q
ان الوصول الى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع او الانتفاضة الشعبية او التنازل عن الحكم وغيرها من الطرق المعروفة لا تعطي الحق لمن تسنم هذا المنصب ان يمارس التفرد في الحكم او العنف ضد الاخرين او الاستبداد لأنها ستعجل في النهاية سقوطه المبكر من دون...

مقدمة

لم يشهد العراق طوال عقود من الزمن أي استقرار سياسي او اقتصادي او اجتماعي او ثقافي يمكن ان يؤشر لمرحلة متقدمة في طريق بناء دولة مؤسسات وحريات ونظام استشاري (ديمقراطي) مستقر يراعي الحقوق ويحفظ كرامة المواطن ويحقق الحياة الكريمة للجميع.

بل حتى نظام الحكم الذي قام بعد عام (2003) شابه الكثير من الإخفاقات ونقاط الضعف التي فاقمت المشاكل التي يعاني منها العراق في الأصل وبالتالي كانت الحاجة الى إعادة التفكير مرة أخرى في الأسباب التي أدت الى تفاقم هذه المشاكل بدلاً من حلها من جهة، وما هي الحلول الحقيقية التي يمكن ان تساهم في وضع البلاد على السكة الحقيقية للنجاح والتقدم لتخليصه من السير نحو ما يسمى (الدولة الفاشلة) التي لا يمكن ان تقدم أي خير لمواطنيها او للإنسانية عبر مشاركتها مع المجتمع الدولي.

لقد ألف سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) قبل أكثر من عقدين ونصف العقد كتاب اسماه (إذا قام الإسلام في العراق) قدم فيه مجموعة من الخطوط العريضة لمنهاج العمل الواقعي لتحقيق النجاح في تأسيس الدولة الاستشارية القائمة على مبادئ راسخة وثابته تستلهم روحها من روح القوانين والمبادئ والنظريات والأفكار التي طرحها الدين الإسلامي العظيم وطبقها بصورتها العملية والواقعية الرسول الكريم محمد بن عبد الله (صل الله عليه وآله وسلم) ومن اقتدى بهديه وسار على نهجه الكريم، مع ملاحظة ما يلي:

1. ان عنوان الكتاب وفكرته لا تحاول ان تفرض "الدين الإسلامي" بطريقة الاجبار او الاكراه بقدر ما هي قراءة في روح الإسلام وقوانينه السمحاء التي يمكن ان تخدم الجميع بلا استثناء: "عندما قام الإسلام كان أهم شيء في جذب الناس نحوه هو ما رأوا فيه من المثالية والواقعية واحترام الإنسان وتوفير حاجاته".

2. ان الكتاب يحاول توضيح الطريقة العملية التي أسس من خلالها الرسول الكريم (صل الله عليه واله) الدولة ومدى النجاحات التي حققها مع مراعاة عامل الزمن والتطور الحاصل في الوقت الحالي: "لابد من اتخاذ نفس المنهج الذي عمل به الرسول في تطبيق الحكم مع ملاحظة عامل الزمن".

الوصول للحكم

الرحمة المطلقة التي عامل بها الرسول الكريم (صل الله عليه واله وسلم) اعداءه قبل محبيه هي من أبرز الدعائم التي مكنته من تأسيس دولة العدل الإلهي: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) ال عمران:159، التي أراد من خلالها توضيح مفهوم وطريقة حكم الناس ورعاية امورهم التي لا تعني ان تكون سيفاً مسلطاً على رقابهم بقدر ما تعنيه من تطبيق مبادئ الرحمة والعدل والعفو وحسن الخلق واللاعنف والشورى بينهم ورؤية أثارها الكبيرة في نفوسهم واعمالهم ولو بعد حين.

ان الوصول الى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع او الانتفاضة الشعبية او التنازل عن الحكم وغيرها من الطرق المعروفة لا تعطي الحق لمن تسنم هذا المنصب ان يمارس التفرد في الحكم او العنف ضد الاخرين او الاستبداد لأنها ستعجل في النهاية سقوطه المبكر من دون ان يكون له ناصر او عون: "فالحكم الذي يوغل في قتل الناس ويتورط في دمائهم يبدأ العد العكسي لسقوطه، فإن الناس لا يصبرون على قتل أولادهم وإخوانهم وآبائهم وذويهم وأصدقائهم فيأخذون في ذم القاتل وترصد عثراته وينصرفون إلى هدم كيانه وإسقاط شرعيته وإثارة الرأي العام ضده فالحكم الذي لا يقوم على ولاء الشعب يفقد مقومات البقاء".

التحطم والفناء

ينبغي ان يدرك الحاكم ان أقصر الطرق لتحطم حكمه وفناء اسمه وتاريخه هو استخدام العنف والإرهاب الحكومي في سفك دماء الناس: "إن إراقة الدماء تقود الحكم نحو التحطم والفناء إن لم يكن في القريب ففي البعيد"، ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير، فالقليل يتراكم حتى يصبح جبل من الخطايا التي لا مفر منها الا بنهاية حكم الديكتاتور التي غالبا ما تكون بطريقة مأساوية ودامية ايضاً: "وسقوط الحاكم المتلوثة يده بدماء شعبه يبدأ من جرائم متناثرة.. فقتل هنا وقتل هناك وهكذا تتراكم حتى يسقط الحكم".

ان العنف لا يولد الا العنف، بينما تنتج بذور الرحمة والعدل كل الخير والسعادة والنجاح، والدلائل على ذلك اثبتتها الكثير من الشواهد التاريخية، وقد لخصها الامام الراحل الشيرازي بقوله: "لقد أثبت التاريخ قديماً وحديثاً أن الدولة التي تتخذ الإرهاب والقمع وسيلة لإرساء قواعد حكمها، سوف تسقط في نفس المستنقع الذي أوجدته بيدها، فالعنف يولد عنفاً مضاعفاً، وهكذا تسقط الدولة، التي من المفروض أن توجد الأمن والاستقرار، في دوامة الاضطرابات والانقلابات والمجازر الدموية، كما رأينا ذلك في الأنظمة العراقية التي وصلت إلى الحكم بالانقلابات العسكرية، وبدأت إرهاباً منظماً ضد الشعب العراقي بالتهجير والإعدام والاغتيال والتعذيب والسجن، ولكن هذا العنف انعكس على أنفسهم فأخذوا بتصفية نفس الأعضاء الذين شاركوا في الجرائم.. وهكذا فإن العنف يأكل نفسه أولاً قبل غيره".

عدم التلوث بالدم

لقد وضع المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي مجموعة من القواعد العامة للمحافظة على نزاهة وبراءة النظام والحاكم من التلوث بالدماء واحترام حرمة دم الانسان التي توازي في عظمتها وحرمتها دم جميع البشرية على وجه الأرض، واعتبر السيد الشيرازي هذا الدم هو من سيساهم وبسرعة في سقوط الحاكم ونظامه الاستبدادي لأسباب منها:

1. ان القتل سيزيد من حقد الناس ضد من قتل أولادهم وابائهم وسيسعون الى تقويض شرعية الحاكم وتأليب الراي العام ضده.

2. القتل ليس طريقة في حل الأمور وتحقيق الاستقرار حتى بالنسبة لمن ثبت جرمه، بل حل المشاكل والبحث عن جذورها بطريقة هادئة وبعيدة عن العنف: "لابد أن تحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بصورة جذرية، فلا يمكن أن نقضي على السرقة مادام الفقر متفشياً، فالدولة المتزنة والمتعقلة هي التي تعالج مشاكلها بصورة هادئة بعيداً عن الإجراءات العنيفة والارتجالية".

3. فقدان الشعبية التي قد يتمتع بها الحاكم ونظام حكمه ستزول في حال اوغل الحاكم في دماء رعيته، وبالتالي سيفقد ركنا أساسيا من اركان شرعية حكمه وسينقلب الجميع ضده ويتحولون الى اعداء له: "إن الدولة تحتاج إلى أكثر قدر من الالتفاف الشعبي والشرعي حولها ومعاونتها والدفاع عنها.. فإذا لم يتحقق ذلك كانت في طريق الزوال فكيف إذا انقلب الأمر فصار الأعوان أعداءً والأنصار خصماء".

التوصيات

جملة من التوصيات طرحها الامام المرجع السيد محمد الشيرازي خصصها لمن يصل الى الحكم وهو يرغب في بناء دولة لا تقوم على القتل والتعذيب وسلب الحقوق ومصادرة الحريات نستعرض بعضها في النقاط التالية:

1. عدم إراقة الدماء مطلقاً ولأي سبب وتحت أي ظرف كان فان اراقتها سيتسبب في زوال الحكم وبداية العد العكسي لسقوط الحاكم.

2. لا يجوز استخدام القانون في تصفية الخصوم من أي جهة كانت (حزب سياسي، جماعة دينية، جماعة عرقية او اثنية، معارضة...الخ)، "حيث إن هذه الجرائم والمجازر وإن حصلت تحت مظلة القانون عبر تشكيل المحاكم الصورية التي ظاهرها القانون والعدالة وحفظ النظام وباطنها تعبيد الطريق للحاكم وأعوانه وتثبيتهم في الحكم أكثر فأكثر"، والحقيقة (كما يشير اليها المرجع الراحل) انهم واهمون في بقاء حكمهم بهذه الطريقة البشعة التي ستعجل في سقوطهم.

3. متى ما تحولت الدولة من حامي للمواطن الى سبب في إراقة دمه وقتله على الشبهة والظن فإنها ستفقد الدعم الشعبي والناصر لها ضد اعدائها، وبالتالي سقوطها السريع نحو الهاوية، (ولعل من ادل الشواهد على هذا الامر سقوط نظام البعث في العراق (2003) وعزوف الشعب عن نصرته بسبب جرائمه ضد مواطنيه).

4. في حال اضطرت الدولة الى اتخاذ إجراءات عقابية ضد مواطنيها فينبغي ان لا يتعدى الامر السجن او الغرامة البسيطة ووفق ضمانات إنسانية عادلة: "فإذا اضطرت الدولة إلى استخدام القوة في تطبيق القانون فاللازم ألا يعدو ذلك السجن في الموارد الخاصة القليلة جداً وبعض الغرامات البسيطة وذلك عبر المحاكم الشرعية والإنسانية التي توفر جميع الضمانات الحقوقية لإجراء العدالة"، والسبب في ذلك ان الإسلام لا يبحث عن عقوبة للإنسان بقدر اهتمامه بالبحث عن جذور المشكلة ومعالجتها.

5. منع استخدام أساليب الإرهاب والقمع والتعذيب والفضائح وغيرها من الوسائل غير الإنسانية في مصادرة حقوق الموطن وحرية التعبير عن الرأي وسلب ارادته: "ومما يضعف الدولة أيضا: تعذيب الناس وإرهابهم ونشر فضائح واقعية أو مزعومة لهم ومصادرة أموالهم، إلى غير ذلك مما هو كثير".

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2020Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق