q
إن العمل على جعل القرارات الاقتصادية قرارات مدروسة وغير عشوائية وذات بعد استراتيجي وتطبيقها على أرض الواقع مسألة في غاية الصعوبة ما لم يتم العمل على ترسيخ الديمقراطية السياسية انطلاقاً من ترسيخ الديمقراطية الاجتماعية والثقافة الاقتصادية التي تتوافق مع اقتصاد السوق لدى الإدارة السياسية والمجتمع على حدٍ سواء...

تلعب القرارات الاقتصادية المدروسة وذات البعد الاستراتيجي دوراً كبيراً في تحسن أداء الاقتصاد وتحقيق الاستقرار، عكس القرارات الاقتصادية غير المدروسة تكون عشوائية ولم ولن تحسن أداء الاقتصاد وتكون النتيجة غياب الاستقرار كما هو الحال في العراق.

أي إن العراق يعاني من غياب الاستقرار وسوء أداء الاقتصاد نظراً لغياب القرارات الاقتصادية المدروسة وذات البعد الاستراتيجي وشيوع القرارات غير المدروسة والعشوائية، خصوصاً بعد 2003، التي تكون في الغالب ردة فعل للأحداث الطارئة فينتهي مفعولها بمجرد انتهاء الأحداث الطارئة.

إن اضطراب القرارات الاقتصادية في العراق وخلوها من البعد الاستراتيجي لا يأتي من فراغ، أي هناك أسباب وراء اضطرابها وجعلها عشوائية غير مدروسة يمكن تناول بعضها أدناه.

اولاً: التبني المزدوج

حيث تبنى العراق النظام الاقتصادي الجديد بالتزامن مع النظام السياسي الجديد، في آن واحد وفي دفعة واحدة، هذا التبني المزدوج جعل الارتباك وضبابية الهدف هو سيد الموقف، فأصبح العراق يعاني من غياب الاستقرار السياسي الذي ينعكس بشكل تلقائي اضطراب القرارات الاقتصادية لان الأخيرة تنطلق من الإدارة السياسية التي تعاني من الضعف بالأساس كما موضح في النقطة أدناه.

ثانياً: ضعف الإدارة السياسية

تعاني الإدارة السياسية في العراق بعد عام 2003 من الضعف في الإدارة السياسية بشكل عام وإدارة الاقتصاد بشكل خاص، لان أفرادها كانوا في جانب المعارضة خارج البلاد ولم يتبوءوا مناصب سياسية أو اقتصادية رفيعة المستوى، توفر لهم المؤهلات لإدارة البلاد وفق المطلوب، فلم تتراكم خبراتهم في مجال الإدارة ولم تتوفر لديهم رؤية واضحة بشأن الاقتصاد وقفزوا بشكل مباشر من المعارضة قبل عام 2003 إلى إدارة البلاد بعد عام 2003، فكانت قراراتهم لاسيما الاقتصادية منها تتسم بالعشوائية وتفتقد للاستراتيجية.

ثالثاً: تغيير النظام بإرادة خارجية

إن تغيير النظام السياسي في العراق لم يكُن بإرادة داخلية لان الاستبداد السياسي قد فرض هيمنته بشكل محكم على الشعب فلم يستطع الأخير؛ رغم محاولاته التي باءت بالفشل "الانتفاضة الشعبانية"، من إسقاط النظام ليتبنى نظاماً جديداً يتوافق معه فكرياً وسلوكياً، فكانت النهاية الحتمية للنظام الشمولي على يد الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003 بحجج واهية كامتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل والتي أتضح لاحقاً إنه لم يمتلكها، هذا ما جعل الشعب رافض للقرارات الاقتصادية حتى وإن كانت جيدة لانه يستحضر الذاكرة التاريخية المؤلمة للاستعمار فضلاً عن ثقافته الشمولية السياسية والاقتصادية التي لم تنسجم مع النظام الجديد سياسياً واقتصادياً كما موضح في النقطة أدناه.

رابعاً: ثقافة المجتمع سياسياً واقتصادياً

لا يمكن أن تسير الديمقراطية السياسية بشكل انسيابي دون أن تنطلق من الديمقراطية الاجتماعية كما لا يمكن لاقتصاد السوق أن يسير بشكل انسيابي بلا ثقافة اقتصادية لدى المجتمع تنسجم مع اقتصاد السوق والتي تتمثل في اعتماد أفراد المجتمع على ذواتهم في تسيير شؤونهم الاقتصادية بعيداً عن الدولة. وفي ظل غياب الديمقراطية الاجتماعية والثقافة الاقتصادية التي تنسجم مع اقتصاد السوق تظل القرارات السياسية والاقتصادية قرارات مضطربة بعيدة عن الحاجة والواقع.

تبنى العراق بشكل مستعجل الديمقراطية السياسية واقتصاد السوق دون أن يسبقهما أي خطوات تمهيدية من شأنها تُعبد الطريق أمامهما، أي تعمل على معالجة آثار النظام الشمولي سياسياً واقتصادياً وتبني البيئة المناسبة لهما اجتماعياً، بمعنى إن العراق لم يعمل وفقاً لما ينبغي والمتمثل في بناء الديمقراطية الاجتماعية والثقافة الاقتصادية للمجتمع بعد إسقاط النظام، بل ظلت ثقافة المجتمع على ما هي عليه دون تغيير فأصبحت إحدى العوامل التي تسهم في اضطراب القرارات الاقتصادية.

إن استمرار وتحالف الاستبداد السياسي مع التخطيط الاقتصادي في العراق لمدة زمنية طويلة أسهم في ولادة ثقافة راسخة لدى المجتمع هي ثقافة الاتكالية الاقتصادية والعبودية السياسية لا تنسجم مع الديمقراطية السياسية واقتصاد السوق اللذين تبناهما العراق بعد2003، لذلك إن القرارات وبالخصوص الاقتصادية -كخصخصة الكهرباء أو تقويم الأسعار وفقاً للأسعار العالمية مثلاً-التي تعتمد مبادئ السوق تواجه رفضاً شعبياً صارماً، هذا الرفض يدفع بالحكومة للتراجع عن تلك القرارات الاقتصادية مما جعلها قرارات مضطربة.

خامساً: ريعية الاقتصاد العراقي

ما زاد الطين بلِه في اضطراب القرارات الاقتصادية، هو ارتباط الاقتصاد العراقي بالنفط، حيث يشكل أكثر من 90% في إيراداته وصادراته وأكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي، ونظراً لارتباط النفط بأسواق الطاقة الدولية وعدم قدرة الدولة على التحكم به، فضلاً عن تذبذب أسعاره وإيراداته، وافتقاد العراق للتنويع الاقتصادي أصبحت القرارات الاقتصادية في العراق تعاني من اضطراباً شديداً.

ففي الوقت الذي ترتفع فيه أسعار النفط وإيراداته التي تمثل العمود الفقري للإيرادات العامة التي ترتفع هي الأخرى بفعل ارتفاع أسعار النفط وعلى أساسها يتم تبني قرارات ذات نمط إنفاق توسعي فترتفع النفقات العامة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية.

تنخفض أسعار النفط وتنخفض الإيرادات العامة ويتم تبنى قرارات اقتصادية أخرى مختلفة عن القرارات التي تم اتخاذها في ظل ارتفاع أسعار النفط، هذه القرارات الجديدة تنسجم مع انخفاض أسعار النفط وتكون قرارات تقشفية فيتم على أساسها تخفيض النفقات العامة وبهذا يختلف نمط الإنفاق من التوسعي إلى التقشفي فيرفض المجتمع تلك القرارات التقشفية لثلاثة أسباب موضحه أدناه، فتلجأ الحكومة للاقتراض أو رفع سعر الدولار لسد العاجز الناجم عن انخفاض أسعار النفط وانخفاض الإيرادات الأخرى.

الأول، اعتياد المجتمع على نمط الإنفاق التوسعي فيرفض القرارات الجديدة القاضية بالتوجه نحو نمط الإنفاق التقشفي، لان الأخير لا يلبي حاجاته وسط توقف القطاع الخاص عن الإحلال محل الدولة بسبب الفساد وغياب بيئة الأعمال.

ثانياً: الفساد لان الدولة لم تعمل على توظيف الإيرادات الفائضة الناجمة عن الانتعاش النفطي في بناء اقتصاد حقيقي قادر على تخطي الأزمات التي تصيب النفط مستقبلاً، وعملت على توظيفه بما يسهم تحقيق طموحها بعيداً عن الاقتصاد والمجتمع.

ثالثاً: إيمانه بأن النفط ملكه كما صرح الدستور العراقي في المادة 111 " النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات"

مؤشرات اضطراب القرارات الاقتصادية

كما ذكرنا في المقدمة إن القرارات الاقتصادية غير المدروسة تكون عشوائية ولم ولن تحسن من أداء الاقتصاد كما هو الحال في العراق، وما يدلل على اضطراب القرارات الاقتصادية في العراق هي النتائج السلبية على المستوى الاقتصادي يمكن الإشارة لبعضها في الآتي:

أولاً: عجز الموازنة وتأخر إقراراها في أغلب السنوات المالية وفي بعض السنوات لم يتم إقرارها كما في عام 2014 و2020.

ثانياً: هيمنة النفط على الاقتصاد العراقي وهذا ما يجعل الاقتصاد العراقي رهينة العالم الخارجي ومتذبذب باستمرار.

ثالثاً: ارتفاع المديونية خصوصاً خلال المدة الأخيرة بحكم انخفاض أسعار النفط من جانب وجائحة كورونا من جانب ثانٍ.

رابعاً: تفاقم البطالة بسبب انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي وعزوف القطاع الخاص عن الاستثمار نظراً لشيوع الفساد وغياب بيئة الأعمال وجائحة كورنا التي أوقفت النشاط الاقتصادي منذ أواخر عام 2019 ولحد الآن.

الخلاصة

إن العمل على جعل القرارات الاقتصادية قرارات مدروسة وغير عشوائية وذات بعد استراتيجي وتطبيقها على أرض الواقع مسألة في غاية الصعوبة ما لم يتم العمل على ترسيخ الديمقراطية السياسية انطلاقاً من ترسيخ الديمقراطية الاجتماعية والثقافة الاقتصادية التي تتوافق مع اقتصاد السوق لدى الإدارة السياسية والمجتمع على حدٍ سواء.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2021
www.fcdrs.com

اضف تعليق