q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

شهر رمضان وتنشيط المنظومة التكافلية

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

لنجعل من تعزيز التكافل والإنفاق هدفا لا نحيد عنه، وفي شهر رمضان تكثر مبادرات الدعم المادي، كونه مناسبة سنوية تزيد من صفاء النفوس ونظافة القلوب، وهو أيضا مناسبة للترويج لثقافة الإنفاق والتبرع، ولكن ما يركّز عليه الإمام الشيرازي ليس مبادرات التبرع البسيطة لمساعدة هذه العائلة أو تلك، وإنما...

(ليرغب أثرياؤنا في ثواب الله سبحانه وأجره، وليحفظوا دنياهم بالإنفاق والوقف) الإمام الشيرازي

التكافل والإنفاق مفردتان متقاربتان في المعنى والهدف، وكلاهما فعل مهم ومطلوب لترصين البنية الاجتماعية، وجعلها قادرة على إنتاج بنى سياسية واقتصادية وتعليمية وصحية جيدة، فحين تصحّ البنية الاجتماعية يصحّ ما سواها، والأخيرة لا يمكن أن تصبح جيدة نشيطة فاعلة، ما لم ينشط التكافل، وينحو الأثرياء والقادرين نحو التبرّع والإنفاق.

الإنفاق كلمة عربية تعني الصرف. وهي في الإسلام، عبارة عن فعل يرجو فاعله إرضاء الله بعيداً عن الرياء، ويكون ذلك بالإنفاق في سبيل الله بحسب مفهوم المسلمين. وهو يختلف عن الزكاة في الإسلام. وقد ذُكرت كلمة إنفاق مرةً واحدة في القرآن في سورة الإسراء. بينما ذُكرت كلمة أنفقوا (18) مرة في القرآن.

في حين يعدّ التبرع أسلوبا عملياً آخر للإنفاق، إنه أما أن يكون هدية مقدمة من شخصيات فردية أو معنوية لأغراض خيرية. يمكن أن يكون التبرع نقدياً على شكل صدقات، بتقديم الخدمات، أو عينياً بما في ذلك الطعام والملابس والألعاب وغير ذلك. عادة ما يكون التبرع مطلوباً في أوقات الفاقة والأزمات على شكل مساعدات إنسانية، وقد يكون سبب الحاجة إلى التبرع طبياً كما في التبرع بالدم أو بالأعضاء.

في شهر رمضان يتوجّه المسلمون إلى مساعدة بعضهم بعضا، لاسيما من يحتاج منهم إلى المساعدة المادية أو العينية، ولكن الإنفاق الذي نقصده في هذا المقال هو ذلك النوع الذي يساعد الأمة على النهوض، كي تواكب ما يجري من تطورات اقتصادية هائلة في العالم!، فليس معقولا أن يبقى المسلمون يراوحون في مكانهم، وهم يمتلكون ثروات طبيعية هائلة.

يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (أنفقوا لكي تتقدموا): (إن الأمر ليس مقدارا من الخمس يُعطى رغبةً أو رهبةً، ولا أمر مقدار من التبرع يُدفع منّة أو إكراهاً، ولا أمر إطعامٍ في ليالي رمضان للثواب أو الشهرة، ولا أمر مساهمة في إعادة فقير منقطع إلى بلاده، أو إرسال مريض إلى المستشفى، أو مشاركة في زواج أعزب، أو ما أشبه ذلك، إن الأمر أكبر من ذلك بكثير، إنه مصير أمة وثروة بلاد).

استطاعت الكثير من البلدان المتطورة المتقدمة أن تطور مجتمعاتها من خلال الإنفاق والتبرع وتعزيز المنظومة التكافلية، سواءً على صعيد الدولة أو تمتين النسيج الاجتماعي، حتى جعلوا من التبرع للأعمال الخيرية الكبيرة ثقافة يتحلى بها أثرياؤهم وكبار تجارهم، لأنهم يعون تمام الوعي إن العيش في مجتمع متأخر اقتصاديا لا ينفعهم.

لا توجد جدوى من كونك ثري في مجتمع فقير ودولة ضعيفة، لذلك نلاحظ أن الأثرياء في الغرب قد طوّروا ثرواتهم وأبدعوا في إنشاء وتطوير المشاريع العملاقة، وبالتوازي مع هذا الثراء، فإن هؤلاء الأثرياء تحصنوا بثقافة الإنفاق، وكانت المبالغ التي يتبرعون بها لتطوير المجتمع من خلال تطوير المشاريع الاقتصادية وسواها، له الدور الكبير في استثمار ثرائهم بطرائق مثلى.

فشل الإدارة الجيدة للثروات الكبيرة

ليس هناك من لا يقرّ بأن الثراء في الغرب مختلف عن الثراء في الدول الإسلامية، فأثرياء الغرب يمتلكون مبالغ وثروات طائلة، أما المسلمون فإنهم على الرغم من الثروات الطبيعية ومقومات الثراء الكبيرة لكن لا توجد نسبة بين أثرياء المسلمين وأثرياء الغرب الذين يتفوقون عشرات المرات، ومع هذا الثراء نجد أن أثرياء الغرب لا يترددون قيد أنملة من وضع ثرواتهم في خدمة وتطوير شعوبهم.

لابد من الإيمان والإقرار بأن ثقافة الإنفاق لها نتائج مؤثرة في بناء الدولة وتطوير المجتمع، وهذا ما حدث في الغرب، في الدول الإسلامية لا تسود ثقافة الإنفاق بقوة، فهناك بعض التفكير الأناني يغلق عقول الأثرياء، ولذلك نجد أننا متأخرّون عن الغرب، ليس في الاقتصاد وحده، أو الثراء، وإنما يطول التأخر معظم الميادين الحساسة كالسياسة والتعليم والصحة وغيرها.

يقول الإمام الشيرازي: (في الغرب اليوم أغنياء قد تعد ثروة أحدهم بالمليارات، فهل في بلاد الإسلام اليوم من تبلغ ثروته عشر هذه الثروة؟ كلا! ولماذا؟ لأن الإسلام إذا تأخر فالمسلمون كلهم متأخرون، ثريّهم متأخر عن ثريّ الغرب، وحاكمهم متأخر عن حاكم الغرب، وعالمهم متأخر عن عالم الغرب، وهلم جرا، فإذا بذل أغنياؤنا المال، لم يكونوا بذلك إلا مساهمين في العلوّ بشأنهم والارتفاع بمستواهم قبل كل شيء).

المسلمون والعرب لديهم ثروات طائلة، وأرضهم تكتظ بالمعادن والخيرات، وهذا يزيد من الثراء والأثرياء، لكن هناك جهل ونقص في ترويج وتطوير ثقافة الإنفاق، كما أننا نفتقد لمبادرات التبرع التي يمكن من خلالها تغيير حياة الناس، إننا في واقع الأمر نجهل ونتجاهل هذا النوع من الثقافة، لاسيما الأغنياء من أصحاب الثروات الكبيرة، حتى الميزانيات الرسمية للحكومات الإسلامية لم تخطُ الخطوات السليمة باتجاه الإنفاق الصحيح، وبدا من أن يكون الأخير محفّزا ومطورا للاقتصاد يكون عالةً وعبئاً عليه بسبب الإنفاق غير المدروس.

هذا هو الفارق بيننا كدول وحكومات إسلامية وبين الغرب، فثقافة الإنفاق في الغرب تطورت كثيرا وأصبحت سلوكا اجتماعيا يحترمه الجميع ويتمسكون به، بمن فيهم أغنياؤهم الذين باتت لديهم ثقافة إنفاق متميزة ومبادرات تبرع كبيرة ومتواصلة حسّنت من حياتهم وجعلتهم في مقدمة الأمم اقتصاديا وعلميا.

مجتمعات تطورت كثيرا بالتبرع والإنفاق

يتساءل الإمام الشيرازي هل المسلمون زاهدون في الدنيا من أجل الفوز بالآخرة؟، مؤكّدا على أن الحياة تتطلب التغيير والتطوير الدائم طالما أنت على قيد الحياة، مع العمل للآخرة بموازاة العمل للدنيا، لذلك على أثرياء المسلمين أن يتميزوا أيضا بثقافة التبرع والإنفاق بوصفها طريقة وأسلوب ناجع لتطوير الحياة.

الإمام الشيرازي يقول حول هذه النقطة: (في هذا العصر الذي تفجر فيه النفط بكثير من بلاد الإسلام، لا ترى حتى نصف ذلك المقدار من موقوفات جديدة، فهل هذا زهد من المسلمين في الآخرة، أم زهد منهم في الدنيا؟ فإن الدنيا أيضاً تتوقف على الأوقاف والخيرات.. وبالعكس: ترى غير المسلمين يوقفون ويتبرعون بكثرة هائلة).

لابد من الاعتراف بأن التبرع والإنفاق وتطوير المنظومة التكافلية قضية تخضع للنمط الثقافي للمجتمع، لذلك يجب تطوير هذه الثقافة في مجتمعاتنا، وأن أثرياء وأغنياء المسلمين تقع عليهم مسؤولية كبرى في تطوير حياة الناس، فالعمل للآخرة لا ينسينا العمل لتطوير حياتنا وجعلها حافظة لكرامة الإنسان وحقوقه، ولم أن أحدا متخصصا، باحثا أو كاتبا أو مؤرخا، تصدى لهذا النوع من قصص وتجارب الإنفاق والتبرع، لوجد الكثير مما قدمه الأثرياء السابقون.

تكمن أهمية التبرع والوقف والإنفاق في كونه ركيزة لبناء أسس اقتصادية سليمة، قابلة للتطور المستدام، كما أنه الطريقة الأفضل في ردم الفجوة بين الغنى والفقر في الأمة أو المجتمع الواحد، وفي هذه الحالة تختفي مؤشرات الحيف والغبن الذي يتم إلحاقه بالفقراء من قبل الأثرياء.

يركز الإمام الشيرازي كثيرا على أهمية تعزيز المنظومة التكافلية، وتطوير ثقافة التبرع والإنفاق، خصوصا بين الأثرياء، كونهم قادرون على دعم النشاط الاقتصادي الحكومي بنشاط رديف له، ونعني به دعم وتطوير القطاع الخاص من خلال الإنفاق وإقامة المشاريع التنموية الخيرية التي تصب في مجرى تقليص الفوارق الطبقية، وتسعى لتحسين الحياة وطريقة العيش، وتُنصف الجميع من دون استثناء.

الإمام الشيرازي يقول: (لو كتب أحدهم الأحاديث والروايات، والقصص ــ في شأن الإنفاق ــ وما عمله السابقون، لاحتاج إلى مجلدات ضخام، فليرغب أثرياؤنا في ثواب الله سبحانه وأجره، وليحفظوا دنياهم بالإنفاق والوقف).

لنجعل من تعزيز التكافل والإنفاق هدفا لا نحيد عنه، وفي شهر رمضان تكثر مبادرات الدعم المادي، كونه مناسبة سنوية تزيد من صفاء النفوس ونظافة القلوب، وهو أيضا مناسبة للترويج لثقافة الإنفاق والتبرع، ولكن ما يركّز عليه الإمام الشيرازي ليس مبادرات التبرع البسيطة لمساعدة هذه العائلة أو تلك، وإنما نشر وترويج ثقافة الإنفاق الكبير القادر على تطوير الحياة وتغيير أوضاع المسلمين، بعد أن يصبح الإنفاق والتبرع والتكافل منظومة ثقافية سلوكية للجميع.

اضف تعليق