q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

كيف تنشأ الديكتاتوريات؟

كيفما تكونوا يولّى عليكم

جو الدكتاتور يسبب تكثير الانتفاضات والانقلابات لعدم استقامة المجتمع، سواء كانت الدكتاتورية من وحي الخارج كما نشاهده في العالم الثالث المعاصر، حيث أن الحكومات الاستعمارية تسبب الثورات والانقلابات في هذا العالم المتخلف، أو بأسباب داخلية من جهة عدم توزيع القدرة، بينما نرى عكس ذلك في المجتمع المتقــدم...

ومن الواضح أنه كيف ما كانت الحكومة كانت أخلاق أغلبية الناس حيث ورد (إذا تغير السلطان تغير الزمان)(1) لأنها توجه الحياة حسب رغبتها وعكسه أيضاً صحيح، حيث ورد (كما تكونوا يولى عليكم)(2) لأن الغالب أن الحكومات تظهر من نفس الشعوب فإذا كانت الأمة خائنة أو كاذبة أو منافقة يظهر منها بعض أفرادها الذين هم بنفس تلك الصفات وإذا ظهرت أخذت في توسيع رقعة الخيانة والكذب والنفاق. والعكس صحيح أيضاً فالحديث الأول قضية الأسوة والثانية قضية الطبيعة.

ولعل الحديثان المشهوران يشيران إلى بعض صغريات هذا الأمر فقوله (صلى الله عليه وآله): (السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه)(3) يراد أن على وتيرة الأم يخرج المولود، فإن كانت سعيدة في سلوكها وأخلاقها ودينها كان المولود كذلك والعكس أيضاً صحيح فهو من قبيل (الولد سر أبيه).

والحديث الثاني (الجنة تحت أقدام الأمهات)(4) يراد أن الولد يسقط عن بطن الأم عند قدمها كيف ما كانت الأم من أهل جنة أو نار يكون الولد كذلك، فهو كناية مثل: المريض مريض في بطن أمه، والصحيح صحيح في بطن أمه، حيث أن الأم المريضة لا تنجب إلا الطفل المريض، وهكذا العكس بالنسبة إلى الأم الصحيحة والولد الصحيح، وكذلك حينما يقال: (فلان عند قدم فلان) أي على شاكلته.

وقد ألف (براساد) رئيس جمهورية الهند السابق كتابه (عند قدمي غاندي) لهذه الغاية هكذا ربما يفسر الحديثان وربما يفسران بآخر ليس هنا محل تفصيل الكلام في ذلك.

وعلى أي حال فالحكومة وليدة الشعب والشعب يمشي باتجاه الحكومة.

الانقلابات العسكرية والشعبية الدكتاتورية

الانقلابات العسكرية مرفوضة جملة وتفصيلاً، فإن الانقلاب ولو تذرع بألف ذريعة ليس إلا سبباً لتدهور أحوال الشعب إلى الأسوأ، وليس ذنب الشعب في حوادث الانقلاب العسكري بأقل من الانقلابيين، حيث أن جماعة من الجيش لا يتمكنون من الاستيلاء على الشعب إذا لم يصفق لهم الشعب، فإذا استولى جماعة من العسكريين على الحكم كان اللازم أن يرفضهم الشعب، ويعاملهم معاملة اللصوص ويقدمهم للمحاكمة.

وكلما رأينا من الانقلابات في أفريقيا وآسيا وغيرهما وجدنا أنها لم تزد الأمة إلا سوءاً، وصار حالهم أسوأ مما كان قبل الانقلاب.

والمنطق ضد تصفيق الشعب لهم، إن الإنسان إذا أراد أن يستخدم خادماً لداره، لا بد وأن يحقق عن أحواله؟

فكيف يصفق الإنسان لمن لا يعرفه وهم يريدون السيطرة على نفسه وماله وعرضه؟

وقد رأينا أن الانقلابات العسكرية التي قامت باسم إنقاذ فلسطين كانقلابات العراق ومصر وغيرهما، لم تسبب لفلسطين إلا ضياعاً أكثر، وللشعب إلا تردياً أسوأ، والغالب أن الانقلاب العسكري يسبب انقلابات أخر، فهو يولد الانقلابات مما تدمر الشعب تدميراً كاملاً وغالب ما رأيناه من انقلاب كان غربياً أو شرقياً. فكانت أمريكا أو روسيا أو الصين أو بريطانيا أو فرنسا، تصافق جماعة من الأحزاب التي هي من صنائعها، أو من العسكريين الذين هم من عملائها للانقلاب، وذلك لأجل المزيد من امتصاص دماء الشعب، ونهب ثرواتهم، وتخريب بلادهم، وقتل وسجن وتعذيب، وإذلال مشايخهم وشبابهم وبالنتيجة تحكيم قبضة الاستعمار على البلاد أكثر فأكثر.

ولذا فمن الضروري تأليف مئات الكتب، لفضح الانقلابات العسكرية، والحيلولة دون حدوث انقلاب عسكري في بلاد الإسلام (بل في كل بلد) في المستقبل.

ثم إن كان الانقلاب العسكري حسناً فلماذا لا تدع الدول الغربية أن يحدث الانقلاب في بلادها؟

وإذا كان سيئاً فلماذا تسارع إلى الاعتراف بالحكومة الانقلابية (بحجة أنه حدث داخلي) في بلادنا؟

أليس ذلك لأجل أنهم هم الذين يأتون بالانقلاب، لتحكيم قبضتهم ثم يسارعون في الاعتراف به، ثم يحفظون القافزين إلى الحكم بالأعلام والسلاح والتخطيط وغيرها؟...

أنه من غير شك أن كثيراً من الحكومات التي قام الانقلاب ضدهم، كانت حكومات سيئة لكن من غير الشك أيضاً، أن حكومة الانقلاب أسوأ من تلك الحكومات... وعلاج سوء الحكومة ان يعي الشعب حتى يرفض الحكومة السيئة ويأتي بالحكومة الصحيحة، لا أن يقوم جماعة بتخطيط من المستعمر للانقلاب، ليهلكوا الضرع والــزرع، والذين يستجيرون من سوء الحكومة إلى الانقلاب العسكري، مثلهم كما قال الشاعر:

المستجير بعمــرو عند كـربته------كالمستجير من الرمضاء بالنار

أما أسباب الإنقلاب العسكري فهي:

1 - الفراغ السياسي في البلاد، حيث أن الجاهل دائماً ألعوبة بيد الدجالين وطلاب الشهوات.

2 - السخط العام على الحكومة، حيث أنه يهيئ لجماعة ولو صغيرة أن تتمكن - وبمباركة الناس - من القفز على الحكم.

3 - الهزيمة الحربية للحكومة سواء كانت هزيمة في حرب أهلية كما حدث لقاسم، حيث انهزم أمام الأكراد، بعد أن وقعت حرب أهلية في شمال العراق، أو هزيمة في حرب غير أهلية كالهزيمة في البلاد العربية أمام إسرائيل.

4 - الحروب الأهلية وانقسام البلاد وضعف الحكومة عن إنهاء الحرب (وإن لم تنهزم الحكومة) فإن الناس في أمثال هذه الحالة ينتظرون المنقذ، فإذا قفز جماعة على الحكم، باركوهم - عن لا وعي - زاعمون أنهم المنقذون.

5 - ارتطام البلاد في مشاكل سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، بسبب سوء تصرف الحكومة.

6 - المحافظة على النظام السابق، حيث أن أعضاء الحكومة، حينما يعرفون اهتزاز كراسيهم، وان التذمر بلغ مداه، يقومون بانقلاب عسكري صوري، من الموالين لهم لإنقاذ عروشهم، ولو بقدر، كما حدث في السودان، وباكستان.

7 - ضعف الاستعمار السابق، وقوة الاستعمار الجديد، حيث أن القوي يطيح بعملاء الضعيف كما أطاحت بريطانيا بداود خان الأمريكي (في أفغانستان) لتأتي مكانه بـ (ترقي) ثم أطاحت روسيا بترقي لتأتي مكانه بـ (ببرك) بالنتيجة ولا فرق بين أن يكون ضعف الاستعمار السابق ناجماً عن ضعف في حكومته، أو ضعف في إدارته تلك البلاد المستعمرة، فإن بريطانيا ربّت (ترقي) في الهند منذ عشرين سنة، وكونت له كياناً ليوم انقلابه على (داود) الأمريكي.

8 - ضرب الأمة الإسلامية في بلاد الإسلام حيث أن المستعمر يرى أنه لو ترك الأمر وشأنه، قويت القوة الإســلامية المترعرعة، وضربت مصالحه، فيأتي بجملة عملائه إلى الحكم فــي انقلاب عسكري، لينوب عنه في ضرب الحركة الإسلامية، كما حدث في العراق حيث قويت الحركة الإسلامية، فجاء البريطانيون بعبد الكريم قاسم، ثم بحزب البعث (لما يئسوا من قدرة قاسم على ضرب الحركة الإسلامية) وهؤلاء العملاء لم يألوا في ضرب وتبديد الحركة الإسلامية.

9 - إرادة الاستعمار ضرب القوى الوطنية في بلاد غير إسلامية كما حدث في بعض بلاد إفريقيا.

10 - حب السلطة والغلبة، كما يحدث نتيجة للصراعات العسكرية، فإن العسكر إذا تولى الحكم لا يقدر على حفظه، ولذا ينقلب عليه آخرون حباً للاستئثار بالسلطة...

ولا يخفى أن كل ذلك نابع عن جهل الشعب، ولذا لا يحدث انقلاب في بريطانيا أو فرنسا، أو حتى في إسرائيل الغاصبة، حيث إن شعوب تلك البلاد لهم من وعي الحياة قدر لا يسمح للانقلاب.

ثم إن هناك ثورات شعبية تفعل نفس فعل العسكريين من التدمير والتخريب، مثل هتلر وموسليني ولينين وماو وهوشي وكاسترو وأمثالهم، مما لم يكن عملهم إلا القتل والتدمير والتخريب وإدخال البلاد في حمامات من الدم، وتعميم الإرهاب في البلاد مما هو معروف.

وإنما تحدث مثل هذه الثورات إذا هاج الشعب من الفساد والخراب، ولم يكن لهم وعي كاف في كيفية الحكم، فيشترك الشعب جميعاً في الهدم، بدون خريطة مسبقة ومؤهلات لكيفية البناء، فيستغل جماعة من طلاب السلطة، جهل الشعب للاستيلاء عليه بالإرهاب سجناً وتعذيباً وإعداماً ومصادرة الأموال وخنقاً وكبتاً.

وعلامة هذا النوع من الحكومات (وحدة الحزب) مما يتبع وحدة الخط السياسي في البلاد، أعلاماً وشخصيات في كل السلطات، فإذا لم يكن في البلاد أحزاب سياسية متعددة (واللازم في بلاد الإسلام أحزاب سياسية إسلامية تحت شورى العلماء المراجع) فهو دليل على أن الثورة الشعبية الواسعة تحولت إلى قفز جماعة إلى الحكم، وإقصاء الآخرين بمختلف المعاذير والتهم، وتكون عندئذ مأساة البلاد...

وإلا فإن صَدَق الحاكم، في مثل هذه الحكومات، فلماذا لا يسمح للبحث الحر مع من يدعيه خصوماً للبلاد؟

والحال أن الحاكم القافز على الحكم (باسم الشعب) هو العدو للبلاد.

فعلى الأمة أن تعي حتى لا يقع انقلاب عسكري، ولا ثورة شعبية تنتهي إلى (سرقة جماعة للثورة) وإلا كان المصير الدمار والهلاك.

تكاثر الموت

يكثر الموت في ظل الديكتاتورية بأسباب جديدة، بالإضافة إلى الأسباب العادية التي توجد لكل إنسان كما قال الشاعر:

لـــه مــلك ينادي كل يـــوم-----لدوا للموت وابنـوا للخـــراب

وذلك:

1 - كالموت في جبهات الحرب التي يؤجج نيرانها الدكتاتور.

2 - والموت بالإعدام لأسباب عديدة يجعلها الدكتاتور.

3 - والموت بالاصطدامات من السيارات وغيرها لعدم قوة نظام المرور الذي يحول دون ذلك.

4 - والموت بالأمراض المختلفة لعدم الأدوية الكافية ولا الأطباء الحاذقين.

5 - والموت بالاغتيالات.

6 - والموت بسبب عدم توفر دور الولادة، والمولِّدات الكفوءات فيموت الأطفال وأمهاتهم أحياناً عند الولادة.

7 - والموت بالقصف.

8 - والموت بإسقاط الجنين من الخوف ونحو ذلك.

9 - والموت بسبب الفقر.

10 - والموت بسبب الانتحار لتراكم المشاكل.

بينما من الواضح أنه لا حاجة إلى الحرب، و لا وجه للإعدام، والتحسين في تربية السوّاق الفنيين وتحسين الطرق وجعل القواعد صحيحة للمرور توجب عدم الاصطدام، والأمراض المختلفة لا تهجم على الناس إذا نظمت برامج صحية للحياة، ولو هجمت أمكن علاجها، والاغتيالات إنما هي وليدة عداوات يمكن علاجها بالمحبة والأخلاق، بالإضافة إلى أن الاغتيالات التي يمارسها الدكتاتور ضد الناس لا تكون في الحكومات الاستشارية، وتأسيس دور الولادة يمنع من الموت عند الولادة والطلق، والقصف تابع للحرب وإذا لم تكن حرب فلا قصف وإسقاط الجنين ينتهي بإزالة أسبابه، وإزالة أسباب الإنتحار تؤدي إلى محوه، ولا فقر في المجتمع حتى يسبب الموت الناشئ عن الجوع وسوء التغذية.

تصاعد الاضطرابات العسكرية

كما أن جو الدكتاتور يسبب تكثير الانتفاضات والانقلابات لعدم استقامة المجتمع، سواء كانت الدكتاتورية من وحي الخارج كما نشاهده في العالم الثالث المعاصر، حيث أن الحكومات الاستعمارية تسبب الثورات والانقلابات في هذا العالم المتخلف، أو بأسباب داخلية من جهة عدم توزيع القدرة، بينما نرى عكس ذلك في المجتمع المتقــدم فإن الإيمان بنعيم الآخرة للمحرومين وانتشار الأخلاق في المجتمع وجود للجمعيات الإنسانية والدعاة والوعاظ والمرشدين وانفتاح الطريق أمام الكل للاغتراف من الاقتصاد، والسياسة، والعلم، والاجتماع، والتربية، وغير ذلك مما يوجب انعدام الحرمان القانوني وإنما التخلف الطبيعي المتدارك بالفضيلة وثواب الآخرة تجعل الناس راضين فلا تحدث ثورة ولا انتفاضة ولا أعمال تخريب.

ولا شك في صحة الأسس التي بنى عليها الاجتماع الذي يعيش في جو الاستشارية لأن الأخلاق تلائم الطبع، والدعوة إلى نعيم الآخرة تكون سلوة للإنسان بالإضافة إلى أنها واقعية، والحرية المتاحة لكل إنسان لا تدع مجالاً لتراكم الكراهة، والجمعيات الإنسانية في مختلف أبعاد الحياة من اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وغيرها ترمم الفاسد الممكن ترميمه واستقامة الحكم بالانتخابات الحرة تمتص النقمة فلا تستعد النفوس للانقضاض على الحكم، وإذا استقام الحكم توفرت في ظلاله سدّ الطرق الملتوية في وجوه طلاب الرئاسة من الانقضاض على كرسي الحكم بسبب الدبابات والسلاح، ولو فرض أن انقضت جماعة من العسكريين على الحكم لم يساعدهم الناس بل يؤخذون إلى المحاكم لتدينهم بسبب ما ارتكبوه من الجريمة وتعكير الأمن، كما حدث مثل ذلك في بعض البلاد الغربية.

إماتة روح القانون (من مآسي الديكتاتورية)

ثم من مآسي الدكتاتورية انحراف القانون أولاً من جهة الهدف فإنه ليس المحور حينئذ روح القانون بل جسم القانون الجامد والقانون إذا جمد أضر بالحقوق، بينما في القانون المستقيم، الناس يتعاملون حسب الروح لا حسب القانون، والسر أن القانون من ولائد الروح فإذا كان القانون مستقيماً وتعارض مع الروح كان المرجع الروح ولذا إذا رأى الناس أن إنساناً أثرى أكثر مما يمليه الروح كانوا أعداءً له وإن تذرّع بالقانون، وهكذا في سائر الشؤون قال سبحانه: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)(5) وفي الروايات الكثيرة: التأكيد على (الإنصاف) بمعنى أن يكون النصف لك والنصف الآخر لطرفك، لا أن يتحايل الشخص على القانون وتحت غطائه يجر الخير الأكثر إلى جانبه.

القانون لمصلحة الديكتاتور

ومن جهة أخرى إن القانون لا يوضع في ظل الحكومات الدكتاتورية لينتهي إلى خير الإنسان والإنسانية، بل لينتهي إلى نفع الدكتاتور ومن إليه.

ومن الواضح تناقض الطريقين. فمثلاً القانون الدكتاتوري يأتي بمن يصفق للدكتاتور، بينما القانون الإنساني يأتي بمن يراعي الإنسانية، ولذا نجد المحسوبية والمنسوبية تأتي بالموظفين في الحكومات الدكتاتورية، ومن الواضح أن المحسوبية والمنسوبية لا تتمكن من التقديم إلى الأمام، بينما نجد الكفاءات والمؤهلات هي التي تأتي بالموظفين في الحكومات الاستشارية.

وقد روي عن عيسى (عليه السلام) أنه أشار إلى هذا الموضوع بكلام جميل. فقال: (خلق السبت للإنسان ولم يخلق الإنسان للسبت) ولعل في الآية الكريمة إشارة إلى ذلك حيث قال سبحانه: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)(6).

ونشير إلى القصة التالية لإلقاء الضوء على ما نحن بصدده وهي:

أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أرسل عبد الله بن جحش في جماعة صغيرة من المسلمين لإستطلاع أخبار قريش، وقال له: ترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم. فمرت بهم عير لقريش تحمل تجارة عليها عمرو بن الحضرمي وكان يومئذ في آخر شهر رجب وهو من الأشهر الحرم. وذكر عبد الله بن جحش ومن معه ما صنعت قريش بهم وما حجزت من أموالهم وتشاوروا فيما بينهم كيف يتركون العير وفيها القتلة وأموال الذين سلبوهم أموالهم، فقال بعضهم لبعض: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردّدوا وهابوا الإقدام، ثم شجعوا أنفسهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم، ورمى أحدهم عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وأسر المسلمون رجلين من قريش في قبال أسر قريش رجلين منهم وهما سعد بن أبي وقاص الزهري، وعقبة بن غزوان، اللذين ذهبا يطلبان بعيراً لهما ضل فأسرتهما قريش. وأقبل عبد الله بن جحش بالعير والأسيرين ومعه المفرزة الإستطلاعية حتى قدموا المدينة على الرسول (صلى الله عليه وآله)، فلما رآهم الرسول وعلم بأخبارهم قال لهم: (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام) وأوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً حتى ينزل عليه الوحي، وأسقط في يد عبد الله بن جحش وأصحابه، وعنفهم إخوانهم من المسلمين بما صنعوا، وانتهز الكفار واليهود الفرصة فأثاروا ثائرة الدعاية: بأن محمداً (صلى الله عليه وآله) وأصحابه استحلوا الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم الحرام، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا الرجال، وحين ذلك نزلت الآية الكريمة، وفرح المسلمون بنزول القرآن بهذا الأمر، وقبض النبي (صلى الله عليه وآله) العير والأسيرين، فافتداهما منه قريش فقال: (لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا، فإنا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم) وقدم سعد وعتبة بعد إطلاق قريش سراحهما، وفداهما النبي (صلى الله عليه وآله) عن الأسيرين (في قصة طويلة مذكورة في التواريخ والسير)(7).

وقد ورد في الحديث (أن المؤمن أعز من الكعبة)(8) وذلك واضح لأن الكعبة وضعت للمؤمن، لا أن المؤمن وضع للكعبة.

الفوضى وقلة الإنتاج

ثم إنه لو ظهرت الدكتاتورية في أي بعد من أبعاد الحياة، سواء كان الإنتاج في يد قلة أو كان الاقتصاد أو الحكم أو الأرض كما في عهد الإقطاع، مما يؤول في آخر الأمر إلى كون القوانين بيد أولئك القلة وفي نفعهم (لأنهم يضغطون على المشرعين لتشريع القوانين النافعة لهم ومن الطبيعي أن تكون القوانين حينئذ في ضرر الجماهير) نجم عن ذلك أمران:-

الأول: إنه حيث تحس الجماهير بذلك لا تقدّم الإنتاج الممكن والنوع الجيد، لأنها لا داعي لها في الإنتاج حينما ترى أن حاصل جهودها يذهب إلى كيس غيرها خصوصاً الغير الذي تكرهه أشد الكراهية. ولا نقصد من الإنتاج فقط الإنتاج الزراعي أو الصناعي أو الاقتصادي أو ما أشبه، بل المراد الأعم من الإنتاج السياسي والاجتماعي وغيرهما أيضاً.

الثاني: حيث يوجب ذلك حرمان الأكثرية ينتهي بدوره إلى الفوضى ثم الثورة وهكذا دواليك. إلا إذا خرجت الأمور المذكورة عن الاحتكار وذلك لا يكون إلا بتوزيع القدرة في كل أبعادها بين الذين يتمكنون من القيام بمسؤولياتها.

وقود الاضطرابات

وحيث أن الطبقة المحرومة تتحمل المشاكل والحرمان، فهي أسرع المواد إلى الاشتعال في الثورات والانقلابات ولا ينفعها الوعود البراقة من أصحاب الامتيازات المتربعين على الحكم وخلف الدعايات المضللة، وإن أعباء الثورات والاضطرابات تقع على الطبقة المحرومة التي هي أكثرية الأمة، فإن كثيراً من الطبقة ذات الامتيازات كانوا بحماية القانون يهربون عن الجندية. وحتى الغارات الجوية التي كانت تحصد الأمة كانت تصيب الطبقة المحرومة التي لا تجد مهرباً إلى الأرياف والقرى، أما الحكام فكانوا يمتطون السيارات الفارهة ويذهبون إلى القصور الفخمة المرفهة التي بنوها أو استملكوها من الحكام السابقين، وإذا ذهبوا إلى الجبهات كان للرياء والشهرة وذكر أسمائهم وعرض صورهم في وسائل الإعلام، والدكتاتور وإن كان يقف أمام الراديو والتلفزيون ليمدح نفسه ويزكيها ويبرر أعماله، وكذلك يفعل المصفقون له، لكن الجماهير لا تنخدع بذلك إلا في وقت قصير وفي المثل المعروف: (إن الإنسان يتمكن أن يخدع بعض الناس في بعض الوقت، لكنه لا يتمكن أن يخدع كل الناس في كل الوقت).

الإعلام المرفوض

والناس من طبيعتهم عدم الاطمئنان بالخط الواحد وإنما يطمئنون إذا كانت هناك قوتان تقفان جنباً إلى جنب في وسائل الإعلام وتناقشان المواضيع والناس يسمعون إلى هذا وإلى هذا، ويحكمون أن الحق مع أيهما، وإذا صار لكل واحد أنصار (فرضاً) يلاحظ الناس الأكثرية، وإذا فرضنا التساوي بينهما تكون الأمة مخيرة في الأخذ بهذا أو بذاك أو يؤخذ بالإقتراع فلا ينفع مدح الدكتاتور لنفسه ولا ذمه لأعدائه ولا تصفيق الإمّعات له، وحتى إذا رأى الناس أعداء الدكتاتور يظهرون على شاشة التلفزيون ويعترفون على أنفسهم بالجرم فإن ذلك مما يثير الجماهير ضد الدكتاتور أكثر فأكثر ويفرون وينفضون من حوله ولا أدل على ذلك مما شاهده الناس من ستالين وعبد الكريم قاسم وعبد الناصر والبكر وصدام ممن كانوا يعذبون أعداءهم أشد أنواع التعذيب في الزنزانات والسجون، ثم يأتون بهم وهم منهــارون ومنهكو القوى أمام التلفزيون ليعترفوا على أنفسهم أنهم مجرمون وقتلة وجواسيس ومرتشون، وإلى غير ذلك مما في القوائم الطويلة من الجنايات ثم يطلبون من رئيس الدولة الدكتاتور الأوحد العفو والصفح، وإنهم إذا عفا عنهم في المستقبل يسبّحون بحمد الدكتاتور ويشكرونه.

الاعترافات التلفزيونية

مقتضى الدليل العقلي والشرعي أن كل اعتراف أمام التلفزيون أو الراديو أو على المسجلة أو حتى الكتابة بخط اليد ليس حجة إذا عرف الإنسان الظروف والملابسات فإنه كثيراً ما يضغط الدكتاتور على الشخص حتى يعترف لفظاً أو كتابة.

ومن الواضح أن الاضطرار مرفوع عقلاً وشرعاً فحتى إذا رأى الإنسان كتابة إنسان يعترف على نفسه بالجريمة وبخط يده يجب أن لا يطمئن بتلك الكتابة، ولذا قال الفقهاء (إنه لا اعتبار بالكتابة) هذا بالإضافة إلى إمكان (المونتاج) في التلفزيون وإمكان تجميع الصور والكلمات الصوتية أو الكتابية ثم أخذ التصوير منها لعرضها على المجتمع.

ومن الواضح أن كل اعتراف يؤخذ بسبب القسر والجبر ليس بحجة شرعاً ولا عقلاً، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الكتب الفقهية وفيها من الروايات ما استند إليها الفقهاء في ذلك ولا ننسى كيف أن (بيريا) جاء وراء الإذاعة الروسية واعترف على نفسه بأنه جاسوس لبعض الدول الغربية، وإنه مجرم ثم أعدمه ستالين الذي أجبره على تلك الاعترافات، وكذلك فعل ماوتسى تونغ في الصين، كما لا ننسى كيف أن رشيد مصلح الحاكم العسكري العام جاء أمام التلفزيون - في عهد أحمد حسن البكر- واعترف على نفسه بأنه مجرم ومرتشٍ للغرب وأنه أخذ خمسمائة دينار من الحكومة الأمريكية، لأجل تخريب البلاد مما أثار مضحكة عامة عند الناس، فإنه كيف يمكن أن يأخذ الحاكم العسكري العام الذي تحت يده الأموال الطائلة خمسمائة دينار لأجل أن يكون جاسوساً لأمريكا، وأخيراً أعدمه البعثيون حسب تلك الاعترافات. إلى غير ذلك من الصور المزرية للدكتاتوريين.

ملاحظة المعارضة

من طبيعة الدكتاتور أنه يدمر الحرية والمساواة والاستشارية داخل البلاد، لأنه يريد السلطة المطلقة، فإذا دمرها ولم يتمكن من أن يتحمل وجود هذه الأمور خارج البلاد، قام بإعلان الحرب على المعارضين له في الخارج، وحيث أن حكومته لا تتمكن من تصفية المعارضة في الخارج تقوى المعارضة الخارجية ضد الدكتاتور، مما يسبب الانتكاس له وسقوطه أخيراً، كما حدث مع هتلر وموسيليني وماو، والآن يحدث مع حكومة روسيا، وهكذا كان حال العراق أيام قاسم وعارف ومصر أيام ناصر وغيرهم من الدكتاتوريين الذين سقطوا بما فعلوه من التدمير في الداخل وأرادوا التدمير في الخارج.

مسجد يحول إصطبلاً!!

وهل يذكر التاريخ الإسلامي الطويل أن بناء المسجد يحتاج إلى الإجازة، أو الدولة تهدم المسجد بلا عذر، أو يؤجر المسجد كبيت أو يجعل المسجد إصطبلاً. وقد اتفق في كربلاء المقدسة أن مسجداً أجرته الدولة اصطبلاً فتحول المسجد اصطبلاً واشتهر به، لكن عُمّر بعد إنقاذه من الدولة وسمي بمسجد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) (وهو المسجد الكائن في العباسية الشرقية) ونحن لما أردنا بناءه وإنقاذه من هذه المشكلة أرسلنا بعض أصدقائنا إلى بغداد مرة ومرة ومرة وعشر مرات وعشرين مرة وثلاثين مرة وأربعين مرة وإلى خمسين مرة حتى تمكنا من تحصيل الإجازة لاسترجاع المسجد وتجديد بنائه، حتى أن وزير البلديات وكان اسمه (عباس البلداوي) قال لجماعة من أصدقائنا لما زاروه لهذا الشأن: (إنكم إذا تريدون محلاً لبناء السينما فذلك لا مانع منه أما إذا أردتم بناء المسجد فإنه لا قانون لنا يبيح هذا الشيء).!!

* مقتطف من كتاب (ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين) للمرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي

....................................................
1 ـ نهج البلاغة: الكتاب 31.
2 ـ كنز العمال: ج6، الرقم 14972.
3 ـ كنز العمال: ج1، الرقم491.
4 ـ كنز العمال: ج16، الرقم 45429.
5 ـ سورة الحشر: الآية 7.
6 ـ سورة البقرة: الآية 217.
7 ـ البداية والنهاية: ج3 ص248.
8 ـ بحار الأنوار: ج68 ص16.

اضف تعليق