q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

خطأ غاليلو

قراءة في كتاب جديد

كتاب خطأ غاليلو لفيليب غوف قد لا يكون مقنعا تماما لكنه مثير للاهتمام. كان جدال غوف هو ان غاليلو فتح الطريق لنجاح العلوم الطبيعية عبر تقييدها بما يمكن قياسه. الصفات الحسية كالصوت والذوق لم يكن لها مكان في هذا المشروع وجرى استبعادها من ميدان التحقيقات العلمية....

في عام 1870 أعلن الفريد رسل والس بوضوح ان "لا مهرب من هذا المأزق- اما ان جميع الاشياء المادية واعية او ان الوعي هو شيء متميز عن المادة"، غير ان زميله شارلس دارون صاحب نظرية التطور لا يتفق في هذا. والس ارادنا ان نمتلك ارواحا، هو اعتقد ان الوعي في الحقيقة متميز عن المادة. اما دارون فقد كان ماديا عنيدا، لم يكن لديه أدنى شك بأن الوعي هو مادي تماما. ومنذ عام 1838 هو اعتقد كبديهية ان التفكير "كإفراز للدماغ"، مستعملا كلمة "تفكير" وفق طريقة ديكارت للتعبير عن تجربة أي وعي. هو تساءل لماذا يجد الناس صعوبة للاعتقاد بهذه النظرية مقارنة بحقيقة ان الجاذبية هي خاصية للمادة.

دارون لم يوافق صراحة على الروحانية الشاملة panpsychism (1) – الرؤية بان هناك عنصر من الوعي في كل مادة، او بعبارة اكثر حذرا، ان الوعي هو أحد الخصائص الاساسية للمادة. لكنه رأى ان هذا الموقف ينطوي على جهل عميق بطبيعة المادة: "ماهي المادة؟ الشيء بأكمله لغز". بالتأكيد هو أدرك ملاحظة وليم جيمس التي صاغها عام 1890القائلة: "اذا كان التطور يعمل بسلاسة، فان الوعي يجب ان يكون حاضرا في الأصل الأول للأشياء. وطبقا لذلك نحن نجد ان فلاسفة التطور الأكثر وضوحا يبدأون بافتراض الوعي هناك".

ان مشكلة الوعي هي من المشاكل الأكثر صعوبة، كونها تتعلق بمعرفة كيف ترتبط عمليات الدماغ بالتجربة الذاتية للفرد. المشكلة هي كيف يمكن للمادة في اي مكان ان تؤدي الى تجربة الوعي؟ محاولات حل هذه المشكلة قادت الى مختلف انواع النظريات.

في (خطأ غاليلو)، ينخرط فيليب جوف في دفاع كامل عن الروحانية الشاملة.

انه مدخل تنويري لموضوع الوعي. كونه يعالج القضية الأساسية – خلافا لكل الكتب الذائعة الصيت الأخيرة حول هذا الموضوع. انه يمثل فرصة جيدة لإحداث هزة فكرية كبيرة جدا يحتاجها العديد من الناس اذا ارادوا الدخول للميدان الصحيح للتفكير حول الوعي. وهذا شيء عظيم.

كتاب "خطأ غاليلو" لفيليب غوف قد لا يكون مقنعا تماما لكنه مثير للاهتمام. كان جدال غوف هو ان غاليلو فتح الطريق لنجاح العلوم الطبيعية عبر تقييدها بما يمكن قياسه. الصفات الحسية كالصوت والذوق لم يكن لها مكان في هذا المشروع وجرى استبعادها من ميدان التحقيقات العلمية. ولكن مع ذلك ظلت التجربة الحسية من المظاهر الاساسية للذهن الواعي وهي الاساس في جميع التحقيقات العلمية بما في ذلك تلك المتعلقة بالوعي. يقول غوف بدءاً من زمان غاليلو وما تلاه، لم يكن العلم قادرا هيكليا على توضيح الوعي. يصف غوف ثلاثة اتجاهات لحل مشكلة الوعي، اثنان منها بلا جدوى.

