q
البعد الفكري الدكتاتوري في الأيديولوجيا الليبرالية الأميركية والذي مهد الى ذلك النوع من الابتزاز السياسي الذي مارسته الدكتاتورية الشعبوية للرئيس ترامب في التلويح بإلغاء النتائج الانتخابية عن طريق الدعاوى القضائية غير المبررة من وجهة نظر سياسية، أو عن طريق نشاطات إعلامية تواصلية يعلن فيها الرئيس ترامب...

كشفت الانتخابات الأميركية عن هشاشة أميركا في الداخل لدى الكثيرين من المتابعين للشأن الأميركي لاسيما أن مؤشرات هذا التدهور قد جاءت بواسطة تصريحات رؤساء الولايات المتحدة الأميركية، فالرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما أشار بصراحة أن بلاده أميركا تعاني من انقسامات بدأت تزداد خلال سنوات حكم الرئيس ترامب، واعتبر أن حصول كلا المرشحين الديمقراطي بايدن والجمهوري ترامب على أكثر من سبعين مليون صوت يعكس حقيقة وحجم هذا الانقسام.

وكان الرئيس المنتخب جو بايدن قد أكد قبل موعد الانتخابات بثلاثة أيام حالة الانقسام الداخلي، فقد تحدث في مهرجان انتخابي في بنسلفانيا عن إشعال الكراهية وتعزيز الانقسام في البلاد الذي تسببت به إدارة ترامب داعيا الأميركيين الى وضع حد لهذه الادارة في تلك الانتخابات.

بينما كان الرئيس ترامب يصر على حدوث تزوير مؤكد وليس متوقع من وجهة نظره في هذه الانتخابات، وكان يهدد بإعلان فوزه قبل الموعد المحدد في حال حصوله على تقدم في بعض الولايات الحاسمة في نتائجها الانتخابية، ورغم ظهور النتائج المرشحة لفوز بايدن إلا أنه ظل يتشبث بفكرة التزوير واصفا الأصوات التي انتخبت بايدن بالسخيفة ومقدرا عددها بنفسه ثمانين مليون صوت.

ويعد الازدراء والتداول اللفظي لمفرداته كاشفا أو مؤسسا للكراهية الدينية والعرقية التي انتابت المجتمعات الأميركية في العقدين الأخيرين لاسيما بعد تورط أميركا في الحروب الأخيرة في المنطقة الإسلامية والتي تسببت باختلافات واسعة في الرأي العام الأميركي كان يمهد ضمن عوامل أخرى اجتماعية وثقافية سابقة الى حالة الانقسام الأميركي الداخلي.

وقد كشفت حركة (حياة السود مهمة) عن حجم وحدة الشرخ الاجتماعي والثقافي في المجتمعات الأميركية الذي أكدته ظاهرة التسليح الفردي وإمكانية استخدامه في حسم الخلاف العرقي والسياسي الناتج عن تحريض اليمينيين والمتطرفين الذي كرس حالة الانقسام الداخلي في أميركا، وقد حاول ترامب أن يعزو ذلك الانقسام الى اليسار الراديكالي وفق وصفه، وقد بدا كلا الجناحين متكافئين مع اقتراب نسبة التصويت وبتجاوز السبعين مليون صوتا لكلا المرشحين الرئاسيين، ويبدو التأييد الشعبوي الذي يحظى به ترامب تعبيرا عن ميول اجتماعية وثقافية بدأت تتكون في المجتمع الأميركي نحو الدكتاتورية الشعبوية التي تنمو دائما في ظل الديمقراطيات الزائفة، وهو ما أكدته الاتهامات المتبادلة بين الديمقراطيين والجمهوريين بتجيير النظام الأميركي باتجاهات الدكتاتورية في أنظمة دول العالم الثالث.

وقد تحدث الرئيس ترامب عن تشبيه الانتخابات الأخيرة في عمليات التزوير المدعاة من جانبه بانتخابات العالم الثالث، مما يكشف عن عمق وخطورة المأزق السياسي والأيديولوجي الذي بدأت تتوجس منه الديمقراطية الأميركية وهي تقدم نفسها دائما بأنها النموذج الاستثنائي من بين كل الديمقراطيات في العالم في تقاليدها وعراقتها في الحياة الأميركية، وكانت تزعم في متبناها الديمقراطي أنها زعيمة العالم الحر وهو ما كفل لها الحق من وجهة نظرها بأن تقترح مشروع الشرق الأوسط الكبير وتقدم على تنفيذه ولو بالقوة العسكرية.

وهو ما أوضح البعد الفكري الدكتاتوري في الأيديولوجيا الليبرالية الأميركية والذي مهد الى ذلك النوع من الابتزاز السياسي الذي مارسته الدكتاتورية الشعبوية للرئيس ترامب في التلويح بإلغاء النتائج الانتخابية عن طريق الدعاوى القضائية غير المبررة من وجهة نظر سياسية، أو عن طريق نشاطات إعلامية تواصلية يعلن فيها الرئيس ترامب دائما أنه لن يغادر البيت الأبيض وأنه الفائز الفعلي في الانتخابات الأميركية، وهي حالة ارتدادية في السلوك الرئاسي الأميركي تعبر عن إمكانية إلغاء التداول السلمي للسلطة.

وقد كشف التأييد الشعبوي لادعاءات ترامب وابتزازه السياسي من خلال التظاهرات الكبيرة المؤيدة له عن تجاوز حالة الارتداد على السلوك الديمقراطي الى الجمهور الأميركي وليس حصرا في حدود الدائرة الشخصية للرئيس ترامب كما يوحي خصوم ترامب بذلك التصور، وهو ما يؤشر أزمة أميركية عامة على صعيد الأيديولوجيا الليبرالية وعلى صعيد اللحمة الوطنية الأميركية التي كرست أميركا جهودها الفكرية والثقافية في توثيق هذه اللحمة الوطنية وإرسائها في الأيديولوجيا الليبرالية.

ورغم الثقة التي توليها الدوائر الدولية والبحثية بالمؤسسات الدستورية الأميركية وقد استطاعت فعلا أن تنجو بأميركا من سياسات ترامب غير المخطط لها استراتيجيا وسياسيا لاسيما محاولاته الأخيرة في توريط البلاد بمواجهات داخلية، إلا أن الخارطة الاجتماعية العامة والثقافية – السياسية وبصيغتها الأخيرة في أميركا تدع الأوضاع الداخلية السياسية والأمنية منفتحة على كل الاحتمالات وتترصد الخطورة فيها المجالات الحساسة في الدولة والحياة الأميركية وهو ما يضع تلك البنية الأميركية التي أنتجتها الانحرافات الخطيرة لليبرالية الأميركية باتجاه المركزية الذاتية الأميركية على صعيد العالم وباتجاه الدكتاتورية الشعبوية على صعيد الداخل الأميركي كأبرز واهم التحديات التي تواجه الرئيس المنتخب بايدن.

اضف تعليق