q
كلاهما يعيشان في بيت واحد، ينتميان لأسرة واحدة، وكلاهما عاشا تسعة شهور في رحمٍ واحد، وجاءا إلى الدنيا في يوم واحد، بفارق زمنيّ قصير لأنهما توأم، لكن الغريب حقا أنهما وإن تشابها بملامح الوجه والجسد، إلا أنهما متناقضان في السلوك إلى حدّ القطيعة، كالاختلاف بين الليل والنهار، والضوء والظلام...

كلاهما يعيشان في بيت واحد، ينتميان لأسرة واحدة، وكلاهما عاشا تسعة شهور في رحمٍ واحد، وجاءا إلى الدنيا في يوم واحد، بفارق زمنيّ قصير لأنهما توأم، لكن الغريب حقا أنهما وإن تشابها بملامح الوجه والجسد، إلا أنهما متناقضان في السلوك إلى حدّ القطيعة، كالاختلاف بين الليل والنهار، والضوء والظلام.

أبوهما كان يردّد على مسمعيْهما دائما، مثلا شعبيا معروفاً يذكّر به الآباء أبناءَهم كي يتميزوا عن الآخرين، ترجمة هذا المثل من اللهجة الدارجة إلى الفصحى تقول: (امشِ مع من يبكيك، ولا تمشِ مع من يُضْحِكَك)، ومعناه كما يبدو واضحا، على الإنسان أن يرافق شخصا لا ينصحهُ بالراحة ولا يلهيه بالكسل وقتل الوقت في التسلية، وإنما يُتعبه بالنصائح والإعمال الجادة حتى لو أبكاه.

أما حين ترافق شخصا ينصحك باللهو ويدفعك نحو الخمول وهدر الوقت دون مقابل، فإنك سوف تخرج من هذه الدنيا خالي الوفاض، ولن تترك وراءك شيئا أو فعلا أو عملا ذا بال يجعل ذكراكَ محفوظة بين الناس بعد رحيلك، لأنك صنعت بصمتكَ المتميزة بتعبك وجهدك وجدّيتكَ ولم تُضِع وقتكَ هدرا، ولم تسمح للهو أن يسلبك منجزاتك الكبيرة.

هذان الشقيقان مختلفان تماما عن بعضهما، الأول مشى مع من يُتعبهُ منذ طفولته مرورا بشبابه وكهولته وحتى شيخوخته، فلمْ يقل يوما أنهُ أصبح حكيما عارفا ولا يحتاج لأفكار ونصائح غيره، بل كان يقول عن نفسه بأنه طالب بمدرسة الحياة في جميع مراحله العمرية.

أما الثاني فقد أهدرَ عمرهُ مع من سلّاه وألهاه وأضحكهُ، وطيلة مراحل عمره لم يتنبّه إلى الشهور والسنوات وهي تتسرب من بين يديه كالماء، فأهدرَ وقته الثمين في ما يريح نفسه ويحقق رغباته، ومع من يضحكهُ ويسيء لهُ دون أن يأخذ باله من ذلك، ولم تنفع معه جهود أبيه الكبيرة والمتكررة كي يُصلحه.

الأول دخل مضمار العمل في سنٍّ مبكرة، واغترف من تجارب الحياة العملية الكثير، فرافق الشباب المحبين للعمل، البعيدين عن الإسراف، الحريصين على وقتهم، فكان يردد دائما (غبي ذلك الإنسان الذي لا يعرف قيمة الوقت)، وكان أصحابه من هذا النوع أيضا، ولذلك يعترف الجميع بأنه نجح في حياته، وأسس وطوّر أسرة ناجحة، وبرع في عمله، وساعد الناس كثيرا، ولكن حتى مساعداته كانت تذهب في مكانها الصحيح.

الثاني لم يعرف شيئا اسمهُ عمل، حتى أبوه عجز منه، ولم يفلح في ثنيِهِ عن قتل وقته باللهو واللعب والتسلية الباهتة، كان يسخر من أبيه ويهزأ من أخيه الجاد، وينظر إليه بعين الاستصغار والاحتقار، ويرى أنه طمّاع وبخيل لأنه يحب العمل ويدّخر النقود، أما هو فكان يكره العمل الجاد بكل أنواعه، ويبذّر ما يحصل عليه من نقود، كان يعطيها له أبوه كواجب تربوي.

ذات يوم فكّر الأخ الجادّ أن ينقذ أخاه اللّاهي من ضياعه وكراهيته للعمل وتعلّقه باللهو، فناقش الأمر مع أبيه، وفرح الأب كثيرا لأن ابنه الناجح فكّرَ أن يمد يده لأخيه، كي ينقذه من ورطة إدمان مضيعة الوقت وكراهية العمل.

ذهب إلى أخيه اللّاهي، طرح عليه فكرة العمل المشترك، هو يتكلّف بالأموال في فتح محل متوسط، أما أخوه الفاشل فيتبنى عملية البيع وتمشية العمل، حاول الأخير أن يتملّص، رفض العمل لكن أباه أجبره على القبول، وكما هو متوقع بعد أشهر معدودة فشل هذا المشروع والثاني والثالث و.....، وأهدر الأخ اللاهي أموال أبيه وأخيه الجاد، في التسلية واللهو مع أصحابه الذين يشبهونه في الفشل وهدر الوقت.

كرّر الأب محاولاته كي يتخلص ابنه من العجز والخمول، لاسيما أن سنواته بدأت تذوب في العد التنازلي، أخوه الجاد تزوج وأنجب وتكاثرت مشاريعه، وتضاعفت أرباحه، في حين بقي ابنه الكاره للتعب الباحث عن الراحة، بلا زوجة، بلا أطفال، بلا مال، بلا عمل، وها هو يقترب من سقف الأربعين، خالي الوفاض من أي شيء، والمشكلة أنه لا يزال حتى في أوضاعه هذه يكره العمل، فمن شبَّ على شيء شاب عليه كما يُقال.

عند الخمسين، اجتمع الأب مع ولديه كي يوزّع عليهما محصول حياتهِ، إنهما شقيقان خرجا من صلْبٍ واحد، وتكونا ونَمَيا في رحم واحد، لكن شتان بين الابن المجتهد، وبين الابن اللّاهي، نظر الأب إلى ولديه، كان الفرح والزهو يشّع في إحدى عينيه، والخيبة والألم يلوح في العين الأخرى، الزهو والفخر كان مبعثه الابن الناجح الحريص على وقته المحب لعمله، أما الخيبة فكان سببها الابن الطالح الكاره للعمل المحب للتسلية المدمن على قتل الوقت.

بالنتيجة حوَّل الأب كلّ ما جناه في حياته إلى الابن الناجح مع أنه صار ثريا وليس بحاجة لثروة أبيه، وحرم ابنه الكاره للعمل من كل شيء وحينما احتجَّ على ذلك وتظلّم وبكى، قال له الأب: (امشِ مع من يبكيك، ولا تمشِ مع من يُضْحِكَك).....

اضف تعليق