب العمل لتطوير واقعنا الاجتماعي والسياسي، حتى يتسنى له الالتزام بكل مقتضيات ومتطلبات صيانة الكرامة الإنسانية.

وهذا لن يتأتى إلا بالانخراط في مشروع الإصلاح الثقافي والاجتماعي والسياسي، لأن استمرار الأوضاع على حالها، يراكم من المشاكل، ويفاقم من صور وحقائق التعدي على الحقوق والكرامات.

فالإصلاح بكل مضمونه الثقافي والاجتماعي والسياسي، هو سبيلنا لصيانة حقوقنا والدفاع عن كرامتنا. فالكرامة، كمنجز مؤسسي، هي الوليد الشرعي للعدالة في السياسة والثقافة والاجتماع.

اضف تعليق