q

غادرنا قبل أيام الصحفي المخضرم ناظم السعود بعد أن بقي طريح المرض لعامين متتاليين، كان رحيله مختلفا تماما عن حضوره الإعلامي الضاج في بغداد، فقد عرف عنه نشاطه الهائل المتميز ودأبه المستمر وحرصه الكبير على الثقافة العراقية والمثقفين لاسيما الشباب منهم، وبسبب هذا الحرص والمهنية العالية وبث الأمل في نفوس الشباب الموهوبين، حصل السعود على مكانة متميزة في الصحافة الثقافية العراقية.

ونتيجة للجدية العالية التي تحلى بها ناظم السعود حصل على ألقاب عديدة، كلها تصب في تميزه بعمله الصحفي الثقافي، حيث تصدى في حياته العملية لإدارة عدد من أهم الصفحات الثقافية في العراق، وعمل في المجال نفسه بمصر أيضا أبان إقامته في القاهرة، وقد عُرف بحرصه على إخراج المادة الثقافية بطريقة تنم عن الخبرة والمهنية العالية وعلوّ الشأن والاعتبار، إذ يقترب ناظم السعود كثيرا من الجوهر، أعني كثافة الحضور، ويبتعد عن الحافة، بما يجعله آمنا من العزلة أو النسيان، كونه يُحاط بمجموعة من القلوب التي تحبه لأسباب كثيرة، منها وربما أهمها، حرص السعود على أن يديم تواصله وصداقاته مع الكتاب والشعراء والمبدعين، وهو الذي أمضى الزمن الأكثر من عمره، شعلة من النشاط، لاسيما في سنوات العمل الصحفي الثقافي، إذ كانت بغداد تضج بالطاقات الإبداعية المتوهجة، والأسماء الكبيرة، قبل أن يبدأ مسلسل الهجرة الى المنافي لأسباب يعرفها الجميع، ومن دواعي سروري حقا أنني استطعت أن أكون قريبا من السعود، عندما كنت ازور بغداد كثيرا وكأنها مدينتي في السكن، فكنت اذهب إليه في شقته بدائرة تابعة لمديرية الشباب العائدة للدولة في شارع الكفاح - يعرفها معظم الأدباء والكتاب-، أحيانا أصل إليه بمفردي وأخرى مع أصدقاء، في الغالب هم من الشعراء والكتاب، وقد كان السعود في وقتها ناشطا متواصلا، متعدد المهام، خاصة في الأعلام الثقافي، فكان أدباء المحافظات البعيدين عن الضوء الإعلامي، يجدون في السعود منفذا لهم للنشر والظهور في الصحف الأسبوعية، وبعض المجلات الشهرية، ولم يكن صديقنا يدخّر جهدا في هذا المجال، وقد كلفني شخصيا أكثر من مرة لإعداد ملفات أدبية لشعراء وكتاب من كربلاء، فكان النافذة الأمينة التي يطل منها هؤلاء الشعراء والمبدعين على القراء، وكان السعود يقترب ويقرّب الأصوات التي تحاول أن تتميز بإبداعها، وكان يدعم الأصوات التي تقاطع اتحاد الأدباء بسبب ميوله السياسية الخاضعة للحكومة آنذاك، ولازلت أتذكر غرفته في شقته حيث نتسلق السلم الحجري الطويل العمودي صعودا إليه، إذ يستقبلنا أطفاله الصغار وأحيانا أم اسعد، لنسير في ممر طويل، ثم نصل غرفة السعود وهو جالس بين مئات الكتب والمجلات في مشهد يعيد لنا مكتبة الجاحظ التي انهالت عليه بسبب كثرة المؤلفات التي تضمها، كنا نجلس نتحدث ونجادل بعضنا في الواقع الثقافي والأدبي ونتفق على بعض الأنشطة والتواصل، ثم نغادر بعد أن نشرب شاي أم اسعد، ونؤمّن لدى السعود نصوصنا، وصورنا، التي سنجدها منشورة، في مزاحمة بالأكتاف على النشر آنذاك، كان أدباء المحافظات يجدون من خلال السعود مكانا من الضوء الإعلامي لنصوصهم، وهم كما أظن لا ينسون هذا، بل هناك أدباء بغداديون