q

النصّ أدناه هو تقرير درس الحلقة السابعة عشرة في بحث الخارج من مباحث الخمس للمرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، من تقريرات آية الله الشيخ حسين الفدائي دامت بركاته. بتاريخ الثامن من شهر شوال المكرّم 1425للهجرة.

ذكرى تهديم البقيع

اتفقت الحلقة السابعة عشرة من حلقات بحث خارج الخمس مع الذكريات الأليمة، والمصائب العظيمة التي مازالت بعد رحيل الرسول الكريم تترى على أهل بيته الطيبين الطاهرين، فمنذ أن غمّض رسول الله صلى الله عليه وآله عينيه مودّعاً للدنيا وآذناً أهلها بالرحيل، تضافرت جهود الأبالسة وشياطين الإنس والجن على إعفاء آثار الرسول الكريم وإقصاء أهل بيته الطاهرين عن المناصب السماوية التي عيّنها الوحي لهم وعرّفها الرسول الكريم بإصرار وتكرار للناس والتاريخ، وذلك بدءًا من إقصاء علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه عن حقّه، ومصادرة فدك نحلة رسول الله صلى الله عليه وآله بأمر من الله تعالى لابنته فاطمة الزهراء صلوات الله عليها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وإسقاط جنينها الذي كان قد سمّاه رسول الله صلى الله عليه وآله محسناً، ثم اغتيال علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه في محراب عبادته، وبعدها قتل ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسبطه الأكبر الإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه بالسمّ، ثم قتل سبطه الأصغر سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين صلوات الله عليه في فاجعة كربلاء، وبعدها قتل الأئمة من ذريّة الرسول الكريم: الإمام السجاد والإمام الباقر والإمام الصادق إلى الإمام الحادي عشر الإمام الحسن العسكري صلوات الله عليهم بالسمّ، وانتهاء بهدم قبور أئمة البقيع، ثم هدم قبور أئمة سامراء.

اليوم الثامن من شوال

نعم لقد صادف درس الحلقة السابعة عشرة في بحث الخارج من مباحث الخمس: يوم الاحد، الثامن من شهر شوال المكرّم لعام ألف وأربعمائة وخمس وعشرين هجرية: وهو يوم تجديد الذكرى الأليمة لفاجعة هدم قبور أئمة البقيع ، وكان دأب العلماء والمراجع في العراق تعتيم الحوزة العلمية، وتعطيل الدروس الدينية، حداداً على آل الرسول وماجرى من ظلم في حقّهم أقرح قلب جدّهم الرسول الكريم وأوجع فؤاده في أهل بيته وذريته، واشتغالاً بإحياء ذكرى ابناء رسول الله، وتنديداً بظالميهم والمعتدين المتطاولين على هدم قبورهم الكريمة ومراقدهم الطاهرة، وأمّا دأب العلماء والمراجع في إيران فهو مستمر على الاستمرار على الدرس والتعريج فيه على مظالم أهل البيت والانتصار لهم والتشنيع بأعدائهم والمتجاوزين على أضرحتهم وقبابهم، المنتهكين حرمة الله ورسوله فيهم ، ولقد سار من السيد الاستاذ (المرجع) دام ظله الوارف إلا أن بسيرة الحوزة والعلماء في إيران وحذا حذوهم، ولذلك بدأ بحث هذا اليوم بعد البسملة والحمد والثناء على الله تعالى، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وآله الطاهرين بما يلي:

الذكرى الحادية والثمانين لفاجعة البقيع

هذا اليوم وهو يوم الثامن من شهر شوال المكرم يصادف يوم هدم قبور أئمة البقيع وذلك قبل أحد وثمانين عاماً، وهذا التجاسر السافر والتجرّي الصريح على هدم قبور أئمة أربعة من أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته المعصومين هو في الواقع تجاسر على الله تعالى الذي أمر بمودّة أهل البيت صلوات الله عليهم وطاعتهم وإكرامهم، وتجاسرٌ على القرآن الحكيم الذي صدع بقول الله سبحانه في الآية الثالثة والعشرين من سورة الشورى: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»، وتجاسرٌ على الإسلام العظيم الذي عظّم أمر أهل البيت وجعلهم امتداداً للرسول الأمين، وتجاسرٌ على الرسول الكريم الذي جعل أهل بيته المعصومين عِدل القرآن الحكيم، كما في حديث الثقلين المتواتر عند المسلمين جميعاً خاصة وعامّة، بقوله : «إني مخلّف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، ولاتقدّموهما فتهلكوا، ولاتعلّموهما فإنهما أعلم منكم» وتجاسرٌ على المقدّسات والقيم، والعلم والفضيلة، والأخلاق والإنسانية، وعلى كل الأحرار والأبرار، بل على كان الناس والبشر أجمعين.

كيف نعالج هذه الفاجعة المؤلمة؟

وهذا التجاسر البذيء مازال باقياً ومستمراً مادام البقيع على حاله موحشاً، وقبر أئمة أهل البيت فيه مهدّمة، ولا يزول هذا الوهن ولا يعالج إلا بزوال آثارة المفجعة، وبقاياه المؤلمة، وذلك بإعادة بناء المراقد الشريفة والقباب المنيعة وتشييد الأضرحة الكريمة والمآذن الشامخة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بالعمل على نحو العامّ المجموعي لا العام الاستغراقي حيث إن كلّ فرد من أفراد العام الاستغراقي مستقلّ عن الفرد الآخر بحيث لا أثر لوجوده وعدمه بالنسبة إلى الآخرين، بينما العام المجموعي ليس كذلك، لأنّ لكل فرد من أفراده العلّية في تحقّق العام المجموعي، بحيث لو فُقد فرد واحد من أفراده لم يتحقق ذلك العام المجموعي، فالألف أو المليون مثلاً لكلّ فرد من أفراده كامل المدخلية في تحقّق الألف والمليون، فلو فُقد فرد واحد منه لم يكن الباقي ألفاً أو مليوناً.

وهذا أمر واضح، ومسألة معالجة هذه الفاجعة المؤلمة ورفع هذا التجاسر البذيء المتطاول على الله والرسول، والاسلام والقرآن، والقيم والاخلاق، لابد وأن يكون من جميع المسلمين بل من جميع الناس الأحرار على نحو العام المجموعي، يعني: العلاج يحتاج إلى تضافر جهود الجميع وتضامن نشاطات الكل: في إبداء الآراء المطالبة بالتعمير، وإنجاز المساعي الحميدة لإعادة البناء؛ وكل واحد حسب قدرته وطاقته ، وإدراكه وإمكاناته، ولا يعتذر بأنه واحد والواحد لا أثر له في قبال الآلاف. إذ الوحدات تجتمع فتشكّل جيشاً عارماً، كما ان القطرات تجتمع فتصبح سيلاً كاسحاً وجارفاً، وإلا كان الجميع مقصّراً ومسؤولاً.

العصاة من بني اسرائيل مع المحايدين

وهذا القرآن الحكيم يذكّرنا بقصة أصحاب السبت من بني إسرائيل الذين تجاسروا على أحكام الله تعالى وتهاونوا بأوامر نبيهم الكريم، وراحوا يعملون في صيد السمك يوم السبت ولم يتّخذوه ـ كما أمر الله به ـ يوم عطلة وتعتيم، فلم يقف جميع الباقين من بني إسرائيل موقفاً واحداً على نحو العامّ المجموعي تجاههم، إذ لو وقفوا جميعاً موقفاً واحداً لأثّر وأنتج، بل تغافلوا وتخالفوا فيما بينهم، وافترقوا اتجاههم إلى فرقتين، فرقة أخذت تستنكر عليهم وتذكّرهم بخطئهم، وفرقة اتخذت موقف الحياد منهم، بل راحت تعترض على المذكّرين لهم، كما حكاه الله تعالى عنهم بقوله سبحانه: «وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ». فالهدف من التذكير أمران: العذر عند الله تعالى، والتأثير في العاصين بالإقلاع عن عصيانهم، ولقد تحقّق الأمر الأول فأصبح المذكّرون معذورين ولم يمسّهم غضب الله وعذابه، لكنّ الأمر الثاني لم يتحقّق لعدم القيام بالتذكير على نحو العام المجموعي بالنسبة للباقين من بني إسرائيل، فاستمرّ العصاة على عصيانهم والمحايدون على سكوتهم، حتى استأصلهم جميعاً عذاب الله تعالى ونكاله.

موقف المسلمين بعد الرسول الكريم

لقد تكرّر الموقف المتخاذل لبني إسرائيل بالنسبة إلى أصحاب السبت، من المسلمين بعد رحيل الرسول الكريم بالنسبة إلى الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه حيث تجرّأ البعض على التجاسر على أحكام الله، والتهاون بأوامر النبي الكريم، وراحوا يعملون على إقصاء علي أمير المؤمنين عن منصبه السماوي الذي عيّنه الله تعالى له ونفّذه الرسول الأمين فيه، فلم يقف المسلمون من أولئك البعض موقفاً واحداً على نحو العام المجموعي، بل تغافلوا وتخاذلوا، فتمّ الإقصاء لعلي أمير المؤمنين صلوات الله عليه وصيّروه جليس الدار طيلة خمس وعشرين سنة، وصودر حقه وحق ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله السيدة فاطمة الزهراء في فدك، وجرى من الظلم ماجرى في حقّهم، ولم يؤثّر تذكير المذكّرين من آمثال سلمان وابي ذر، وعمّار والمقداد فيهم.

حتى إذا قُتل عثمان واستيقظ المسلمون من غفلتهم، واجتمعوا على نحو العامّ المجموعي على بيعة علي أمير المؤمنين بالخلافة، ولو كان هذا الموقف قد اتخذه المسلمون بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله لما صار من هو أهل لهذا المنصب العظيم جليس الدار، ولما وقع من الظلم ما وقع، ولاستطاع الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه عبر هذه الاعوام الطويلة من إصلاح الأمور، وتهذيب النفوس، وتحقيق العدل، وإفشاء القسط، وتعميم السلم والسلام، ومحو الظلم والظلام من يومه ذاك إلى يوم القيامة، فالتجاسر البغيض من البعض، والتخاذل المهين من البعض الآخر، وعدم اتخاذ الجميع موقفاً واحداً على نحو العام المجموعي سبّب كل هذا الظلم والظلام، والشقاء والفساد، والفقر والجهل، والعنف والإرهاب الموجود حتى يومنا هذا. وهكذا بالنسبة إلى سائر الأئمة المعصومين من الإمام المجتبى حتى الإمام المهدي صلوات الله عليهم.

المواقف الأحادية والمساعي الانفرادية الحسنة

لقد وقف موقف المطالب بنهاية هذا التجاسر البغيض تجاه الله ورسوله ، والاسلام والقرآن، وطالب بإعادة بناء قبور أئمة البقيع الكثير من العلماء الاعلام، والسادة الكرام، والشخصيات الدينية والاجتماعية ومن جملتهم الأخ الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي قدّس سرّه، وذلك قبل أكثر من أربعين عاماً، حيث بدأ حملة واسعة النطاق في المطالبة ببناء البقيع، وكرّس كل جهوده وعبّأ جميع طاقاته من أجل ذلك، واتصل بالشخصيات العلمية والدينية، والاجتماعية والسياسية من العراق وإيران، ومن الهند وباكستان، ومن الخليج نفسه والحجاز، وجعلهم في مجرى الأحداث، وأهبة الاستعداد لصنع الرأي العام والأجواء المناسبة، ولكن لم يصل سماحته إلى النتيجة المتوخّاة، ولم يحصل على الأهداف المنشودة من وراء هذه الحملة المكثّفة من العمل والوسعة من حيث المواقف، لأنه بالتالي كان فرداً وان كان في نفسه أمّة، فذلك غير العام المجموعي الذي إذا حدث استطاع التغيير والتحويل، وتمكّن من التأثير والتبديل.

التغيير حاصل وهو على الأعتاب لا محالة

بقاء البقيع الغرقد موحشاً، والمراقد الشريفة مهدّمة، منكر من أشدّ المنكرات، وهو بمرأى من المسلمين جميعاً ومسمع، ولابدّ من يوم وهو في الطريق، وساعة صفر هي على الأعتاب، يزول فيه هذا المنكر ويغسل عاره وشناره، فهنيئاً لامّة ناشطة وقوم غيارى يستطيعون صنع العام المجموعي واتخاذ الموقف الموحّد، للقيام برفع هذا المنكر ودفعه، وسدّ هذا الصدع وردمه، كيف لا والدنيا برمّتها في طريقها إلى الانفتاح، والبلاد على وسعتها وتبعثرها في سيرها نحو القرية الصغيرة الواحدة، فلنكن نحن تلك الأمّة التي تستطيع إنجاز ذلك، حتى ننال وسام المودّة لاهّل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله بعزّ وافتخار إن شاء الله تعالى، وذلك بأداء كل فرد مسلم وظيفته في المطالبة، واتخاذ الموقف الحاسم، والقرار اللازم بحسب موقعه واقتضاء علمه وشغله، سفراً وحضراً، حجاً وعمرة، دائماً وأبداً في طريق انجاز هذه المهمة الإنسانية العليا، وما ذلك اليوم ببعيد بإذن الله تعالى.

هذا ولايخفى أنّ الكلام هذا كان قبل الاعتداء الأثيم الذي طاول مرقدي الإمامين العسكريين صلوات الله عليهما في سامراء، و قد زاد ذلك في مسؤولية الجميع.

اضف تعليق