q

في سياق تطور العلوم والمعرفة الإنسانية ظهر علم الاستشراف Futurology أو الدراسات المستقبلية Futures studies، علم حديث تسبيا يختص بالقدرة على استشراف المستقبل أو التنبؤ بما سيحدث حول موضوع ما انطلاقا من فهم وتحليل الواقع ورصد اتجاهاته واستقراء جزئياته وقراءة ما بين السطور في كل ما يصدر عن الفاعلين الأساسيين في الظاهرة محل البحث، من أحداث ومواقف وتصريحات، وفي المتغيرات والتقلبات التي تطرأ على ثقافة مجتمع البحث سواء كانت الثقافة العالِمة أو الثقافة الشعبية، وانطلاقا أيضا من التتبع التاريخي لتطور الظاهرة محل البحث والربط بين حلقات التاريخ الثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل من منطلق أن الحاضر هو مستقبل الماضي وماضي المستقبل في نفس الوقت.

علم الاستشراف والمستقبليات يختلف عن التنجيم وإدعاء العلم بالغيب، حيث لا يوسم الشخص بصفة المُستَشرِف إلا إذا كان باحثا علميا موضوعيا، فالاستشراف يوظف منهجية علمية تقوم بدراسة واستقراء الموضوع محل البحث من كل جوانبه وأبعاده الزمنية والموضوعية ثم بعد ذلك يضع تصورات أو سيناريوهات المستقبل المتفائلة أو المتشائمة. والهدف ليس السيناريوهات بحد ذاتها بل ما يجب أن يؤَسَس على هذه السيناريوهات من وضع خطط استباقية لتدارك ما هو آت، وخصوصا إن كانت التوقعات تتضمن مخاطر.

في هذا السياق يفترق التنجيم أو إدعاء الغيب عن الاستشراف، ففي الحالة الأولى المُنَجِم ومُدعي الغيب يزعم حتمية حدوث أمور انطلاقا من عقله المجرد المنفصل عن استقراء الواقع، أو استنباطا من معتقد او أيديولوجية يؤمن بها أيمانا مطلقا بحيث لا يرى من مسار للمستقبل إلا بما يتوافق مع مقولات المُعتقد والأيديولوجية التي يؤمن بها، أما في الحالة الثانية فعالِم الاستشراف يضع سيناريوهات محتملة لمستقبل ظاهرة ما – سياسية أو اقتصادية أو إنسانية – انطلاقا من مؤشرات ومعطيات مستمدة من حاضر الظاهرة واستلهاما من سياق تطورها التاريخي، وبالتالي فعلم الاستشراف لا يؤمن أو يتقيد بالحتمية أو المسار الوحيد لمستقبل الظاهرة، بل يتعامل مع المستقبل كفضاء مفتوح لسيناريوهات أو احتمالات متعددة، قد يَصدُق بعضها كليا أو جزئيا، مع احتمال أن لا تتحقق أية من هذه السيناريوهات، إن الاستشراف علم الاحتمالات وليس علم المطلقات.

هذا العلم والمنهج في التحليل الذي كانت بدايته في البحوث الامنية والإستراتيجية العسكرية، فرض نفسه في شتى المجالات المعرفية: السياسية والاقتصادية والتنموية والعلمية الخ، وأصبح من اساسيات البحث العلمي في كل الدول المتحضرة والمتقدمة. في الجامعات حيث يتم تدريسه كمادة مستقلة أو كمنهاج وأداة بحث توظفه كل العلوم، كما أصبح من اساسيات رسم السياسات العامة والتخطيط في الإدارات والوزارات وعلى مستوى الدولة بشكل عام. ما ساعد علم الاستشراف أو المستقبليات على الانتشار والرسوخ في المجتمعات المتقدمة وجود عقل جمعي وحاضنة ثقافية وقيمية تتقبل منطق الاستشراف ومخرجاته، لأنها مجتمعات تحترم ماضيها ولا تقدسه، تحترم دياناتها دون أن تجعلها مُعيقة للعقل والعقلانية، كما أنها غير أسيرة كليا لحاضرها بالرغم من كل ما فيه من ازدهار وانجازات، بل تتوق دائما لمستقبل افضل، بالإضافة إلى توفر شرط الحرية، الحرية الاكاديمية وحرية الرأي والتعبير بشكل عام.

أما في الدول والجامعات العربية فلم يتم الاعتراف والأخذ بهذا العلم إلا حديثا وفي بعض الدول والجامعات فقط، سواء لغياب العلماء والمتخصصين بهذا العلم، أو عدم نضج الثقافة والعقل العربي لتقبل منطق علم الاستشراف والمستقبليات الذي يتعارض مع البرادغمات المهيمِنة المؤسَسة على تابوهات تحتجز وتفرض سطوتها على حلقات الزمن الثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل، أو بسبب عدم تحكمنا في حاضرنا من اقتصاد وثروة وحدود الخ، حيث الدول العظمى تتحكم في حاضرنا وترسم لنا مسار المستقبل. في ثقافة تعتبر إعمال العقل في التخطيط لتدبر أمور المستقبل أمرا يتعارض مع الإيمان بالقضاء والقدر، واعتداء على اختصاص الرب، ثقافات تمتد فيها القدرية حتى للسياسة والاقتصاد، في هكذا ثقافات ومجتمعات قد يحدث التباس في أذهان الناس ما بين علم الاستشراف والمستقبليات من جانب، والتنجيم أو إدعاء العلم بالغيب من جانب آخر.

في ظل عقل ماضوي ونخب سياسية لا تفكر إلا داخل الصندوق الذي صنعه تفكيرها المتخلف أو صنعته لها أطراف خارجية، فلا غرو أن الأحداث والأزمات تدهمهم من حيث لا يحتسبون لأنهم لم يفكروا باحتمال وقوعها، ليس هذا فحسب بل يمكن أن يُتَهم أي مفكر أو باحث يكسر نمطية التفكير السائدة ويتجاوز التابوهات الفكرية والمؤسساتية ويفكر بالمستقبل محاولا استشرافه بأنه يشارك الله في اختصاصاته، أو بالتعامل مع جهات أجنبية أو امتلاكه وثائق سرية هي التي مكنته من معرفة ما سيجري، خصوصا إذا كانت الأمور المُستَشرَفة سلبية سياسيا، تفضح خطاب النخبة الحاكمة وتكشف مخططاتها الخفية.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق