q
ففي ظل التطور السريع الذي تشهده الساحة العلمية في مجال التكنولوجيا الرقمية، فان احكام السيطرة على الناشئة في مجال تحديد اتجاهاتهم الحياتية وترسيخ القيم والاخلاق، وغرس الطباع الحميدة، عملية بالغة الصعوبة، يستوجب مسك عصا التربية من المنتصف، لا التعنيف والقوة، ولا التهاون والتعامل برخاوة

"في امسيات الصيف الجميلة، كنا نخرج الى حديقة المنزل نجلس انا وزوجي على كراسي من قصب، يجتمع الاولاد من حولنا من يلعب ومن يدرس ومن يحكي لنا يومياته المدرسية، وفي ليالي الشتاء الباردة، نجتمع حول مائدة صغيرة الى جوار مدفأة نفطية بسيطة، كان الدفء يملأ المنزل، ننام على اصوات سقوط المطر، وتعويذة الجدة على رؤوس الاولاد".

ضيف يقتحم انسجام الاسرة

وفجأة...زارنا ضيف، ضيف غريب الملامح، متخفٍ يحمل الاف الوجوه، لا نعرف اسراره، ولا ندرك غاياته، يملك سلاحا ذا حدين، دخل شاهراً سيفه، قطع اوصال العائلة، وبعد فترة من الزمن،

جلست وحدي في باحة البيت، وحيدة اسيرة لخيالات قصص الماضي السعيد، ارافق قربي البعيد عن اولادي، وفي خلجات روحي حديث طويل، وقبل ان أغفو على ضجيج الصمت، تعالت الاصوات من خلف ابواب الغرف، ودوامات تدور متصادمة متجهة الى صالة البيت، عادوا الي والحزن يعلو وجوههم، وقبل ان اسال اتت الاجابة، لماذا لا توجد اشارة انترنت؟ يتحدثون فيما ابينهم، عادوا الى غرفهم، خرجت ابنتي الصغيرة، جلست الى جانبي وبدأنا نتحدث، ما ان علت اصواتنا، خرج البقية من عزلتهم.

منذ زمن لم نضحك او نجتمع هكذا، في هذا الجو غير المألوف من السعادة التي تغمرني، قاطعهم صوت الاب من غرفته: الانترنت يا اولاد لقد عادت الاشارة، كنت اشعر وكأنني في احتفال، وما انسحب الاولاد من حولي واحداً تلو الاخر، نهضت من مكاني وانا الملم بقايا الاحتفال واجمع في كأس الوحدة دموع الغربة داخل وطني، عائلتي، ونفسي، كانت هذه حكاية ام نرجس (38عاماً) من كربلاء، التي عانت وتعاني حالها حال كل العوائل والامهات، من الاثار السلبية من سوء الاستخدام للأنترنت.

الثقافة الرقمية

ادى دخول التكنولوجيا واستخدامها بكل تفاصيل الحياة، الى تسمية العالم اليوم بالعصر الرقمي، وان لهذا التطور السريع اثار ايجابية وسلبية، ودول العالم اليوم تسعى لتعزيز الايجابيات، اذ تشير احصائيات ريبل العالمية الى ان الطلبة والمراهقين الفئة الاكثر انجذاباً للتقنيات الالكترونية، حيث يقضون اكثر من ثمان ساعات يومياً في استخدامها، ما يشكل خطراً حقيقياً على نمط حياتهم، وفي ظل غياب الوعي للاستخدام السليم لهذه الادوات، مما يتطلب اهتماماً خاصاً، وتوعية بمضامين تحقيق الاهداف والاستفادة من هذه التكنولوجيا، او ما اطلق عليه نبيل علي وناديه حجازي بالثقافة الرقمية في كتابهما الفجوة الرقمية، وايجاد تناغم بين الالكترونيات ومتطلبات التربية، اذ يشكل محوراً اساسياً ومؤثراً من محاور تنشئة المواطنة الصالحة، فان الاسرة والمدرسة والعمل سلسلة متواصلة في غرس قيم التربية الصحيحة في نفوس الاطفال، وان هذا التكامل يساهم في مقاربة الفجوة بين اسس التربية والعالم الرقمي، مما يساعد في تنشئة اجيال تقودها الثقافة والتعلم وبالتالي بناء مجتمع آمن ورصين.

التربوي علي الجبوري يرى ان بحجة المعرفة واللحاق بركب التطور، اليوم يحج الابناء في اول اعمارهم الى المواقع الالكترونية، وفي الحقيقة هم يهربون من ضيق المنزل، ويصنعون لانفسهم فسحة من الحرية الوهمية، والتي قد يوهمهم البعض انها قد تكون في المواقع غير الاخلاقية، فينسحبوا اليها.

لتغير ذائقة الفرد الناشئ ولتكون نسخة من مصدر الرسالة الموجهة التي تستهدف قصم ظهر المجتمع بانحراف شبابه وبناء اجيال ضعيفة الايمان والعقيدة، العلة تكمن في التهاون الذي يتعامل به الاباء مع اولادهم، وان هذا التهاون يكفي لاحداث دمار داخل الاسر والتي تعتبر الخلية الاساس في بناء المجتمع.

ان قيادة العائلة وطريقة المعالجة للتغيرات هي من تحكم على البيت ان يكون روضة من رياض الجنة، او حفرة من حفر النار، فهو ليس مجرد جدران تحمي من الحر والبرد، اهدافه السامية تجعله الميدان الجهادي المركزي، التي تنطلق منه الرسالة الانسانية، لتعزيز الوعي المجتمعي، وزيادة الثقافة والتأكيد على المفاهيم التربوية الاخلاقية، لصناعة العقول السليمة، وبالتالي مجتمع ووطن سليمان، كما ان مراقبة المحتوى للمواقع التي يزورها الابناء يكون تحصيل حاصل، اذا لم تتم معالجة الادمان.

المرأة والتربية

يقول علماء التربية ان الاطفال يتأثرون بالسلوكيات التي يرون المحيطين عليها بنسبة 80%، اي انهم لا ينصاعون للأوامر والكلام لو تكرر مئة مرة وبسلوك مخالف، وان الخداع اسلوب يمارسه المربون عادة، وهو ما يخلق النقائض في نفسية الاولاد، الامر الذي يؤدي بهم الى العزلة عن العائلة، وهو مضايقوهم الى ملئ تلك الفجوة بأساليب مختلفة، اصدقاء السوء وتعاطي المخدرات، التدخين والادمان على الانترنت، تؤدي الى نتائج لا تحمد عقباها، الباحث الاجتماعي حسنين الفتلاوي اكد على الدور الرئيس في عملية التربية، بالرغم من انها تعيش يوميات صعبة، متعددة المهام، فهي تقع بين كماشتي الواجب والمسؤوليات، الا ان المرأة الواعية هي التي تلعب دور الام العاملة التي تضحي وتقاوم وتنشئ اجيالاً صالحين، لبناء مستقبل مجتمع واضح المعالم ومحدد الاتجاهات ومتمسك بالأخلاقيات.

اذ ان رسالة الامومة من اسمى الرسالات التي خطت بمداد الحرص والحب اللامشروط، وان التعاون بين قطبي العائلة الرئيسين هو ما يصنع التجاذب بالرؤى والافكار ويترجم بالأفعال، اذ ان التربية هي مسؤولية جماعية وليس فردية، فالأب هو جزء لا يتجزأ من العملية التربوية التي ترسم ملامح مستقبل الأجيال.

ففي ظل التطور السريع الذي تشهده الساحة العلمية في مجال التكنولوجيا الرقمية، فان احكام السيطرة على الناشئة في مجال تحديد اتجاهاتهم الحياتية وترسيخ القيم والاخلاق، وغرس الطباع الحميدة، عملية بالغة الصعوبة، يستوجب مسك عصا التربية من المنتصف، لا التعنيف والقوة، ولا التهاون والتعامل برخاوة.

الفتلاوي اشار الى اهمية مجالس الاجداد نهم الاخلاق والمعرفة، والتأثير الذي كنا نلمسه في عملية التربية للاجيال، اليوم اولادنا ينهلون من المصادر مجهولة الهوية، يتعلمون من الانترنت يلعبون على الانترنت، والاهم والاخطر ان التربية ياخذونها من الانترنت، العولمة الالكترونية هي مرتكز لمفترق طريقين، يحدد اتجاه اليافعين بالاعتماد على المقومات الاساسية للمزرعة، التي نشأ منها هذا البرعم، علماء الاجتماع والمختصون بالتربية اجمعوا ان اهم سبب للاستخدام السئ للأنترنت هو الفراغ، واذا ما اردنا ان نحل مشكلة التأثير لسلبي لها، علينا ان نقتل الفراغ عند الاولاد، البيوت اليوم ممتلئة بالفراغ، واصوات الهدوء تتعالى في التجمعات العائلية، احمد شاب في العشرين من عمره الان، كان يعيش مع عائلته الصغيرة، في منزل فاخر والده مديرٌ لاحدى الدوائر في المحافظة الا انه كان يشعر بالوحدة، والفراغ وراح يبحث عن الانتحار فوجد الرصاصة الخفية بين يديه وانتحر يقول احمد:" بين اكداس من الاسطوانات ادفن وحشتي، استيقظ في الصباح مع وحدتي، واغفو مع وحدتي، افراد عائلتي متعشقون بهواتفهم، امي ابي اخوتي، قررت ان اموت، انصهرت مع عالم افتراضي خيالي، لاخرج من حالة الفراغ التي اشعر بها، مع دوامة الوهم امضي الى عالم العقلاء،

لاجد نفسي على شاطئ البحر الاسود، لاهرب من جديد الى واقعي المؤلم" احمد الان يخضع لعملية اعادة تأهيل في احد المراكز الطبية، بسبب سوء استخدام الانترنت، وعدم وجود رقابة الاهل وصل به الحال الى تعاطي المخدرات.

الاثار في كلمة المستشار

تقول مستشارة الاسرة من مركز الارشاد الاسري التابع للعتبة الحسينية المقدسة ضحى العوادي:"يعتبر الانترنت شبكة اتصالات عالمية، وهي قرية صغيرة تجمع سكان العالم، وهي من اخطر التقنيات على المجتمعات، وضعت بين ايدينا تخضع لإرادتنا، فهناك من يحاول ان يبث الافكار المتطرفة داخل مجتمعاتنا، ويدعو الى سلوكيات غير اخلاقية، وان ادمان هذه المواقع وتعويد الاطفال على متابعتها، ادى الى تدن ملحوظ في المستويات العلمية للطلاب، وان اغلب الاهالي يلجأون اليوم الى التخلص من شغب الاطفال في تركهم خلف شاشات جهاز الايباد لساعات طويلة، الامر الذي سوف يترك انعكاساً سلبياً على الصفات الشخصية للاطفال، من تقليد اساليب الحياة الافتراضية التي تبث على الانترنت، من المأكل والملبس والكلام".

كما تؤكد :" ان من اهم الاضرار التي يعاني منها الاطفال فكرياً هي قتل الروح الابداعية لديهم، واهمال الواجبات والضعف في المستوى العلمي، اما بدنياً فان السمنة هي من الاضرار الشائعة اضافة الى الكسل والخمول نتيجة الجلوس لفترات طويلة،

كما ان تأثيرها على الحالة النفسية لهم بات هاجساً يربك المختصين النفسيين اذ تشير العوادي الى ان التوحد الالكتروني والعزلة الاجتماعية من اخطر الامراض التي انتشرت بين الاطفال، وان العلاج يكمن في ملئ الفراغ الذي يعانون منه، بإشراكهم في نشاطات رياضية او ثقافية، لتطوير مهاراتهم الشخصية ورفع قدرتهم الابداعية، ورفع المستوى الاخلاقي والعلمي لهم، كما ان تعليم الاطفال حسن التصرف فيما هو متاح من نافذة تأخذهم في جولة حول العالم طريقة لتغيير مسار استخدامهم للأنترنت، وللأسرة والابوين دور اساسي في تحديد وبناء افراد نافعين لأنفسهم ولعوائلهم واوطانهم.

اضف تعليق