q

داني رودريك

 

برينستون ــ كان ما يسمى "اقتصادات السوق الحدودية" بمثابة البدعة الأحدث في دوائر الاستثمار. ورغم أن الأسواق المالية في هذه البلدان المنخفضة الدخل ــ بما في ذلك بنجلاديش وفيتنام في آسيا، وهندوراس وبوليفيا في أميركا اللاتينية، وكينيا وغانا في أفريقيا ــ صغيرة وغير ناضجة، فإنها تنمو بسرعة ومن المتوقع أن تصبح اقتصادات المستقبل الناشئة. ففي آخر أربع سنوات، كانت التدفقات من رؤوس الأموال الخاصة إلى الاقتصادات الحدودية أعلى بنحو 50% (نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي) من التدفقات إلى اقتصادات السوق الناشئة. وسواء كان ذلك يستحق الابتهاج أو الرثاء فهي مسألة تحولت إلى اختبار للمحللين الاقتصاديين وصانعي السياسات.

ونحن الآن نعلم أن الوعد بحرية حركة رؤوس الأموال لم ينجَز. ففي عموم الأمر، كانت الزيادة في تدفقات رأس المال سبباً في تعزيز الاستهلاك، بدلاً من الاستثمار في البلدان المتلقية، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم التقلبات الاقتصادية ويجعل الأزمات المالية المؤلمة أكثر تواترا. وبدلاً من فرض الانضباط، زادت الأسواق المالية العالمية من إتاحة الدين، وبالتالي أضعفت قيود الميزانية لدى الحكومات المسرفة وميزانيات البنوك العمومية المفرطة التوسع.

وتظل الحجة الأفضل لصالح حرية حركة رؤوس الأموال هي تلك التي ساقها قبل ما يقرب من العشرين عاماً ستانلي فيشر، الذي كان آنذاك ثاني أكبر مسؤول في صندوق النقد الدولي والذي يشغل حالياً منصب نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. ورغم أن فيشر أدرك المخاطر المترتبة على تدفق رأس المال بشكل حر، فقد زعم أن الحل ليس الحفاظ على ضوابط رأس المال، بل تنفيذ الإصلاحات اللازمة لتخفيف المخاطر.

ساق فيشر هذه الحجة في وقت حيث كان صندوق النقد الدولي يسعى بنشاط إلى تكريس تحرير حساب رأس المال في ميثاقه. ولكن بعد ذلك شهد العالم أزمات مالية في آسيا والبرازيل والأرجنتين وروسيا وتركيا ثم في النهاية في أوروبا وأميركا. وما يُحسَب لصندوق النقد الدولي أنه منذ ذلك الحين عمل على تخفيف انتقاداته لضوابط رأس المال. ففي عام 2010، أصدر الصندوق مذكرة اعترف فيها بضوابط رأس المال باعتبارها جزءاً من ترسانة أدوات السياسة التي يمكن استخدامها لمكافحة عدم الاستقرار المالي.

ورغم هذا، يظل الرأي السائد في صندوق النقد الدولي والبلدان المتقدمة هو أن ضوابط رأس المال هي الملاذ الأخيرة ــ ولا تستخدم إلا بعد استنفاد سياسات الاقتصاد الكلي والسياسات المالية التقليدية. وتظل حرية حركة رأس المال الهدف المطلق حتى ولو اضطرت بعض البلدان إلى التأني في الوصول إلى ذلك الهدف.

وينطوي هذا الرأي على مشكلتين. الأولى، كما يشير أنصار حرية تنقل رأس المال بلا كلل أو ملل، هي أن البلدان لابد أن تلبي قائدة طويلة من الشروط المسبقة قبل أن تتمكن من الاستفادة من العولمة المالية. وتتضمن هذه الشروط حماية حقوق الملكية، والإنفاذ الفعّال للعقود، واستئصال الفساد، وتعزيز الشفافية وتحسين المعلومات المالية، والحوكمة السليمة للشركات، والاستقرار النقدي والمالي، واستدامة الدين، وأسعار الصرف التي تحددها السوق، والتنظيم المالي العالي الجودة، والإشراف الحصيف. بعبارة أخرى، تحتاج أي سياسة رامية إلى تمكين النمو في البلدان النامية إلى مؤسسات العالم الأول قبل أن تتمكن من العمل كما ينبغي لها.

