q
العلاقات بين فرنسا والنظام التركي ومنذ سنوات طويلة تشهد توترات تتصاعد أحياناً وتستقر أحياناً أخرى، غير أن الأزمة الليبية فجرت توتراً جديداً في العلاقات بينهما، حيث تتوالى الاتهامات بينهما حول عدة قضايا في المنطقة وأبرزها القضية الليبية. هذه الاتهامات تنذر بأزمة سياسية بين النظامين، ويبدو أن الخلاف...

هل بدأ الشارع الليبي يصحو من وهم "الربيع العربي"، أم أن هناك من يصرّ على التوهّم؟

فما حدث للدولة الليبية التي طالتها الخديعة الكبرى بشأن الحرية والديمقراطية التي انخرط بعض أبنائها فيها، سواء عن دراية أو عن تضليل وتغرير، يشي بحجم الكارثة المدمّرة التي أصابتها بفعل المؤامرة الدولية واسعة النطاق التي استهدفتها. وعلى مدى أكثر من عشر سنوات الماضية من الحرب في ليبيا وعليها، والليبيون يدفعون الثمن من أمنهم واستقرارهم ومقدراتهم وثرواتهم، والأغلى من كل ذلك خسارة مئات الآلاف من أرواح أبنائهم.

ولأن فرنسا هي الدولة التي حرضت وقادت عملية تدمير ليبيا عبر ناتو عام 2011 ثم عملت على تثبيت مسار اقتتال متواصل في البلاد، فهي تجد نفسها أحق من تركيا في السيطرة على ليبيا، إذ لا يمكن لفرنسا وبعدما وصلت اللقمة الليبية إلى الفم أن تسمح لتركيا بأكلها، لذلك تستشرس كل منهما بمواجهة الأخرى في حرب بالوكالة تقودانها عبر فصائل متعددة على الأرض...

ما حدث في ليبيا، هو أن النتائج لم تأت حسب التوقعات الفرنسية، حيث وجدت فرنسا نفسها شيئاً فشيئاً أمام خسارة مصالحها، بعد دخول أطراف جديدة في دائرة الصراع القائم على الأرض الليبية كالنظام التركي، الذي استثمر في الإرهاب بعد أن وفرت له دول العدوان التربة الخصبة لانتشاره وتجذره وخروجه عن السيطرة، وهذا ما حول الصراع من الأدوات إلى المشغلين فظهرت الانتقادات الشديدة من فرنسا لحليفها في (الأطلسي) نظام رجب أردوغان محملة إياه مسؤولية التدخل في الشأن الليبي ومتناسية في الوقت ذاته أنها هي التي قادت طائرات الحلف الأطلسي لتدمير ليبيا وإذكاء نار الفوضى العارمة التي اجتاحتها من غربها إلى شرقها.

لقد وصلت العلاقات الفرنسية التركية مرحلة غير مسبوقة من العدائية، والصراع بين فرنسا و"تركيا العدالة والتنمية"، لم يكن خافياً على أحد، لكن تجليات هذا الصراع أصبحت اليوم جلية، ما حدثَ أن حسابَ الحقل الفرنسي لم يُطابِق حساب البيدر الإخواني، فقد أصبح حلفاء الأمس الذين تآمروا على ليبيا وشعبها وخططوا لنهب ثرواتها أشبه بعصابة السرقة التي تقع في فخ الاعتقال والاستجواب، إذ أن كل واحد منهم يحاول دفع الفعل الإجرامي عنه وإلقاءه على الطرف الآخر، كما هو الآن حال رئيس النظام الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي قادت بلاده طائرات الحلف الأطلسي لقصف ليبيا في عام 2011 ورئيس النظام التركي الذي شارك في الغزو تحت مظلة الأطلسي آنذاك، ويتدخل اليوم منفرداً وبشكل مباشر لتدمير ما تبقى من ليبيا سواء بقواته الاحتلالية أو مرتزقته من المجرمين... فكلاهما يتهمان بعضهما بارتكاب مجازر وجرائم بحق الشعب الليبي.

إن العلاقات بين فرنسا والنظام التركي ومنذ سنوات طويلة تشهد توترات تتصاعد أحياناً وتستقر أحياناً أخرى، غير أن الأزمة الليبية فجرت توتراً جديداً في العلاقات بينهما، حيث تتوالى الاتهامات بينهما حول عدة قضايا في المنطقة وأبرزها القضية الليبية. هذه الاتهامات تنذر بأزمة سياسية بين النظامين، ويبدو أن الخلاف حول الأزمة الليبية بدأ يأخذ أبعاداً أوسع وأكثر تأثيراً على مستوى العلاقة السياسية بين النظامين في ظل الاتهامات المتبادلة.

وللإشارة، فالخلاف بين النظامين التركي والفرنسي غير متوقف على المستجدات الليبية، والاتهامات المتبادلة تعود إلى فترة سابقة، ففي مطلع كانون الأول عام 2019 انتقد ماكرون التدخل التركي في شمال سورية قائلاً: إنها تقاتل ضد من قاتلوا معنا، مضيفاً أن تركيا تعمل مع مقاتلين على صلة بـ "داعش" الإرهابي. وقد تواصل التوتر بعدما وصف أردوغان، ماكرون بـ"المبتدىء" و"الميت دماغياً" متوجهاً إليه بالقول: إن عليك قبل أي شيء أن تفحص موتك الدماغي أنت نفسك قبل أن تصف حلف شمال الأطلسي بـ"الميت دماغياً" وذلك قبيل انعقاد قمة حلف شمال الأطلسي في الثالث من كانون الأول من العام الماضي.

ورداً على تصريحات أردوغان، هنأ الرئيس الفرنسي المؤرخ التركي تانير أكشام، بعد تأليفه كتاباً نشر فيه برقيات عثمانية أمرت بتنفيذ إبادات جماعية، ومنحته ميدالية الشجاعة، وتوجه ماكرون لأكشام مؤلف كتاب أوامر بالقتل قائلاً: "أخرجتم ما أراد البعض إغراقه في النسيان، مشيراً بذلك إلى تركيا، مضيفاً: لا نبني أي تاريخ كبير على كذبة". كما ندد ماكرون بسياسة النظام التركي التي تهدف إلى توسع جديد في الشرق الأوسط، وندد أيضاً بالجرائم التي ارتكبتها تركيا إبان الاحتلال العثماني، لافتاً إلى أن رغبة تركيا في استعادة قوة الماضي هي وليد الخيال إلى حد كبير.

لهذا كلّه يصبح من الضروري، بل من الملح، طرح السؤال التالي: لماذا كل هذا التهافت الفرنسي والتركي على ليبيا؟ ولماذا كل هذا الإصرار ممن هم على الساحة علناً وفي الكواليس خفية على التدخل في مسألة ليبية هي داخلية خالصة؟

الحقيقة المؤكدة لدينا، أنّ العلاقات بين النظامين الفرنسي والتركي تتأرجح دائماً نتيجة المطامع الاستعمارية لكليهما، إذ تحلم فرنسا بإمبراطورية كبيرة، وأردوغان يحلم هو الآخر "بالإمبراطورية العثمانية"، وهذا ما سيرشح العلاقات بينهما إلى التوتر الدائم، ولعل الأزمة الليبية الحالية تبين عمق الخلاف وعمق الحلم لديهما في استغلال ثروات ليبيا.

أردوغان يعمل على تعزيز القدرات العسكرية لبلاده بكل الوسائل، في محاولة يائسة منه لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية بجعل تركيا قوة عالمية. فمن وجهة نظر أردوغان فإن ليبيا تحتل أهمية إستراتيجية قصوى لأنها تملك أكبر احتياطي نفطي في أفريقيا، إضافة لدورها كدولة معبر للمهاجرين من جميع أنحاء العالم الذين يسعون للتوجه إلى أوروبا، كما أن الاتفاق البحري المثير للجدل بين البلدين قد يمنح تركيا إمكانية الوصول إلى مخزون الغاز الطبيعي المفترض وجوده في البحر الأبيض المتوسط، والذي كان سبباً في توتر العلاقات مع اليونان، إذ تسعى تركيا إلى تعزيز نفوذها في ليبيا، إذ أنشأت قوة من المرتزقة الإرهابيين، كما يوظف أردوغان ضد الاتحاد الأوروبي قرابة 3.6 ملايين لاجئ مستقرين في تركيا كأداة ضغط، بل وكسيف مسلّط على عنق التكتل القاري، وهو الذي استعرض عضلاته، حين جلب عشرات الآلاف من اللاجئين، ومن جنسيات مختلفة، إلى الحدود اليونانية، ما أجّج أزمة لاجئين جديدة.

إن ما فعله الاحتلال العثماني في بلاد المشرق والمغرب لم يكن استعماراً غاشماً لا يقل بشاعة عن الاستعمارين البريطاني والفرنسي! بل يتفوق عليهما في جرائمه، بخاصة أنه دام لقرون طويلة، ويؤكد المحللون السياسيون أن تركيز أردوغان على أفريقيا يشير إلى جوهر الصراع الحالي بين تركيا وفرنسا، وفي القلب منه: من ينشر الإرهاب ويسانده، ومن يتصدى له ويكافحه. ويرى أردوغان ورعاة الإرهاب أن الساحة المفتوحة للصراع هي أفريقيا، وهي ساحة يغيب عنها الأمريكيون والإنجليز بشكل أو بآخر، أو على الأقل ليس لهم نفوذ فيها كما هو النفوذ الفرنسي. ولما كان أردوغان قد تبنى الإرهابيين وبدأ بدعمهم مبكراً، أولاً من الصومال، ويستكمل ذلك الآن بمحاولاته تكوين بؤر أكبر وأخطر في ليبيا، فإنه لا يجد أية مقاومة لذلك من الغرب سوى من فرنسا، وهذا سر الانفعال الأردوغاني الناجم عن تصدي ماكرون لمخططات أردوغان بخاصة في ليبيا.

ويبدو أن الغرور المتزايد والشعور "بفائض القوة" قد حمل أردوغان على تحدي الاتحاد الأوروبي بكل دوله وليس فرنسا فقط إضافة إلى فتح جبهات نزاع وصراع عديدة مع مختلف دول المنطقة. ويتساءل الكثيرون عن السر الكامن وراء هذه "العنتريات" الأردوغانية التي يوزعها ذات اليمين وذات الشمال، لنجد أنه فعلاً أجاد اللعب على وتر التناقض بين القوتين العظميين روسيا وأمريكا، مستغلاً وجوده كثاني قوة عسكرية في حلف شمال الأطلسي ووجود تركيا في موقع جيوسياسي متفرد بين الغرب والشرق.

أما فرنسا وعلى الرغم من أنها تقدم نفسها كلاعب دبلوماسي موثوق به في هذا البلد، الذي مزقته الحرب، إلا أن باريس تسعى وراء مصالحها الاقتصادية والأمنية بأي ثمن، واتبعت نهجاً حازماً لتحييد منافسيها ووضع نفسها ككيان مؤثر مهيمن في ليبيا، وهي تسعى الآن لتقويض دور تركيا، متجاهلة الحاجة الملحة لوحدة دولية لحلّ الصراع الليبي. ويلفت المحلّلون إلى أن دعم الرئيس السابق نيكولا ساركوزي للعدوان العسكري الغربي على ليبيا عام 2011 كان مدفوعاً بالرغبة في استعادة مكانة فرنسا كقوة عسكرية أوروبية مهيمنة. وعندما غرقت ليبيا في حالة عدم الاستقرار، سعت فرنسا إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية والأمنية، وبدأت في دعم الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر بالمعدات العسكرية ودربته، حيث رأت في هذا القائد الطموح شريكاً رئيسياً في ضمان "الاستقرار" ضد التطرف، وفي النهاية، بتأمين المصالح الاقتصادية لفرنسا، مثل عمليات التنقيب عن النفط وإنتاجه، وفي الوقت عينه، انخرطت فرنسا مع حكومة الوفاق الوطني ورئيس الوزراء فايز السراج.

ولا شك بأن الفرنسيين يريدون العودة إلى المنطقة لإحياء مجدهم الغابر، ولكن بطريقة ناعمة إن صح التعبير، وليس على طريق العدوان والاحتلال والصلف والغباء التي يستخدمها أردوغان، ويلاحظ أن الهجوم العنيف الذي شنه أردوغان مؤخراً على الرئيس الفرنسي ماكرون يأتي كرد فعل لشخص منزعج من الموقف الفرنسي الصارم في وجه العربدة التركية في ليبيا، ما هو ظاهر للجميع أن فرنسا تقف إلى جانب دول أعضاء في الاتحاد الأوربي في وجه دول من خارجه، حتى لو كانت عضواً في حلف الناتو، وربما يبدو الموقف الفرنسي القوي تجاه العدوان التركي على ليبيا أكثر إزعاجاً لأردوغان مما يحدث في شرق المتوسط.

إن ما بين فرنسا وتركيا هو أخطر وأعمق، والصراع بينهما أدى إلى إنتاج حلقة صراع جديدة من التنافس الاستعماري بين متنافسين من الدرجة الثانية، في ميزان القوى اليوم، ينحاز كل منهما لطرف ويقف بجانبه ويموله ويزوده بالسلاح، ويتبنى مواقفه في المنظمات الدولية، ليتضح أن الصراع في خباياه هو من أجل السيطرة على ليبيا وإعادة احتلالها، وتسخير الشعب الليبي لمصالح القوتين المتصارعتين والمتنافستين، وسرقة النفط، وإقامة قواعد عسكرية في الأراضي الليبية، هذا الصراع يقوض كل جهود مكافحة الإرهاب والفوضى في ليبيا، بل إن كل طرف يدعم مجموعات إرهابية وهذا يزيد من معاناة الشعب الليبي الذي ضاق ذرعاً من الفوضى والإرهاب وضنك العيش وسوء إدارة الموارد الطبيعية، وهو الذي يطفو على بحيرة من النفط والغاز.

خلاصة الكلام: فرنسا تسعى لمصالحها الخاصة في ليبيا وغيرها في مواجهتها لأطماع أردوغان، فهل يدرك الليبيون كل هذه الحيثيات ويتحاشون أن يكونوا أشبه بحجارة النرد تحرّكهم أطراف خارجية للفوز بلعبة السيطرة على ثرواتهم ومقدراتهم، وإن اقتضى الأمر تحطيمهم أو إخراجهم خارج الطاولة نهائياً. ألم يدرك الليبيون بكل أطيافهم ما يراد لهم... وأن يسعوا إلى الحوار والتفاهم بعيداً عن كل التدخلات والمتدخلين وفي الوقت نفسه عليهم أن يعلموا أن مستقبلهم لن تصنعه إلا عقولهم وأيديهم.

* كاتب صحافي من المغرب

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق