q
فسر الكثيرون رفض ترامب لنتائج الإنتخابات بأنها حالة إنفعالية مؤقتة وردة فعل عصبية بسبب مشاعر الغضب والألم والحيرة التي يعاني منها الرئيس المهزوم والذي يصعب عليه هضمها! غير أن تصرفات ترامب الأخيرة أعطت مؤشرات خطيرة وجدية تستدعي التوقف والتحليل ونزع رداء حسن النية الذي البسه إياه...

أظهرت نتائج إنتخابات الرئاسة الأمريكية التي جرت في الثالث من شهر تشرين ثاني "نوفمر" الجاري أن نائب الرئيس الأمريكي السابق ومرشح الديمقراطيين للرئاسة "جو بايدن" هو الفائز في هذه الإنتخابات حيث تفوق بأكثر من خمسة ملايين صوت على غريمه الرئيس الحالي "دونالد ترامب" في الحصيلة شبه النهائية لنتائج التصويت الشعبي، بينما تجاوز الحد الأدنى للفوز كثيرا وهو"270" صوت إنتخابي على مستوى تصويت الولايات إذ كسب 306 صوت.

رغم وضوح هذه النتائج ومصداقيتها، حيث لم تظهر أي خروقات أو ملابسات أعلنت عنها أو نوهت لها لجنة الإنتخابات المحيادة والتي يراقب عملها ممثلين عن الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فإن الرئيس "ترامب" رفض الإقرار بهزيمته أمام غريمه الديمقراطي متحججا بوجود خروقات وتزوير كبير في العملية الإنتخابية الى صالح "جو باين"!

رغم أن الرئيس الأمريكي إختفى عن أسئلة الإعلاميين وكامراتهم منذ يوم الإنتخابات، حيث اكتفى بتصريح مختصر أمام الصحفيين وبتغريداته الخاصة على صفحته في " تويتر" يؤكد فيها بأنه هو الفائز في هذه الإنتخابات وليس "جو بايدن". فقد أشار الى وجود عملية تزوير كبيرة أفرزت هذه النتائج المضللة، مما جعلته يرفضها ويقدم شكوى قضائية بهذا الشأن. لم يُظهر "ترامب" حججا دامغة أو براهين تثبت هذا الإدعاء الذي نفته لجان المراقبة الإنتخابية على السنة المسؤولين فيها من ديمقراطيين وجمهوريين ومحايدين.

بقى المراقب للأوضاع يحلل تصرفات "ترامب" ويراقبها عن كثب، حيث فسر الكثيرون رفض ترامب لنتائج الإنتخابات بأنها حالة إنفعالية مؤقتة وردة فعل عصبية بسبب مشاعر الغضب والألم والحيرة التي يعاني منها الرئيس المهزوم والذي يصعب عليه هضمها! غير أن تصرفات ترامب الأخيرة أعطت مؤشرات خطيرة وجدية تستدعي التوقف والتحليل ونزع رداء حسن النية الذي البسه إياه الكثير من المحللين السياسيين. أظهرت أفعال "ترامب" مؤخرا نيته الحقيقية المبيّتة بعدم مغادرة كرسي السلطة والتمسك به رغم نتائج الإنتخابات، مما يوحي بإحتمالية خوضه عملية " إنقلاب سياسي" أو مسلح، إن إستطاع اليه سبيلا، على ناموس الديمقراطية في بلد الحضارة والديمقراطية!

على الأقل هناك "سبعة" نقاط تؤيد طبيعة إرادات "ترامب" الجامحة بالتمسك بالسلطة رغم فشله بالإنتخابات والبقاء رئيسا لأمريكا خارقا بهذا الدستور ومتحججا بأعذار وإفتراءات التزوير المصطنعة، وهذه النقاط هي:

أولا: مضى أكثر من أسبوع على تأريخ الإنتخابات والرئيس الأمريكي مصّر على بطلان هذه الإنتخابات وعلى عدم مصداقيتها متحججا بحصول تزوير فيها رغم غياب البراهين والحجج! كما أنه رفض الإعتراف والتنازل للرئيس المنتخب، بل أوقف أي عملية تمويل مالي ضروري وقانوني للرئيس المنتخب الجديد من أجل إجراء الخطوات الضرورية لعملية إنتقال السلطة. هذا مخالف لكل الأصول والأعراف السائدة في عملية إنتقال السلطة في هذا البلد وسابقة غريبة ونادرة جدا توحي الى ما ورائها من أحداث وأهداف!

ثانيا: بدأ "ترامب" بحملة تنظيف في دائرة حكمه خصوصا في الأماكن المهمة والحساسة والتي فيها تتمركز السلطة والقوة، حيث بدأها في وزارة الدفاع إذ أقال وزير الدفاع الأمريكي "مارك إسبر" الذي يشك في ولائه له وأبدله بشخصيّة موالية له وهو وزير الدفاع وكالة "كريستوفر ميلر"، كما أقال مسؤولين كبار في البنتاغون ومنهم: القائم بأعمال وكيل وزارة الدفاع للسياسة "جيمس أندرسون" ووكيل وزارة الدفاع للإستخبارات "جوزيف كيرنان" ورئيس الأركان " جين ستيوارت".

كما أن هناك مؤشرات على عزمه طرد بعض المسؤولين الآخرين في الدوائر الحساسة في الدولة كرؤساء الدوائر الأمنية الهامة في البلاد أمثال "كريستوفر راي" مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الـ "أف بي آي" و"جينا هاسبل" مديرة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الـ "سي آي أيه". هنا يتساءل المراقب، لماذا هذه الإجراءات التي يقوم بها رئيس على أبواب الرحيل من منصبه!؟ هل هي إنتقام من هؤلاء الذوات لغرض في قلبه!؟ أم إنها إجراءات تأسيس حكومة جديدة عمرها سوف لن يتجاوز الـ 70 يوما!؟ أم أنه عازم على إنشاء سلطة "إنقلاب" قادم!؟.

ثالثا: رفض نقل السلطة للرئيس المنتخب الجديد لم يكن محصورا على لسان "دونالد ترامب" وحده فحسب إنما تعداه الى مسؤولين آخرين، حيث صرح وزير خارجيته "مايك بومبيو" أمام الصحفيين في جوابه على سؤال: أن الإدارة الأمريكية تسعى للتحضير من اجل أربع سنوات حكم جديدة لـ "دونالد ترامب"! فُسّر قوله بأنه مجرد "مزاح" لكن يبدو أنه يعني ما يقول....!. لم يبارك غالبية الجمهوريين فوز "بايدن" إنما صرّح كبارهم بما يدعو للقلق والإستغراب خصوصا تلك التصريحات التي أدلها بها "ليندسي غراهام" صديق ترامب ورئيس اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ الأمريكي من جهة، وتلك التي صرح بها زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ " متش مكونل" من جهة أخرى، والتي تتناغم مع ذبذبات أوتار ترامب في هذا النحو.

رابعا: القاعدة الشعبية الصلبة التي يستند عليها ترامب والتي تؤمن بما يقول ويفعل حيث تناصره ظالما ومظلوما، تمده بعناصر القوة والتمادي والتحدي. هذه القاعدة الصلبة التي تضم الحركات المتطرفة من عنصريين وشعبويين وغيرهم، هم قادرون على حمل السلاح والمشاركة في أي مواجهات مسلحة ذات طابع سياسي قد تحصل! وهكذا تعتبر عمق ستراتيجي لـ "ترامب" حيث رفض مرارا وتكرارا إدانتهم أمام الإعلام، بل بعث برسالة مشفرة لهم في خطاب له أثناء المناظرة الإنتخابية مع غريمه "جو بايدن"، بأن "يقفوا جانبا وفي الخلف"! فسرت هذه العبارة كدعوة لهم أن يكونوا تحت الطلب والحاجة! وهكذا وطبقا لهذا التوجه فقد نفذت متاجر الأسلحة في المدن الأمريكية من بضاعتها إذ تسلّح أعوانه وغيرهم تحسبا للظروف القادمة!

خامسا: شخصيّة "ترامب" غريبة الأطوار والتصرفات توحي بأن هذا الرجل لا يتردد في إجتياز الخطوط الحمراء حيث كل شيء جائز أمام نزعاته وإراداته وأهدافه. ليس غريبا منه أن يتصرف بإسلوب دكتاتوري محض من أجل الحفاظ على نفوذه وسلطته. هذه التصرفات الغريبة التي شهدناها إبان أيام حكمه منبعثة من أسس مرضية بحته، فقد شخص أكثر أطباء النفس "ترامب" بأنه مصاب بـ "النرجسية الخبيثة"، غير أنه يبدو بأن نرجسيته هذه هي عارض لمرض أعم وأشمل وهو مرض " السايكوباثية" إذ أن السايكوباث يبدي أعراض النرجسية مضافا اليها جنون العظمة وحب السلطة والتسلط وقابليتة على الخداع والكذب وإمتلاكه الكارزما السطحية التي يكسب من خلالها عواطف عامة الناس وإيمان البسطاء منهم. السيكوباثي يتميز عادة يقدرته على تسلق حبل السلطة وشبقه لها، وحينما يمسك بالسلطة لا يتركها لغيره مهما كانت الأسباب وإن تركها عنوة فستكون بعد حمام من الدم! طبقا لهذه الأوصاف فمن الصعب أن نرى "ترامب" يغادر البيت الأبيض سلميّا مصافحا "بايدن" ومتمنيا له طيب الإقامة!

سادسا: خلال فترة حكم "ترامب" برزت أمور كثيرة كانت مخفية على الناس وعلى القضاء متمثلة بتهربه من الضرائب وقضايا فساد مالي عنده وعند عائلته، كما أن علاقاته الخفيّة مع روسيا التي لم يتم حسم الملف التحقيقي الذي قاده رئيس لجنة التحقيق الخاصة "روبرت مولر" فيها، إضافة الى قضايا معلقة أخرى لم تبت المحاكم فيها بسبب الحصانة التي يتمتع بها. كل هذه السجلات والقضايا تنتظره يوم تنجلي عنه السلطة، ليقف أمام القضاء يدافع عن نفسه وهذا مالا يريده أن يحصل ويقوم، وهذا ما سيدفعه الى إستنزاف كل الوسائل والطرق المشروعة منها وغير المشروعة في سبيل البقاء في السلطة.

سابعا: يعتبر "ترامب" المحكمة العليا الأمريكية ظهيرا له في حالة البت بنزاعات في قضايا إستراتيجيّة كبرى قد يواجهها مع الديمقراطيين، حيث تتألف هذه المحكمة اليوم من أغلبية جمهورية (ست أعضاء جمهوريين وثلاثة أعضاء فقط ديمقراطيين). وهكذا فهو يهدد دائما الديمقراطيين برفع دعاوي ضدهم مدعيا بأن الإنتخابات التي جرت غير نزيهة حيث سرقت حقه في الرئاسة لولاية ثانية!

هذه الحقائق والأسباب تدفع "ترامب" أن يكون متحديا لناموس الديمقراطية والشرعية ومتماديا حد الإنقلاب! فهل سينجح في جهده الإستثنائي هذا ويقلب أمريكا أم الديمقراطيات الى أم للدكتاتوريات في العالم أم ستنقلب مقالبه عليه ويبقى "فكاهة" تتناقلها كتب التأريخ.....!!!؟.

اضف تعليق