كانوا يمررون نصوصهم من خلال الصعود الى النشر، ثم لابد أن أذكر ذلك الاحتفاء بالسعود وفريقه حينما جاءوا ضيوفا على اتحاد أدباء كربلاء عندما كنت رئيسا له آنذاك عام 2006، لقد احتفلنا بالسعود وعددا من الكتاب والفنانين كانوا بمعيته منهم الفنان جبار محيبس، والقاص نبيل الوادي وآخرين، حيث أحالوا مسرح قاعة نقابة المعلمين في لحظات الى أجواء مسرحية مذهلة، بثَّتْ الجمال والدفء في قلوب الجمهور، وهكذا كان السعود متميزا وفاعلا وناشطا وموهوبا في نشاطاته وعمله الصحفي الثقافي، لهذا لم يكن في يوم ما عند الحافة في كل العقود التي عاشها قريبا من الإبداع، وفاعلا في الحركة الثقافية في العراق، بل شكل جزءا مهما منها، والسبب انه كان يسارع الى تسجيل موقفه بوضوح وقوة، عبر الكتابة والنشر وإعلان الموقف بوضوح وقوة، وكثيرا ما أعلن مواقفه حينما كان يحتج على هذا الأمر او ذاك ويؤشر الأخطاء هنا او هناك، حتى لو كان مصدرها قادة المؤسسة الثقافية، او جهات يحسب لها الحساب، بسبب نفوذها وما شابه، فقد ضمن السعود كتابا سيصدر قريبا مجموعة من المواقف (المقالات والكتابات) التي أعلن من خلالها مواقفه تلك بوضوح، مصححا أو محتجا أو ناصحا أو مقترِحا أو مطالِبا، وهكذا لم يكن السعود قريبا من الحافة مطلقا، أية حافة، ولم يكن بعيدا مبعَدا أو مبتعدا، بل كان في لبّ أو سويداء القلب دائما، وفي عمق الجوهر، وعندما يحمل كتابه الجديد عنوانا يحيل الى العزلة او مغادرة بيدر الكلام، وعندما يكون مفتاح الكتاب (حافة الكلمة)، فإن المعني كما أظن المشوار الأخير للسعود مع الكلام، أي انه يريد ان يقول لنا انه وصل الى نهاية ما يريد قوله في مشواره الأدبي الثقافي الصحفي الطويل، وربما قارب مشواره حافة الصمت!!، لكنني أقول من وجهة نظر شخصية، استنادا الى معرفتي بالسعود، لأننا نتشابه في مسقط الرأس (قضاء الهندية/ طويريج/ ونسكن مدينة واحدة)، فضلا عن معايشتي له سنوات عديدة، أقول إن السعود سيبقى بالغ الثراء، حاضرا فاعلا متميزا، وان الحافات - التي يتحدث عنها- ليست مكانه قط، بل المركز والضوء وقوة التأثير في الكلمة والموقف والحضور مكانه الصحيح والمناسب، لا أقول هذا الكلام لكي اشد من أزر السعود الذي يعاني من جلطات متلاحقة في القلب، وصعوبة في الكلام والحركة وربما في الكتابة أيضا، لكنني أدعو الى قراءة كتب ناظم وما تتضمنه من مقالات ومواقف، لكي نتفق على ان ناظم السعود، لا يزال حاضرا، ذلك الحضور الذي سيبقيه ذا مكانة خاصة في قلوبنا، يستحقها فعلا من لدن الجميع، ويكفي لكي نستدل على هذا الكلام، ورحلته الحافلة بالعطاء، وكتبه التي تشي بجهده، فضلا عن حضوره المتعدد في المركز او في مدينته، لهذا سيبقى السعود ذا كثافة في الحضور والتميّز والحماسة التي لا تستطيع أن تطفئها الأمكنة التي نأت بالسعود بعيدا عن ضوء الكلام! ويكفي مؤلَّف واحد من كتبه الكثيرة التي صدرت في حياته لكي نكتشف وفاء ونبل هذا الكاتب المتميز بالعطاء والثراء التربوي الأخلاقي الصحفي والأدبي، ويكفي أن نطلع على كتابه الذي حمل عنوان (الآخرون)، لكي نعرف مدى المحبة والحرص والاهتمام الذي يكنه السعود للجميع بلا استثناء.

اضف تعليق