1- الثنائية وهي الحل الأول لمشكلة الوعي. الاعتقاد بان هناك نوعان مختلفان من المادة، الذهني والفيزيقي. هو يلتحق بالعديد من الفلاسفة والعلماء بالجدال ان الثنائية تفترض وجود العديد من الافكار في ذهن واحد. "نحن لا يجب علينا الاعتقاد بالأذهان اللامادية مالم نكن حقا مجبرين على ذلك". هو يحاول القول ان الذهن-المادة يمكن اعتبارهما جزءاً كاملا من العالم الطبيعي وليسا نوعا من الأشباح الماورائية. ما يقرر نجاح النظرية في النهاية هو قدرتها على توضيح التفاعل بين الذهن والمادة.

2- الحل الثاني هو المادية. هو يبدو أقل ميلا لهذا الحل. هو مقتنع في ان المادية تتضمن الايمان بأن الواقع يمكن ان يوصف كليا بعبارات مادية وبهذا لن يبقى شيئا متى ما أكمل العلم الفيزيقي عمله. وفق هذه الرؤية، الوعي هو وهم او ادّعاء سخيف. نسخة غوف للمادية هي مضللة. في الحقيقة جميع الماديين سيكونون غاضبين على الكيفية التي يصفهم بها غوف.

3- بعد استبعاد الثنائية والمادية لم يبق امام غوف سوى الخيار الثالث وهو الروحية الشاملة panpsychism. وفق هذه النظرية يكون الوعي خاصية اساسية لكل مادة. لا توجد هناك مشكلة حول الكيفية التي تؤدي بها المادة للوعي، لأن المادة هي واعية سلفا. غوف يعترف ان معظم الناس يجدون الروحية الشاملة سخيفة. ماذا يعني القول ان الذرة واعية؟ انها من الواضح لا تضع خطة للغد ولا تتذكر كم هو مثير الانفجار العظيم (بغ بانغ). لذا فان النظرية تبدو تستبدل اللغز بآخر اكبر منه. المادة واعية بطريقة ما لكننا ليست لدينا فكرة عن تلك الطريقة.

الملاحظات التاريخية للمؤلف حول الروحانية الشاملة قد تبدو مضللة، حيث أعطى مكان الصدارة لأرثر ادنكتن و برتراند رسل مع عدم ذكر الروحانية الشاملة للفريد نورث وايتهد، او وكلفورد، او الروحانيين الشموليين الأمريكيين مثل سي اي سترونك و دورانت دراك، الذين كانت كتاباتهم من 1918 الى 1925 معروفة جيدا لرسل و ادنكتن. هو ايضا يرسخ الاسطورة بان ديفد شالمر عام 1995 "أنهى عقودا من المراوغة " حول السؤال عن الوعي و "أجبرنا على مواجهة اللغز الحقيقي وجها لوجه".

كل هذا غير صحيح في الفلسفة، وانه يمثل صفعة شاذة بوجه كل اولئك الذين فكروا بصعوبة بالغة وجيدة حول المشكلة لعدة قرون قبل عام 1995. هناك قفزة كبيرة في العمل في العقود التي أهملها غوف بما في ذلك مقالة توماس ناجل "ماذا يعني ان تكون خفاشا؟(1974)، و جون سيريل "حجة الغرفة الصينية"(1980) و فرانك جاك في "الغرفة البيضاء والسوداء"(1982).

المؤلف غوف ايضا كان مخطئا في تعريف المادية وفق رؤية زائفة ومفرطة في العلمية بأن كل شيء في الكون بما فيه الشعور بالألم والفرح الجنسي وتجارب اللون يمكن "وصفها شموليا" (بمعنى وصفها بطريقة تنقل طبيعتها بالكامل) بلغة من العلم الفيزيائي. لم نر اي مادي يعتقد بهذا، وبالتأكيد انها ليست صحيحة لدى توماس هوبز 1666، ولا لدى جوزيف بريستلي 1777، والاف من الآخرين منذ ذلك الحين.

الروحية الشاملة هي رؤية مادية بالكامل في جميع صيغها تقريبا. والكاتب غوف ذاته ينصح بالرؤية الشمولية المادية في ان "الوعي يتحدد في الطبيعة الباطنية للعالم المادي". هناك اناس يعتقدون ان المادية تتطلب منهم إنكار و جود الوعي، "الوهميون" الذين يصرّون على ان أدمغتنا هي مكائن ولاتوجد حقا هناك مشاعر، ولا ألم ولا مرح ولا خبرة حسية.غير ان هؤلاء هم، جماعة حديثة شاذة بين الماديين، وهذا ليس غريبا، لأن الوهمية هي أسخف رؤية آمن بها الكائن البشري. الوهميون يبحرون من حافة العالم في سفينة عظيمة من الحمقى تحت قيادة دانيال دينيت، واننا يجب ان نسمح لهم بالذهاب. لا نعرف لماذا يسمي غوف رؤيتهم "حل جميل وأنيق لمشكلة الوعي"، لأننا لا نستطيع حل مشكلة الوعي بإنكار وجوده – وهو ذاته يقول ان الوهمية هي بالتأكيد زائفة. كانت هذه واحدة من التقلبات في هذا الكتاب.

في الفصل الأخير من كتابه يقول غوف ان الروحية الشاملة تغير نظرتنا للعالم. إدراك اننا كلنا جزء من واحد، كون واع منفرد قد يجعلنا أقل أنانية وأقل اهتماما بالموت. الكوكب ستكون له فرصة كبيرة في النجاة من أزمات المناخ لو أدركنا اننا لسنا بعيدين عن الطبيعة وانما تماما فيها.

ذكر وليم جيمس مرة "انت تعلم اولاً، ان نظرية جديدة ستُهاجم كشيء سخيف"، "بعد ذلك انها يُعترف بها كصحيحة، لكنها واضحة وغير هامة، اخيرا انها يُنظر اليها بانها غير هامة لدرجة ان خصومها يدّعون انهم انفسهم اكتشفوها".

الروحية الشاملة ليست نظرية جديدة، وانما هي حديثة الشهرة، وهي لاتزال يُعتقد بها "سخيفة". يبقى ان نعرف ما اذا كانت ستتطور الى "الواضح". بالتأكيد انها بدت واضحة لثلاثة رابحين لجائزة نوبل بالفيزياء جرت مقابلتهم في الاوبزيرفر عام 1931: ارنست شرود (الكون المادي والوعي صُنعا من نفس المادة)، لويس بروغل (انا أعتبر الوعي والمادة مظهران مختلفان لشيء واحد)، و ماكس بلانك (انا أعتبر الوعي كشيء أساسي). لكنهم ربما يرون أبعد مما نستطيع نحن.

الكتاب: خطأ غاليلو- اساسيات لعلم جديد للوعي
الكاتب: فيليب غوف
اصدار: دار vintage اكتوبر 2020
عدد الصفحات: 256 صفحة.

............................................
الهوامش
(1) هي الرؤية بان جميع الاشياء لها ذهن او خاصية تشبه الذهن. الكلمة صاغها اول مرة الفيلسوف الايطالي فرانسيسكو باتريزي في القرن السادس عشر، وهي مشتقة من كلمتين يونانيتين pan وتعني كل و psyche وتعني الروح او الذهن. في فلسفة الذهن تعني panpsychism الرؤية بان الذهن او المظهر الشبيه بالذهن هو خاصية اساسية للواقع. انها واحدة من اقدم النظريات الفلسفية، وكانت قد نُسبت لفلاسفة امثال طاليس وافلاطون وسبينوزا وليبنز ووليم جيمس ورسل وآخرين. في القرن العشرين شهدت النظرية تراجعا مع صعود الوضعية المنطقية.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق