q
لا حرج في أن تدفع الشركات الناجحة برؤاها الخاصة. ولكن عندما تصبح وجهة نظر شركة بعينها اللعبة الوحيدة المتاحة فسرعان ما تأتي المشاكل. تاريخيا، تحدث أعظم التطورات التكنولوجية عندما تقوم شركات عديدة عبر العديد من القطاعات بتجربة أفكار مختلفة. لا تكمن المشكلة اليوم فقط في أن شركات...
بقلم: دارون أسيموغلو

كمبريدج ــ ربما تكون الدعوى القضائية التي أقامتها وزارة العدل الأميركية ضد شركة جوجل أول دفعة من وابل قادم من تدابير مكافحة الاحتكار الموجهة إلى شركات التكنولوجيا الضخمة. يُـعَـد الحد من قوة هذه الشركات إحدى تلك القضايا النادرة التي تحظى بدعم من الحزبين الرئيسيين في الكونجرس الأميركي.

ورغم أن الدعوى القضائية ضد جوجل تركز بشكل ضيق على "الممارسات المانعة للمنافسة والإقصائية في أسواق البحث والإعلان على شبكات البحث"، فإن تقريرا مطولا صادر مؤخرا عن اللجنة الفرعية لمكافحة الاحتكار في مجلس النواب الأميركي يسرد العديد من المشكلات الأخرى على رادار صناع السياسات. بالإضافة إلى الدور المهيمن الذي تلعبه شركة جوجل في الإعلان الرقمي وممارستها المزعومة في توجيه المستخدمين إلى نتائج البحث المفيدة لها شخصيا، ينظر المشرعون الأميركيون في سيطرة شركة فيسبوك الساحقة على وسائط التواصل الاجتماعي، وسيطرة أمازون المتزايدة على أسواق بيع التجزئة، وانتهاكات الخصوصية المحتملة من قِـبَـل كل المنصات الرئيسية الكبرى.

لكن التأثيرات الأشد ضررا التي تخلفها شركات التكنولوجيا الضخمة على النمو الاقتصادي ورفاهة المستهلك قد لا تكون نابعة من "الممارسات المانعة للمنافسة والإقصائية" بقدر ما تنبع من دورها في توجيه التغير التكنولوجي على نطاق أوسع.

من الجدير بالذكر أننا نستطيع دوما توجيه وقتنا ومواردنا واهتمامنا بشكل مختلف في تطوير ونشر التكنولوجيا. وبوسعنا أن نواصل الاستثمار في التكنولوجيات التي تساعد المديرين والمهندسين والمهنيين المهرة، أو يمكننا بدلا من ذلك أن ندفع في اتجاه تكنولوجيات تعمل على تمكين العمال من ذوي المهارات المتدنية. كما يمكننا استخدام درايتنا وخبراتنا الحالية لتحسين كفاءة توليد الطاقة بإحراق الفحم، أو يمكننا توجيه انتباهنا إلى مصادر طاقة أنظف مثل الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح. وبوسعنا توجيه البحث في الذكاء الاصطناعي نحو أتمتة العمل وتحسين تكنولوجيا التعرف على الوجوه والمراقبة، أو يمكننا استخدام ذات التكنولوجيات الأساسية لزيادة الإنتاجية البشرية وتعزيز الاتصالات الخاصة الآمنة والخطاب السياسي القائم على الحقائق والخالي من التلاعب والاستغلال.

الواقع أن عدة عوامل ستحدد أي البدائل يجب أن تحظى بأكبر قدر من اهتمام الباحثين والشركات. بطبيعة الحال، يؤثر حجم سوق التكنولوجيات الجديدة بشكل كبير على أولئك القائمين على اتخاذ القرارات الاستثمارية داخل الشركات الساعية إلى تحقيق الربح. لكن احتياجات ونماذج أعمال ورؤى الشركات التي تقود الإبداع التكنولوجي ربما تكون محددات أكثر أهمية للاتجاهات الأعرض.

عندما هيمنت شركة ميكروسوفت على سوق أجهزة الكمبيوتر الشخصي باستخدام نظام التشغيل ويندوز في تسعينيات القرن العشرين، لم يكن لديها أي حافز للاستثمار في أنظمة تشغيل بديلة أو منتجات لا تتكامل بشكل جيد مع نظام التشغيل ويندوز. على نحو مماثل، من غير المرجح أن تدفع شركات وادي السليكون العملاقة في اتجاه إنتاج تكنولوجيات من شأنها أن تلتهم أرباحها، تماما كما لم تكن شركات النفط لتصبح قَـط أول من يتحرك في اتجاه الطاقة الخضراء التي تتنافس بشكل مباشر مع الوقود الأحفوري. وليس من المستغرب، عندما تتقدم شركات مثل فيسبوك، وجوجل، وأمازون، ونتفليكس لإظهار الريادة التكنولوجية، أن تفعل ذلك في المجالات التي تتوافق مع مصالحها ونماذج أعمالها الخاصة.

علاوة على ذلك، نجد أن كلا من هذه الشركات مدفوعة ليس فقط بمصادر إيراداتها الحالية ومحافظ منتجاتها بل وأيضا برؤيتها الأوسع. يجلب الفريق التنفيذي في كل شركة نهجه الخاص، وخصوصياته الفردية، واهتماماته إلى عملية الإبداع والابتكار. كانت أجهزة مثل iPod، وiPhone، وiPad، من منتجات نهج المؤسس المشارك لشركة أبل، ستيف جوبز، في التعامل مع الإبداع، وعلى هذا فلم يكن من الممكن محاكاته من قِـبَـل غيره من كبار اللاعبين. جاء رد شركة ميكروسوفت على النجاح العالمي الذي حققته أجهزة iPod بإنتاج جهاز Zune player ــ الذي كان فشلا كارثيا نادرا ما يتذكره أحد.

بطبيعة الحال، لا حرج في أن تدفع الشركات الناجحة برؤاها الخاصة. ولكن عندما تصبح وجهة نظر شركة بعينها اللعبة الوحيدة المتاحة فسرعان ما تأتي المشاكل. تاريخيا، تحدث أعظم التطورات التكنولوجية عندما تقوم شركات عديدة عبر العديد من القطاعات بتجربة أفكار مختلفة.

لا تكمن المشكلة اليوم فقط في أن شركات التكنولوجيا الضخمة تنامت إلى أحجام هائلة إلى الحد الذي جعل استثمارها في مشاريع البحث والتطوير يحدد الاتجاه العام للتغير التكنولوجي. بل تتلخص المشكلة في أن جميع القوى الأخرى في السوق ليس لديها خيار آخر سوى جعل منتجاتها وخدماتها قابلة للتشغيل البيني ــ فتصبح بذلك معتمدة على المنصات الرئيسية وتابعة لها.

تشير تقديرات معهد ماكينزي العالمي، في ما يتصل بالبحث والتطوير، إلى أن قِلة فقط من أكبر شركات التكنولوجيا الأميركية والصينية تمثل ما يصل إلى ثلثي الإنفاق العالمي على تطوير الذكاء الاصطناعي. علاوة على ذلك، لا تتشارك هذه الشركات في رؤية مماثلة لكيفية استخدام البيانات والذكاء الاصطناعي (الأتمتة الـمـزيحة للعمالة ووسائل المراقبة، في الأساس) وحسب، بل وتؤثر أيضا بشكل متزايد على مؤسسات أخرى، مثل الكليات والجامعات التي تلبي احتياجات عشرات الآلاف من الطلاب الساعين إلى الحصول على وظائف في شركات التكنولوجيا الكبرى. الآن يوجد أيضا باب دوار بين مؤسسات التعليم العالي الرائدة ووادي السليكون، حيث يقدم كبار الأكاديميين غالبا استشاراتهم لصناعة التكنولوجيا أو يتركون مناصبهم أحيانا للعمل لديها.

من السهل أن ندرك كيف أن الافتقار إلى التنوع في البحث والتطوير أعظم تكلفة عندما نضع في الاعتبار العديد من التكنولوجيات والمنصات البديلة التي كانت لتصبح مفتوحة لنا جميعا لولا ذلك. بمجرد وضع كل البيض في سلة واحدة، تميل نوافذ الفرص المحتملة الأخرى إلى الانغلاق، لأنها تصبح غير قادرة على المنافسة.

يُـعَـد تطور تكنولوجيات الطاقة مثالا واضحا في هذا السياق. كان خفض الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي ليصبح في حكم المستحيل قبل ثلاثة عقود من الزمن، ولا يزل يمثل تحديا إلى يومنا هذا، لسبب بسيط مفاده أن قدرا كبيرا من الموارد استُـثـمِر في إنتاج الوقود الأحفوري ومرافقه، ومَـركَبات الاحتراق الداخلي، وكل البنية الأساسية المرتبطة بها. واستغرق الأمر ثلاثين عاما من إعانات الدعم وغير ذلك من الإغراءات لتمكين الطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية من اللحاق بالركب. الواقع أن قدرة هذه التكنولوجيات على التفوق في المنافسة بشكل متزايد على الوقود الأحفوري في العديد من السياقات تشهد على ما يمكن تحقيقه من خلال السياسات لدعم منصات بديلة مرغوبة اجتماعيا.

مع ذلك، نادرا ما تكون إعادة توجيه التغير التكنولوجي مهمة سهلة، لأنها تتطلب نهجا متشعبا متعدد الجوانب. إن الحد من حجم الشركات الرائدة أمر مهم، لكنه ليس كافيا. فرغم أن قِلة قليلة من الشركات تمثل 25% من قيمة سوق الأسهم الأميركية، فإن تفكيك فيسبوك، وجوجل، وميكروسوفت، وأمازون لن يكون كافيا لاستعادة التنوع الضروري للإبداع العريض القاعدة. هناك احتياج أيضا إلى شركات جديدة تحمل رؤى مختلفة، وحكومات راغبة في استرجاع دورها القيادي في تشكيل التغير التكنولوجي. الحق أننا لا نزال قادرين على دفع التكنولوجيا في اتجاه تمكين العمال، والمستهلكين، والمواطنين، بدلا من بناء دولة مراقبة مجردة من الوظائف الجيدة. لكن الوقت ينفد سريعا.

* دارون أسيموغلو، أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، مؤلف مشارك (مع جيمس أ.روبنسون) بعنوان لماذا تفشل الأمم: أصول القوة والازدهار والفقر والممر الضيق: الدول والمجتمعات ومصير الحرية
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق