q

تُبنى البلدان بالآباء، يولدُ الأبُ طفلا، يفتح عينيه على أبويْه، يتعلم منهما كل شيء، يتأثر بهما، شخصيته تُبنى تحت تأثير الآباء، هو يكبر مع الزمن، يقترن بامرأة، ينجبان أطفالا، وهكذا، هي سلسلة الحياة المعروفة للجميع، ولكن يبقى دور الأب فيها هو الدور الرئيس، فإذا أتقن الآباء أدوارهم، وأحسنوا التأثير إيجابا في أفكار وسلوك أولادهم، عند ذاك سوف نحصل على بلد (دولة، حكومة، أرض، شعب) رصين، فالأب في حقيقة الامر مسؤول عن بناء البلد، والمسؤول هو أب في الوقت نفسه.

لماذا نطلق على المسؤول وصف الأب؟؟، وهل يستحقه فعلا؟ في الحقيقة أن أي مسؤول في الدولة هو أب، وأنه يستحق هذا الوصف تماما، علما ان هذه الصفة قد تضاعف من مسؤوليات المسؤول ازاء نفسه والاخرين معا، فعندما تكون بموازاة ومرتبة الأب، عند ذاك تترتب عليك مسؤوليات كبيرة جدا توازي مسؤولية بناء البلد، من هنا جاءت أهمية المسؤولين عن ادارة الشؤون السياسية والاقتصادية والعلمية والصحية والاجتماعية للبلدان.

إنهم بصريح العبارة لا يختلفون عن الآباء بشيء، ولذلك إذا وجدتَ بلدا متقدما فسوف تجد أسباب النجاح في (الآباء المسؤولين)، إنهم من يقف وراء هذا النجاح لسبب بسيط، أن هؤلاء المسؤولين (الآباء) هم الأكثر حرصا من غيرهم على البناء الجيد للدولة وللشعب، وهم الاكثر حرصا على البناء الفكري والمادي لأبنائهم جميعا، هكذا يحدث في الدول المتقدمة، إذ لا يمكن أن تجد دولة متطورة بآباء ومسؤولين فاشلين، نعم هذه المعادلة غير قابلة للشك او النقاش، لدرجة يمكن القول، (اعطني مسؤولا ناجحا أعطيك دولة متقدمة) على غرار المقولة ذائعة الصيت (اعطني خبزا ومسرحا، أعطيك شعبا مثقفا)، وطالما كان المسؤول أباً، فيمكن بالاستعاضة أن نقول (اعطني أباً ناجحا أعطيك دولة متطورة)، وهذا التشابه في الادوار بين الآباء والمسؤولين، هو الذي يجعل من دورهما واحدا متشابها، وله التأثير نفسه في بناء الدولة والمجتمع معا.

هذه هي بالضبط مكانة المسؤول الحقيقية، إنه المسؤول الأب، وهو الأب المسؤول عن النتائج مهما كان نوعها او شكلها، وهو في هذا الحالة الرقم واحد في تحمّل نتيجة نجاح او فشل الدولة، بمعنى أكثر وضوحا، إذا وجدت دولة ناجحة فهذا يعود الى نجاح مسؤوليها آباؤها في الحصول على هذه النتيجة، ويصح العكس تماما، وليس أمامنا تفسير آخر!، قد يقول بعضهم، هناك ظروف واحداث وتأثيرات أخرى كثيرة تتدخل في نجاح أو فشل الدولة، وهو امر لا احد يعترض عليه، ولكن بالنتيجة او في آخر المطاف يبقى المسؤول هو الاول في تحمّل المسؤولية.

السؤال هنا، هل يشعر المسؤول العراقي بهذا الشعور فعلا؟، إن هذا السؤال موجّه الآن الى جميع المسؤولين العراقيين الذين يقودون الدولة العراقية ويديرون شؤون شعبها، هل يشعرون أنهم آباء ومسؤولون فعلا؟، وهل يؤمنون بأن نجاح او فشل الدولة يرتبط بأدائهم، أم أن شعورهم يرتبط بحدود ذاتية تعتني بالفوائد والامتيازات التي لا تتجاوز شخوصهم وعائلاتهم؟، إذا كان تفكير المسؤول يقف عند هذا الحد، فإنه يكون قد فقد صفة الأب، بل وفقد صفة المسؤول (الشريف)، لأنه في هذه الحالة سوف يفتقد لشرف هذه المسؤولية الكبرى التي تتعلق بأشرف مهمة، ألا وهي بناء الدولة والمجتمع، والمشكلة الأكثر خطرا في هذه الحالة، أن المسؤول الأب سوف ينقل سلوكه وتفكيره هذا الى أبنائه!.

بمعنى أننا سوف نحصل على مسؤولين جدد متأثرين بالمسؤولين الذين سبقوهم، وهكذا تبقى الدولة تدور في فلك (المسؤولين الفاشلين) الذين يهتمون بمصالحهم فقط، وطالما ان الأبناء يتأثرون بهم، فإنهم لن يكونوا افضل من آبائهم او المسؤولين الذين سبقوهم في ادارة شؤون البلد، وبهذا يكون العراق والعراقيون في مأزق حقيقي، يتمثل بغياب المسؤول الواعي الشريف، وهذا يعني بالنتيجة اننا نواجه استحالة بناء الدولة الناجحة، لسبب واضح، أن المسؤول العراقي لا يعبأ بقضية بناء الدولة ولا بمصالحها او مصالح الشعب، لذلك فهو مثلا لا ينظر لمستقبل الدولة ولا لحاضرها، ولا يهمه من بعيد او قريب ما ينتجه الابناء، وما يتعرضون له من تهميش واقصاء لمواهبهم وقدراتهم، بل هناك مسؤولون عراقيون طاردون لأبنائهم بدلا من أن يضعوا أقدامهم على الطريق الصحيح في بناء الدولة وادارتها.

ولهذا فإن المسؤول الطارد للأبناء، هو المسؤول الذي يفكر بنفسه وذويه فقط، وهو من يسعى لحماية وزيادة مصالحه فقط، وهو الذي لا يبدي حرصا على بناء الدولة، لأنها بصريح العبارة لا تهمه أصلا، بمعنى أن هذا النوع من المسؤولين الطاردين لأبنائهم، لا تهمهم الدولة فشلا او نجاحا، لأنهم لا يرتبطون معها مصيريا، ولا يعنيهم وجودها أصلا، هذا هو التفسير الأقرب الذي يقف وراء عدم اهتمام المسؤولين في بناء الدولة، من خلال عدم الاهتمام في بناء الابناء.

أما كيف يكون المسؤول طاردا لأبنائه، فهذا يحدث عندما نحرم الابناء من تكافؤ الفرص، ونفضل بعضهم على بعض، ليس على أساس المؤهلات والمهارات والقدرات، بل على اساس القرابة والمحسوبية والحزبية المقيتة، بصريح العبارة هناك مسؤولون لا يصلحون لحمل شرف هذه (الصفة والكلمة)، وهي التي تعني بناء الدولة والمجتمع حاضرا ومستقبلا، بحرص لا يقل عن حرص الأب الحقيقي الناجح.

فالمسؤول الذي يسعى لبناء الأبناء إنما يسعى في الحقيقة لبناء الدولة، وعندما يحدث العكس ويصبح المسؤول طاردا لأبنائه ومهملا لهم، فهو في هذه الحالة يقف بالضد من بناء الدولة التي لا تهمه أصلا قضية بنائها، لذلك يحتاج العراق الى مسؤولين شرفاء (آباء بمعنى الكلمة)، يرعون أبناءهم ويعدّونهم للحاضر والمستقبل كقادة ناجحين، ويوفرون لهم الفرص التي يستحقونها، ولا يهملونهم في أي حال من الاحوال، بل يبدون لهم ما يكفي من الحرص على الدولة والمجتمع وعليهم، كأبناء ناجحين مهمتهم الأولى والأهم بناء الدولة المدنية المتطورة.

اضف تعليق