والأسوأ من ذلك أن القائمة ليست طويلة فحسب؛ بل إنها أيضاً بلا نهاية. وكما أظهرت تجربة البلدان المتقدمة مع الأزمة المالية العالمية فإن حتى أكثر الأجهزة التنظيمية والإشرافية تطوراً تظل بعيدة عن كونها مأمونة تماما. وبالتالي فإن مطالبة البلدان النامية ببناء ذلك النوع من المؤسسات الكفيلة بجعل تدفقات رأس المال آمنة لا تضع العربة قبل الحصان فحسب؛ بل إنها أيضاً مسعى عقيم. والحذر يستلزم نهجاً أكثر واقعية، النهج الذي يدرك الدور الدائم الذي تلعبه ضوابط رأس المال جنباً إلى جنب مع غيرها من الأدوات التنظيمية والاحترازية.

وتتعلق المشكلة الثانية باحتمال مفاده أن تدفقات رأس المال قد تكون ضارة بالنمو، حتى ولو نحينا جانباً المخاوف بشأن الهشاشة المالية. ويفترض أنصار حرية حركة رأس المال أن الاقتصادات الفقيرة لديها العديد من فرص الاستثمار المربحة غير المستغلة بسبب نقص الأموال التي يمكن استثمارها. وهم يزعمون أن قدوم رؤوس الأموال يعني انطلاق الاستثمار والنمو.

ولكن العديد من البلدان النامية يقيدها نقص الطلب على الاستثمار، وليس نقص الادخار المحلي. وقد يكون العائد الاجتماعي على الاستثمار كبيرا، ولكن العائدات الخاصة منخفضة، وذلك نظراً لعوامل خارجية، أو ضرائب مرتفعة، أو مؤسسات هزيلة، أو أي من مجموعة واسعة من العوامل الأخرى.

الواقع أن تدفقات رأس المال في الاقتصادات التي تعاني من انخفاض الطلب على الاستثمار تعمل على تغذية الاستهلاك وليس تراكم رأس المال. وهي تغذي أيضاً ارتفاع أسعار الصرف، وهو ما يؤدي إلى تفاقم نقص الاستثمار. ويمتد الضرر إلى ربحية الصناعات القابلة للتداول ــ وهي الأكثر ميلاً إلى المعاناة من المشاكل المتعلقة بالقابلية للتخصيص ــ كما يزداد الطلب على الاستثمار هبوطا. وفي هذه الاقتصادات، قد تؤدي تدفقات رأس المال إلى تأخير النمو وليس تحفيزه.

وقد دفعت هذه المخاوف الاقتصادات الناشئة إلى التجريب مع مجموعة متنوعة من ضوابط رأس المال. ومن حيث المبدأ، تستطيع اقتصادات السوق الحدودية أن تتعلم الكثير من هذه التجربة. وكما أشار الخبير الاقتصادي أوليفييه جين من جامعة جونز هوبكنز في مؤتمر نظمه صندوق النقد الدولي مؤخراً لتحفيز هذا التعلم، فإن تدابير تدفق رأس المال التي أصبحت شائعة مؤخراً لا تعمل بشكل جيد.

وليس هذا لأنها تفشل في التأثير على كم أو تكوين التدفقات، بل لأن مثل هذه التأثيرات صغيرة للغاية. وكما تعلمت البرازيل وكولومبيا وكوريا الجنوبية وغيرها من البلدان، فإن الضوابط المحدودة التي تستهدف أسواقاً بعينها مثل السندات أو الإقراض المصرفي القصير الأمد لا تخلف تأثيراً كبيراً على النتائج الرئيسية ــ أسعار الصرف، أو الاستقلال النقدي، أو الاستقرار المالي المحلي. وهذا يعني ضمناً أن ضوابط رأس المال ربما يجب أن تكون صريحة وشاملة، وليست جراحية ومستهدفة، لكي تكون فعّالة حقا.

إن ضوابط رأس المال في حد ذاتها ليست دواءً لكل داء، وهي كثيراً ما تخلق مشاكل أسوأ من تلك التي قد تحلها ــ مثل الفساد أو تأخر الإصلاحات اللازمة. ولكن هذا لا يختلف عن أي منطقة أخرى من مناطق العمل الحكومي. فنحن نعيش في ثاني أفضل عالم حيث التحرك السياسي يكاد يكون جزئياً دائما (وفعّالاً بشكل جزئي)، والإصلاحات الحسنة النوايا في إحدى المناطق قد تأتي بنتاج عكسية في وجود تشوهات في أماكن أخرى من النظام.

وفي هذا العالم، يكون التعامل مع ضوابط رأس المال باعتبارها الملاذ الأخير، دائماً وفي كل مكان، بلا منطق يُذكَر؛ بل إنه لا يعمل إلا على تحويل العولمة المالية إلى صَنَم يُعبَد. إن العالم يحتاج إلى نهج واقعي راسخ يتعامل مع كل حالة على حِدة ويدرك أن ضوابط رأس المال تستحق في بعض الأحيان مكاناً بارزا.

* أستاذ العلوم الاجتماعية في معهد الدراسات المتقدمة، برينستون، نيو جيرسي

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق