q
الانتخابات لا تحسم الجدال السرمدي حول المواقف التي يتعين على الحزب الديمقراطي وغيره من أحزاب يسار الوسط اتخاذها في ما يتصل بالقضايا الثقافية والاقتصادية لتعظيم جاذبيتها الانتخابية. لكن هذا لا يغير بشكل جوهري التحدي الذي يواجه هذه الأحزاب. يتعين على القادة السياسيين على اليسار أن...
بقلم: داني رودريك

كمبريدج ــ على الرغم من الفوز الصعب الذي حققه جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية بعد بضعة أيام من الإثارة والترقب، أصبح مراقبو الديمقراطية الأميركية في حيرة من أمرهم. فبتشجيع من استطلاعات الرأي، توقع كثيرون فوزا ساحقا للديمقراطيين، مع استحواذ الحزب ليس فقط على البيت الأبيض بل وأيضا مجلس الشيوخ. كيف تمكن دونالد ترمب من الاحتفاظ بدعم كل هذا العدد من الأميركيين ــ حيث حصل على عدد أكبر من الأصوات مقارنة بما حصل عليه قبل أربع سنوات ــ على الرغم من أكاذيبه الصارخة، وفساده الواضح، وتعامله الكارثي مع الجائحة؟

تتجاوز أهمية هذا السؤال السياسة الأميركية. تحاول أحزاب يسار الوسط في كل مكان إحياء ثرواتها الانتخابية ضد الشعبويين اليمينيين. ورغم أن بايدن وسطي بطبعه، فقد تحرك برنامج الحزب الديمقراطي إلى حد كبير باتجاه اليسار ــ على الأقل بالمعايير الأميركية. وكان النصر الديمقراطي الحاسم ليعطي دَفعة قوية لليسار المعتدل: فربما كان كل ما يستلزمه الأمر للفوز الجمع بين السياسات الاقتصادية التقدمية والالتزام بالقيم الديمقراطية واللياقة الإنسانية الأساسية.

الآن، يدور الجدال بالفعل حول الكيفية التي كان الديمقراطيون ليتمكنوا من خلالها من تقديم أداء أفضل. من المؤسف أن انتصارهم بهامش ضيق لا يُـفضي إلى دروس سهلة. تدور السياسة الأميركية حول محورين: الثقافة والاقتصاد. وفي كلتا المجموعتين من القضايا، يمكننا أن نجد أولئك الذين يعتبرون الديمقراطيين مخطئين لأنهم قطعوا شوطا أبعد من اللازم في التعامل مع هذه القضايا وأولئك الذين يعتقدون أنهم أخطأوا لأنهم قصروا في التعامل معها.

تؤلب الحروب الثقافية المناطق المحافظة اجتماعيا التي يغلب عليها أصحاب البشرة البيضاء ضد المناطق الحضرية حيث ارتفعت مواقف ما يسمى "اليقظة" إلى مستوى الهيمنة. فمن ناحية، نجد القيم الأسرية، ومعارضة الإجهاض، وحق حمل السلاح. ومن ناحية أخرى، نجد حقوق المثليين، والعدالة الاجتماعية، ومعارضة "العنصرية الجهازية".

رأى كثيرون من أولئك الذين صوتوا لصالح ترمب في دعم الديمقراطيين لاحتجاجات الشوارع هذا العام ضد وحشية الشرطة تغاضيا عن العنف وتشويه صورة الأمة بالكامل بفرشاة العنصرية العريضة. ورغم أن بايدن كان حريصا على التحدث ضد العنف، فقد أصبح الديمقراطيون عُـرضة لاتهامات بالاستعراض الأخلاقي وتشويه قيم القسم الأوسط الأصيل من البلاد. من منظور آخرين، لا يؤكد استمرار دعم ترمب إلا على عمق امتداد جذور العنصرية والتعصب، والحاجة الـمُـلِحَّـة إلى مكافحتهما بقيادة الحزب الديمقراطي.

فيما يتعلق بالاقتصاد، يعتقد العديد من المراقبين، بما في ذلك بعض الديمقراطيين الوسطيين، أن الحزب أبعد الناخبين المحافظين بالتحرك لمسافة أبعد مما ينبغي إلى اليسار. وكما هو متوقع، سارع الجمهوريون إلى تأجيج المخاوف من زيادة الضرائب والسياسات البيئية المدمرة للوظائف، والطب الاشتراكي. في كل من الحزبين السياسيين الرئيسيين في الولايات المتحدة، نجد أن الأسطورة الأميركية الجوهرية حول رجل الأعمال المنفرد الذي يعمل على نحو أفضل عندما يقتصر عمل الحكومة على أقل القليل لا تزال باقية وقوية.

على الجانب الآخر من هذه الحجة، يزعم التقدميون أن بايدن خاض حملته الانتخابية على أساس مقترحات لم تكن راديكالية وفقا لمعايير غيرها من الدول المتقدمة. إذ كان بايدن عاقد العزم في نهاية المطاف على تأطير الانتخابات على أنها استفتاء على ترمب، وليست اختبارا لدعم الناخبين لأجندة بديلة. وربما كان بيرني ساندرز، أو إليزابيث وارين، مع تركيزهما بشكل أكبر على الوظائف، والأمن الاقتصادي، وإعادة التوزيع، أكثر انسجاما مع تطلعات معظم الأميركيين.

بالنظر إلى أن الانتخابات أجريت في خضم جائحة مهلكة على نحو متزايد، فمن المحتمل أيضا أن أنماط التصويت كانت مدفوعة بمزيج من الاعتبارات الصحية والاقتصادية، ولم تكن مرتبطة بهذه المناقشات إلا بشكل مرسل. يعتقد بعض المطلعين من داخل الحزب الديمقراطي أن الناخبين ربما كانوا منزعجين بشأن التكاليف الاقتصادية المترتبة على عمليات الإغلاق وسياسات كوفيد-19 الأكثر صرامة التي يدعو إليها الديمقراطيون. إذا كان الأمر كذلك، فإن الحجج المذكورة أعلاه تصبح محل نظر إلى حد كبير.

باختصار، من الواضح أن الانتخابات لا تحسم الجدال السرمدي حول المواقف التي يتعين على الحزب الديمقراطي وغيره من أحزاب يسار الوسط اتخاذها في ما يتصل بالقضايا الثقافية والاقتصادية لتعظيم جاذبيتها الانتخابية. لكن هذا لا يغير بشكل جوهري التحدي الذي يواجه هذه الأحزاب. يتعين على القادة السياسيين على اليسار أن يعكفوا على صياغة هوية أقل نخبوية وسياسة اقتصادية أكثر مصداقية.

كما لاحظ توماس بيكيتي وآخرون، أصبحت أحزاب اليسار على نحو متزايد أحزابا للنخب الحضرية المتعلمة. ومع تآكل القاعدة التقليدية لهذه الأحزاب بين أبناء الطبقة العاملة، تعاظم تأثير المهنيين المعولمين، والصناعة المالية، ومصالح الشركات. لا تكمن المشكلة في أن هذه النخب تفضل غالبا السياسات الاقتصادية التي تتسبب في تخلف أبناء الطبقة المتوسطة والطبقة المتوسطة الدنيا والمناطق المتأخرة وراء الركب وحسب. بل تتمثل المشكلة أيضا في أن عزلة هذه النخب الثقافية والاجتماعية والمكانية تجعلها غير قادرة على فهم ــ والتعاطف مع ــ نظرة أولئك الأقل حظا للعالَم. من الأعراض التي تنبئ بالكثير هنا مدى السهولة التي تجاهلت بها النخبة الثقافية نحو 70 مليون أميركي دعموا ترمب في هذه الانتخابات بتصويرهم على أنهم أشخاص جهلاء صوتوا ضد مصالحهم الشخصية.

فيما يتصل بالاقتصاد، لا يزال اليسار يفتقر إلى إجابة مقنعة للسؤال الملح في عصرنا: من أين ستأتي الوظائف الجيدة؟ لا شك أن الضرائب التصاعدية، والاستثمار في التعليم والبنية الأساسية، والتأمين الصحي الشامل (في الولايات المتحدة) أمور بالغة الأهمية. لكن كل هذا لا يكفي. لقد أصبحت وظائف الطبقة المتوسطة الجيدة نادرة، بسبب اتجاهات مزمنة في التكنولوجيا والعولمة. وقد تسببت جائحة كوفيد-19 في تعميق حالة الاستقطاب في أسواق العمل. ونحن في احتياج إلى استراتيجية حكومية أكثر استباقية وتستهدف بشكل مباشر تحقيق زيادة في المعروض من الوظائف الجيدة.

الواقع أن المجتمعات التي تختفي فيها الوظائف الجيدة تدفع ثمنا يتجاوز حدود الاقتصاد. إدمان المخدرات، وتفكك الأسر، وارتفاع معدلات الجريمة. ويصبح الناس أكثر تعلقا بالقيم التقليدية، وأقل تسامحا مع الغرباء، وأكثر استعدادا لدعم القادة المستبدين الأقوياء. ويُـفضي انعدام الأمان الاقتصادي إلى إحداث، أو تفاقم، خطوط الصدع الثقافية والعِـرقية.

الآن، الأمر موكول لأحزاب اليسار لتطوير حلول مفصلة بخطط واضحة لهذه المشكلات الاقتصادية العميقة الجذور. لكن الحلول التكنوقراطية لا يمكنها الذهاب إلى ما هو أبعد مما حققته بالفعل. ويستلزم الأمر بناء عدد كبير من الجسور للتغلب على الانقسامات التي تتحمل النخب الثقافية المسؤولية عنها إلى حد كبير. وإلا فإن الديمقراطيين قد يجدون أنفسهم في مواجهة صحوة فظة أخرى بعد أربع سنوات من الآن.

* داني رودريك، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد. ومؤلف كتاب "العولمة التناقض: الديمقراطية ومستقبل الاقتصاد العالمي، وقواعد الاقتصاد: حقوق وأخطاء علوم الكومبيوتر، وآخرها حديث مستقيم عن التجارة: أفكار لإقتصاد عالمي
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق