q
هنا، الإصرار على تقديم الزعيم التركي بوصفه زعيماً لأمة المليار ونصف المليار مسلم، ومن دون منازع، وتصوير فوزه الانتخابي بـ\"النصر الإلهي\"... وهناك، يقف نصف الشعب التركي في موقع النقيض للحزب الحاكم وزعيمه، إذ بالكاد أمكن لـ\"العدالة والتنمية\" ورئيسه الحصول على 42 بالمائة من أصوات الأتراك...

كثرة كاثرة من الإسلاميين العرب، جعلت من تركيا العدالة والتنمية "نموذجاً" لها، ومن زعيمها "الكاريزمي" رجب طيب أردوغان "قدوة" و"إماماً"... ومن تابع كتابات هؤلاء وسجالاتهم التي سبقت ورافقت وأعقبت الانتخابات التركية الأخيرة، خصوصاً على وسائط التواصل الاجتماعي، ظن أن فجر "الخلافة" قد بزغ من جديد، وأن أردوغان استحق عن جدارة، لقب "خامس الخلفاء الراشدين".

"طوفان" الأدعية والابتهالات للرئيس وحزبه بالفوز على خصومه من علمانيين وملاحدة و"كماليين"، الذي فاض على صفحات "السوشيال ميديا"، أظهر حجم التعلق بالتجربة والرجل، وشكّل سدّا، حال ويحول، دون الانخراط في أي نقاش حقيقي حول التجربة والزعيم، بما لهما وما عليهما.

ولقد تكشّف هذا "الطوفان" عن جملة من المفارقات الصادمة، التي تَشِفُّ عن شقاء العقل "الإسلاموي" وضحالته... وتقدم الدليل تلو الدليل، على قدرة "الإيديولوجيا الشمولية المغلقة" على حجب الرؤية عن المصابين بها، وتعطيل أبصارهم وبصائرهم عن معرفة الحقيقة وتتبع خيوطها... بل إنها، عند الأشد غلواً منهم، تنتهي إلى بناء "عوالم افتراضية" منبتّة عن الواقع المُعاش، فيحل الحديث عن "تركيا المُتخيلة" محل الحديث عن "تركيا الواقعية"، وتصبح أية قراءة أو معلومة خارج هذا السياق الافتراضي، ضرباً من التآمر على الإسلام والمسلمين، وعملاً من أعمال "الاستكبار العالمي".

من هذه المفارقات الفجّة، اختلاق دوافع و"أسباب موجبة" لتعظيم التجربة التركية وتمجيد زعيمها، غير تلك التي يتحدث بها أصحابها ومناصروها من الأتراك أنفسهم... هنا، في المنطقة العربية، تجد الإصرار على تقديم التجربة بوصفها "إسلامية خالصة"، تستنهض "الأمة" وتؤسس لاستعادة مجدها التليد، وهناك، في تركيا، يجري تقديم جردة حساب شاملة، بالمكاسب والمنجزات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كسباً لتأييد الناخبين وطمعاً في أصواتهم.

هنا، الإصرار على هجاء "القومية" و"الوطنية" بوصفها مفاهيم "عصوبية" وافدة على الفكر والتراث الإسلاميين، ونقيض لمفهوم "الأمة الإسلامية الواحدة"... وهناك، يجري نسج عرى التحالف الوثيق مع الحركة القومية التركية، والتي من دون دعمها وأصوات ناخبيها وجمهورها، لما أمكن "للسلطان" أن يصبح رئيساً مطلق الصلاحيات، ولا لائتلافه الانتخابي أن يستأثر بغالبية مقاعد البرلمان.

هنا، الإصرار على تقديم الزعيم التركي بوصفه زعيماً لأمة المليار ونصف المليار مسلم، ومن دون منازع، وتصوير فوزه الانتخابي بـ"النصر الإلهي"... وهناك، يقف نصف الشعب التركي في موقع النقيض للحزب الحاكم وزعيمه، إذ بالكاد أمكن لـ"العدالة والتنمية" ورئيسه الحصول على 42 بالمائة من أصوات الأتراك أنفسهم، بعد احتساب الكتلة التصويتية للحركة القومية.

هنا، لا يتوقف الحديث عن تركيا بوصفها السد المنيع في وجه "الاستكبار الأمريكي/الأطلسي/ اليهودي"، فلا ينقطع سيل القصص والحكايات عن الانتصارات التي سجلها الحزب والزعيم في مسعاه لإحباط خطط "الصليبية الجديدة" ومؤامراتها، والانتصار للشعب الفلسطيني وحقوقه، والأمة الإسلامية ومقدساتها... وهناك، يتكشف الإصرار على توثيق عرى التحالف مع واشنطن، وإنجاز صفقة الـ"إف 35"، وإتمام تسوية "منبج"، وتعظيم مكانة تركيا في حلف "الناتو"، وزيادة معدلات التبادل الاقتصادي والتجاري والسياحي مع إسرائيل، حتى وإن تم ذلك، تحت سحابة كثيفة من الخطابات الغاضبة التي يتقنها السيد أردوغان ويشتهر بها.

هنا، تقام الدنيا ولا تقعد، ضد "صفقة الغاز" المبرمة بين إسرائيل والأردن على سبيل المثال، ويحظى مهرجان جرش للثقافة والفنون بحملة "مكارثية" تستخدم فيها كافة أسلحة الإفتاء الديني... وهناك، يضرب صفحاً عن نقل النفط من ميناء جيهان إلى ميناء عسقلان، والاستخدام التركي الكثيف لميناء حيفا وبرامج حفز السياحة الإسرائيلية إلى تركيا... كما أن أحداً لا ينبس ببنت شفه، عن "الدراما التركية" أو مرافق السياحة والترفيه الطافحة بكل ما يتنافى مع ما يعتقده "هؤلاء من ضوابط وقيود "شرعية".

هنا، يجري صب اللعنات بالجملة والتفصيل على مسار أستانا في الأزمة السورية، وتُنعت أدوار كل من روسيا وإيران بأقذع النعوت وأقذرها، مع إصرار متعمد على تجاهل دور "الضامن والشريك الثالث" في هذا المسار، تركيا، وأدواره في تأزيم وتأجيج الأزمة السورية، منذ بواكيرها الأولى... هناك، يجري توصيف المسألة على نحو مغاير، محكوم بالضبط بمعايير المصلحة القومية من جهة وشروط استمرار الحزب والزعيم في سدة الحكم والرئاسة من جهة ثانية.

هنا، تتجلى الدوغمائية بأبشع صورها، وهناك، تتجلى البراغماتية الميكافيلية، كما لم يحدث من قبل.

هي المفارقة الكاشفة والصادمة، عندما تتحدث عن "نموذج" لا تقتدي به، ولا تسعى في استلهماه حتى لا نقول إعادة انتاجه، أو عندما تتحدث عن "قدوة" لا تحتذي بها أو تسير على خطاها، من دون أن تلفت إلى التناقض والازدواج في الخطاب والممارسة، وإلى حالة "الانفصام" في العقل والتفكير والممارسة.

هي حالة "الخواء" المتفشية، فكرياً ومعرفياً وسياسياً" في أوساط هذا التيار، وهي حالة ممتدة إلى التيارات الأخرى على أية حال، حتى لا نتحامل على فريقٍ دون آخر، وهي الثمرة الطبيعية للبحث عمن يملأ الفراغ، حتى وإن تطلب الأمر، استحضار "الرمز" و"الزعيم" من خارج حدود الأوطان والقوميات... ولكم كان مؤسفاً أن ترى البعض من هؤلاء، يلهج بالدعاء لأردوغان بالفوز على أعدائه، أعداء الإسلام من الأتاتوركيين، ليواصل حربه من أجل تحرير سوريا والعراق من "الروافض" و"النصيريين".

وهو "الخواء" ذاته، الذي كان دفع بكثرة من هؤلاء، قبل عشرة سنوات أو أزيد قليلاً، لاستقبال تجربة العدالة والتنمية في بداياتها، بكثير من الشكوك والاتهامات (الإسلام الأمريكي)، قبل أن ينقبلوا بخفة على شكوكهم واتهاماتهم، ويتحولوا إلى "جوقة" من المسبحين بحمد "خماس الخلفاء الراشدين" والمبشر ين بفجر الخلافة الذي انبلج من اسطنبول أو يكاد.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق