q
{ }

عقد مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث حلقته النقاشية الشهرية تحت عنوان (الدولة المدنية في السياق الإسلامي.. عهد مالك الاشتر نموذجا) ليجد من خلال ذلك التفاتة مهمة حول حقيقة الدولة المدنية من وجهة نظر إسلامية صرفة، خاصة وإن متبنيات تلك العقيدة صادرة عن شخص الامام علي(ع) ربيب الوحي والنبوة عبر عهده إلى مالك الاشتر حين ولاه مصر.

 وتمت استضافة الدكتور سليم كاطع علي رئيس قسم دراسات الأزمات في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، بمشاركة نخبة من الشخصيات الأكاديمية والبحثية وبعض الاوساط الاعلامية.

 أدار الحلقة النقاشية حيدر الجراح مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث والذي تحدث مفتتحا الحلقة قائلاً "الدولة ضرورة من ضرورات الإجتماع الإنساني لتحملها مسؤوليات ومهام كبرى في مسيرة المجتمع، ولكنّ الإسلام لم يحدد شكلاً خاصاً للدولة ولعلّ في إشارة الإمام علي ابن ابي طالب(ع)إلى أنه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجرٍ تأكيدٌ على هذه الحقيقة التأريخية والإنسانية، فقد تعامل الامام علي(ع) مع الدولة كضرورة، أما منشأ ضرورتها فهو الإنتظام والنظام العام، الأمن والانسان والعمران وبما يقتضى ذلك من إطلاق حرية التملك المضبوطة بالشريعة، حتى لا تتفاقم الفوارق الطبقية ويستولى الجور على الأغلبية الساحقة من الناس، فتعم الفوضى ويخرج الجياع شاهرين على الناس سيوفهم".

 مضيفا "والمهم في مؤسسة الدولة، ليس شكلها. وإنّما القيم الأساسية التي تحتضنها والمبادئ الأساسية التي تعمل على تنفيذها في الواقع الخارجي، فالجوهر أن تكون الدولة بكل مسؤوليها وكل مؤسساتها نتاج الحرية والشورى والعقد الاجتماعي، المستند إلى حرية الإختيار ورضا الجماعة، فالدولة ليست خارجةً عن قيم الإسلام الكبرى، كالعدالة والحرية والمساواة، بل هي تجسيد لها، وانحراف الدولة في مراحل مديدة من التجربة التاريخية الإسلامية عن هذه القيم، لا يشرع للدولة الاستبدادية ولا يؤسس للنموذج السلطاني الذي لا صلات حقيقية له بالاجتماع الإسلامي، بل على العكس تماما حيث أن الانحراف التاريخي يحملنا مسؤولية تاريخية، باتجاه تغيير قيم الإسلام الاساسية في السياسية والحكم.

وأوضح الجراح "إنّ الدولة المدنية التي يرسي دعائمها ومكوناتها الإسلام ليست ادعاءاً وإنّما لها مكونات أساسية، هي التي تحدد صدق مقولة الدولة المدنية من عدمها وهذه المكونات هي كالتالي..

أولا: التعاقد/ إنّ مفهوم الدولة في الرؤية والتجربة الإسلاميتين، هي دولة تعاقدية وتنبثق هذه الإرادة التعاقدية من خلال جهد حر وواعي بين الحاكم ومكونات المجتمع الأخرى.

ثانيا: المشاركة/ والرؤية الإسلامية السياسية تعتبر كلّ المواطنين معنيين بشكل او بآخر بالشأن السياسي والعام، وتحث الجميع على تحمل المسؤولية والمشاركة في الشؤون السياسية والعامة، ويعظم الدين الإسلامي من شأن ابداء الرأي وحرية التعبير، اذ جاء في الحديث الشريف " من قتل دون حقه فهو شهيد، ومن مات دون مظلمه فهو شهيد، ومن مات دون كلمة الحق فهو شهيد، وأفضل من ذلك كلمة حق عند امامٍ جائر).

ثالثا: المراقبة والمحاسبة/ لا يكفي الاستقامة في الدولة والتزامها بالدستور وأن تكون منطلقاتها النظرية والأيديولوجية صحيحة، ومع أهمية المنطلقات وضرورة سلامتها إلاّ أنها بوحدها لا يمكن أن تعصم الدولة والمسؤولين فيها من الزلل، لهذا فإن الامر بحاجة الى مراقبة مؤسساتية وشعبية وذلك لضمان المسيرة والتزام كلّ المسؤولين بالدستور ومقتضيات العدالة.

رابعا: التداول والانتقال السلمي للسلطة/ الإنتخابات وحرية الإختيار من قبل أبناء الشعب هو الطريق للوصول الى سدة المسؤولية والحكم في الدولة المدنية، لذلك فان التداول للسلطة والمسؤولية العامة من الاركان الأساسية للدولة المدنية.

الوجه الناصع لسياسة الاسلام

 من جانبه أوضح الدكتور سليم كاطع علي "أن موضوع الدولة المدنية في السياق الإسلامي عهد الامام علي(ع) لواليه مالك الاشتر إنموذجا، ربما هو من المواضيع القديمة الحديثة والتي لها صدى في المستقبل، عندما نتكلم عن شخصية مثل شخصية الامام علي(ع)، قد تتصاغر الكلمات وتتضاءل العبارات عن رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كالإمام علي(ع)، لتاريخه المشرق وكذلك لدوره في التاريخ الإسلامي والسياسي تحديدا.

ويمكن القول بأنّ الامام علي(ع) في نهجه وفي حياته وسيرته السياسية، إنما هو زمن لكل الازمان. شرط ان نعرف انفسنا ونحترم عقولنا، لذلك هي كلمات نرسلها لذلك المسك السحيق في نهجه الاشم، الى معلم الأجيال، والى ما بقي دوره منارة تنير الدرب للتائهين على مر العصور، وخاصة ونحن في أيام اهل البيت صلاة الله وسلامه عليهم".

 "وبلا شك فإننا عندما نبحث في موضوع الدولة المدنية قد يتبادر الى أذهان الكثير من الناس مفاهيم الكذب والمكر والخديعة والإحتيال، بسبب ما لهذه الكلمة من سوابق سيئة، وهذا الإنطباع هو أمر متوقع بسبب السياسات التي إتبعها الحكام الذين تسلطوا وتحكموا بالبشرية في مختلف المراحل والعصور.

 وفي الحقيقة فان هذه القاعدة لا يستثنى منها إلا القليل من الحكام العدول والرجال الربانيون الذين إعتمدوا على الرسالات السماوية مع ما صاحبها من إلهام وتوفيق وتأييد رباني. ومما لا شك فيه أن الإمام علي عليه السلام كان واحداً من الشخصيات القليلة والنادرة التي وضعت منهاجها السياسي على أسس الرسالة السماوية، وعلى الفضائل والكرامة الانسانية بغض النظر عن قول القائل وعتب العاتب، على الرغم من ان تلك السياسة قد كلفته كثيراً، وغالباً ما خلقت له اعداء كثيرين، كما قال عليه السلام: (ما ترك لي الحق من صديق).

وقد تميزت حياة الامام علي عليه السلام بوفرة الانتاج الفكري والثقافي سواء كان على شكل خطب وكتب ووصايا وعهود او على شكل حوادث ووقائع غطت حقولاً عديدة في الفكر والاخلاق والمعارف والحقوق والآداب الى غير ذلك. وقد كانت رسائله عليه السلام الى ولاته وعماله وموظفيه تمثل في جانب منها الوجه الناصع لسياسة الاسلام في كيفية إدارة البلاد والعباد كونها جامعة للسياسة الاسلامية في كل أبعادها وفي مختلف شؤونها، فأنها مثلت من ناحية اخرى مدى حرص الامام عليه السلام على بناء نظام سياسي وإداري ناجح.

وفي هذا الإطار، إكتسب عهد الامام علي عليه السلام الذي كتبه الى عامله مالك الاشتر حين بعثه والياً على مصر (38 ه ـــ 658م)، اهمية فائقة لشخصية الصحابي الجليل مالك الاشتر كونه من أثبت أصحاب الامام ومن ثقات التابعين، واكثرهم خبرة ووعي، ولعل قول الامام بحقه:(لقد كان لي كما كنت لرسول الله)، تدل بانه من القادة القلائل الذين يتصفون بصفات نادرة تستحق الإشادة وتستحق الدراسة والتمحيص. وكذلك لما تضمنه العهد من تحشيد للرؤى والافكار وعلاجات الواقع فيه، إذ جاء ليؤسس خطاباً ليس معاصراً او معانقاً لحاضره فحسب، بل هو خطة منزوعة الخصوصيات، مطلقة الافكار صالحة للتطبيق في أي مرحلة مستقبلية يواجهها اصحاب القرار في خضم تجاذبات الواقع السياسية والاجتماعية والفكرية.

عُد العهد من اهم الوثائق الرسمية التاريخية الغنية بمختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والادارية كونه صادرٌ من أعلى سلطة في الدولة العربية الاسلامية في عهودها الأولى، ويمثل بذلك مرحلة مهمة من مراحل تطور الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والاداري لدى المسلمين لما شمله من تعليمات ووصايا وسياسات وأساليب إدارية وطرق إختيار الحاكم وأساليب مراقبته وعلاقة الحاكم مع المجتمع بمختلف فئاته سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وكذلك لما شمله من أسس الحكم الرشيد العادل الذي تُقاس به مستويات صلاح أنظمة الحكم السياسية في كل مكان وزمان.

 لقد تضمن هذا العهد الاركان الرئيسة التي حددها الامام علي عليه السلام، والتي يجب أن ينتهجها الحكام في كلّ عصر على أساس المنطلقات الإنسانية الإسلامية التي تهدف إلى تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية تنظيماً دقيقاً وبناء العلاقات الداخلية في المجتمع الإسلامي على أساس العدل والحرية والمساواة ولعل اهمها:

 الركن الأول: الحرية

 الحرية في نظر الإمام، وهي مبدأ أساسي كفله القران الكريم والسنة النبوية وكذلك مختلف المبادئ التي جاءت فيما بعد، لكننا نجد أنّ الامام علي(ع)كانت له نظرة خاصة كون المساس بحرية الانسان هي مساس بقيمة وكرامة هذا الانسان، لذلك يجب تقديس هذه الحرية التي انطلق من خلالها ليجعل منها مصدراً للتفكير الحر، وبالتالي فإن موضوع الحرية هو موضوع مهم لاسيما إذا ما اتينا الى الحرية السياسية، وهي تعني حرية الرأي والرأي الاخر والتعبير وهي من المبادئ الأساسية التي أشار اليها الإمام علي في عهده الى مالك الاشتر، ومن خلالها رفض كافة أشكال الظلم والاستبداد والدعوة إلى إزالة أسباب الاحتقان والتعصب والتطرف بين مختلف الجامعات في المجتمع، وكذلك دعا الى ضرورة عدم التعدي على الآخرين وضمان حقوقهم وأنفسهم. يقول لمالك الاشتر (إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدنى لنقمة ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها)، كذلك يذهب الى توصية مالك الاشتر الى كيفية التعامل مع الاخر المختلف بقوله:

(وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ. ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً، تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ)، أيضا يوصي مالك أن يكون محبا محترما لمشاعر الناس مهما كانت الجماعات التي ينتمون اليها حتى وإن تجاوزوا عليه بقوله(فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تُحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه "، وأيضا عدم التعالي على الناس بأيّ شكل من الاشكال بل نجد أن الامام(ع)، ذهب الى ضرورة بناء هذا المبدأ على صعيد الاسرة كونها الأساس وهو يدعونا من خلال قوله(لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم فانهم مولودون لزمان غير زمانكم).

 ومن هذا المنطلق ذهب الإمام عليه السلام إلى فتح باب حرية الرأي على مصراعيه وكذلك النقد والمحاسبة أمام جماهير الامة، بل دعا الإمام عليه السلام الى توفير الحماية للمجاهرين بالحق وجعل من تقبل الرأي الاخر دعوةً لمراجعة الذات بالنسبة للحاكم وتصحيح الخطأ وتغيير مسيرة العمل نحو الحق والعدل، كما نادى عليه السلام إلى تمجيد الداعين الى الحق بقولهم وفعلهم ومعاملتهم بأقصى سبل الاحترام كونهم المرآة الكاشفة عن مواطن الضعف في العملية السياسية، إذ يوصي مالك الاشتر قائلاً: (ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعاً ذلك من هواك حيث وقع).

 ولا شكّ فإن دعوة الإمام عليه السلام الى إحترام حرية الرأي والكلمة لم تحجب عن نظرته تشخيص بعض السلبيات التي قد توظف تلك الحرية للتأثير سلباُ على الفرد والمجتمع، وهنا يضع الامام عليه السلام بعض القيود والمحددات على حرية الرأي والتعبير لتجاوز الأبعاد السلبية لهما وذلك من خلال:

 1- ضرورة صيانة حقوق الآخرين وعدم التعدي عليها، إذ أنّ حرية القول والفعل تقف عند خط لا يمكن أن يتعداه إلاّ من كان ظالماً، وهو الكيان المادي والمعنوي للإنسان قائلاً: (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه إلا بالحق).

2- العلم: بمعنى الإحاطة والتعمق بالشيء أو الشخص قبل إطلاق الاحكام والآراء، إذ يقول عليه السلام:(لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم).

3- الانصاف في اطلاق الآراء واتخاذ الموقف، فيقول الإمام:(قلما ينصف اللسان في نشر قبيح أو إحسان).

4- الاسلوب: إذ أن التعبير عن الرأي غير كافٍ ليؤدي إلى بناء المجتمع وتطويره، بل يجب ان يتم طرح الرأي والتعبير عنه بإسلوب مناسب وهو شرط من شروط توظيف الحرية لصالح المجتمع.

 الركن الثاني: العدالة

 العدل بنظر الإمام عليه السلام هو الاصل الذي يستطيع أن يصون توازن المجتمع ويرضيه ويهب له السلام والأمن والطمأنينة والاستقرار، إذ أنّ العدالة بنظره هي وظيفة إلهية فلا يجوز أن يقف الحاكم العارف بالإسلام وقفة المتفرج عند ترك الناس العدل ولجوئهم الى الجور والظلم والتمييز والاضطهاد، وهو بذلك عارض ما دأب عليه السياسيون من إن ايجاد الأعوان وسد الأفواه بالمال، من الوسائل الضرورية لحسن سير السياسة والتدبير، إذ كان الامام عليه السلام العدو اللدود لهذه الوسائل والادوات النفعية، الامر الذي جعله عرضة للتآمر من أرباب المصالح والطامعين منذ اليوم الأول لإستلامه الخلافة والذين إندفعوا الى التخريب وخلق الاضطرابات والفتن والقلاقل.

 الركن الثالث: حق المشاركة السياسية وحق المعارضة

 يُعدّ الإمام علي عليه السلام من السباقين في منح الامة حقها في المشاركة السياسية، إذ يُقرّ الإمام بأنّ السلطة هي من حق الشعب، قائلاً:(إنّ هذا أمركم ليس لاحد فيه حق إلاّ من أمّرتم)، وهذا يعني أنّ المنهج الفكري والاداء السياسي يجب أن ينبع من الامة وليس حكراً على فرد أو طبقة خاصة، ومن حق الامة إختيار حاكمها وولاتها، وذهب الامام إلى اثبات شرعية الحاكم من خلال الإعتماد على رضا الناس الذي انعكس آنذاك في نظام البيعة كإسلوب للتعبير عن الارادة الشعبية لاسيما مع ضمان الحرية لتلك البيعة.

رابعاً: السياسة الاخلاقية

 يُعد مبدأ مراعاة الأصول الأخلاقية الأساس عند الإمام علي عليه السلام سواء فيما يتعلق بشخص الحاكم أو ما يتعلق بكرامة الشعب وشخصيته وسواء في وقت الحرب أم وقت السلم، فقد جاء في عهده لمالك الاشتر:(وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلعهم لمعايب الناس، فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها فلا تكشفنّ عما غاب عنك منها)، إلى أن يقول عليه السلام:(ولا تعجلنّ الى تصديق ساعٍ فإن الساعي غاش وإن تشبّه بالناصحين).

خامساً: الطبقات الاجتماعية وتشجيع العمران

 إنّ تقسيم الإمام علي عليه السلام المجتمع إلى طبقات لا يعني أبداً أنّه يهدف بهذا الى إيجاد تمايز وفوارق طبقية في المجتمع لأنه من الواضح أن مبدأ التمايز في الاسلام وفي منهج الإمام بين الناس هو التقوى وهو المثل الأعلى في الحياة الانسانية.

 وقد دعا الإمام عليه السلام الى ضرورة توفير العمل كجزء من حقوق الانسان الذي يفترض أن يجد عملاً يوافق مؤهلاته ويسد حاجاته المادية والنفسية، من خلال القيام بمشاريع الإعمار والنهوض الإقتصادي سواء على مستوى الأفراد أو الدولة، جاعلاً العمران من واجبات الحكومة الاساسية ومن أهم مزايا الحاكم الصالح، إذ جاء في عهد الى مالك: (هذا ما أمر به عبد الله أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الاشتر في عهده اليه حين ولاّه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، وإستصلاح أهلها، وعمارة بلادها).

من خلال ما تقدم نجد بأن فكرة الامام علي عليه السلام للدولة المدنية هي فكرة شمولية، بمعنى أنها لا تنطلق من الرؤية إلى الحاكم لأن الإمام علي عليه السلام لم ينظر إلى السلطة ويجعلها شخصية، الإمام علي عليه السلام كان أبعد من شخصنة السلطة ولم يجعلها مغنماً، وإنّما هي وسيلة من أجل بناء المجتمع على أسس العدل والحق، لذلك حري بنا أن نعود إلى هذا الإرث التاريخي الإسلامي، لأننا أحوج ما يكون اليه في هذه الفترة العصيبة التي تمر بها أمتنا من محن وابتلاءات، لأن الأمّة التي ترتكز على ماضٍ ثرٍّ من الطبيعي أن يكون حاضرها هو الأفضل ومن الممكن أن يكون مستقبلها في أفضل حالاته.

* ميثاق مناحي: وثيقة المواطنة

يرى ميثاق مناحي الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء" بالتأكيد يشكل مفهوم الدولة المدنية اليوم أهمية كبيرة بسبب ما تلاقيه الدولة من تحديات سياسية، لاسيما في الدول الإسلامية وفي ظل تصاعد خطر التنظيمات الإرهابية، وما يسمى بالإسلام السياسي المعاصر وكذلك صعود التيارات الشعبوية في أوربا، وبطبيعة الحال هناك من يتحفظ على فكرة وجود دولة مدنية في السياق الإسلامي أو النظام الإسلامي أو في الدول الإسلامية المتعاقبة، وواقعاً هذا المنطق يتعارض مع ما أتت وثيقة وعهد الامام علي عليه السلام لمالك الاشتر مع ما تحمل من مضامين مختلفة، خصوصا وأن مظاهر ذلك العهد هي مظاهر مدنية تكاد أن تتمحور حول القبول بالآخر والمساواة والتسامح والحرية والعدل والنزاهة، لاسيما وأن عهد الامام علي عليه السلام كان في العام(ميلادية650) أي (39 هجرية)، إلى جانب ذلك فإن الدولة المدنية ظهرت في القرون الوسطى في أوربا، بيد أنّ ذلك لا يغير من حقيقة أن التحفظات اليوم تأتي من السلوك السياسي للدول الإسلامية المعاصرة جميعا باستثناء التجربة الماليزية".

وأضاف مناحي "بالتالي فان أسس الدولة المدنية إذا ما تم اسقاطها على وثيقة الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر، نجد أنّها تحاكي الواقع المدني بكل تفاصيله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، عند ذلك إذا ما رجعنا الى الجذور التاريخية فقد حصل تطور مهم في أنماط الدولة المدنية بشكل سريع، وطبعا إنّ الدولة المدنية هي ثقافة متدرجة وقد امتدت لقرون وقرون حتى تشكلت بالنموذج الحالي، أما ما يتعلق بوظائف الدولة المدنية فهي تتلخص بتوفير فرص العمل واشراكهم بالعملية الإنتاجية وتوفير المناخ الأمني والاستقرار النفسي لكل المواطنين وحرية التعبير عن الرأي".

 ويكمل مناحي "إن أسس الحكم الصالح في عهد الامام علي عليه السلام تتلخص بالأمانة والمشاورة والتعاون والمحبة والتسامح والعدل وعدم الإحتجاب عن الرعية والمسؤولية، وكل هذه الأسس هي أسس مدنية بالمفهوم السياسي المعاصر ولا تقتصر على حكم الإمام علي عليه السلام، وبطبيعة الحال حتى إصلاحات الامام علي عليه السلام في تلك الفترة هي إصلاحات مدنية، وذلك لأنه عمد أولا إلى تخليص الدولة من العناصر الفاسدة، ثانيا تأمين الأموال المختلسة ومصادرتها، ثالثا السياسة المالية في تطوير القطاع الصناعي والزراعي، أضف الى ذلك إنّ أهم مفهوم في وثيقة الامام علي عليه السلام هو المواطنة".

* مرتضى معاش: دولة الانسان

 يرى الشيخ مرتضى معاش رئيس مجلس إدارة مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام "أنّ عهد مالك الاشتر هو عهد لبناء المواطنة في المجتمع والمسؤولية المشتركة بين الحاكم والمحكوم، حيث يحتكم عهد مالك الاشتر يحتكم للأهداف التالية:

 الهدف الأول الذي انطلق من خلاله الامام علي عليه السلام هو الإنسان، وليس تطبيق أيديولوجيات، وغير مهم بعض المسميات كالدولة المدنية أو الدولة الدينية المهم هل هي دولة الانسان؟ خصوصا وأن الكثير من دول العالم المتقدم ترفع شعارات تختص بهذه الدولة او تلك، فالمسميات غير مهمة بقدر ما يتعلق الامر بالإنسان".

وأضاف معاش "النقطة الثانية في عهد مالك الاشتر الوسائل في إطار الغايات خاصة وأن السياسة اليوم تتبع أسلوب الغاية تبرر الوسيلة، وبالتالي لدينا منهجان في السياسة منهج الإمام علي عليه السلام وهو منهج الانسان ومنهج معاوية هو منهج الشيطان والتطرف، وعندها أما أن تختار منهج الاستقرار والاعتدال وإما أن تتبع منهج الكوارث التي يشهدها عالمنا اليوم، الذي يتعاطى مع سياسة حافة الهاوية من أجل الحصول على المزيد من المغانم والمكاسب".

ويكمل معاش "النقطة الثالثة مفهوم القوة عند البعض هي مفهوم الغلبة، بينما تكلم الإمام علي عليه السلام عن الرحمة والانصاف، كلّ هذه المفاهيم هي المفاهيم الحقيقية للقوة وهي تنبع من داخل الإنسان، وأيضا أكد على سياسية العفو وهي عكس سياسة الإنتقام التي يدعو لها البعض وفعلا هذا هو مشروع المصالحة الحقيقية، النقطة الأساسية الأخرى المهمة في دولة الإمام علي عليه السلام هي المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، لذا إذا أردنا أن نؤسّس دولة مواطنة في العراق لابدّ أن نركز على تلك الأركان الأساسية".

- يسأل الدكتور حيدر طعمة الأكاديمي والباحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية "هل أن التيارات السياسية والإسلامية المهيمنة والمتصارعة على المشهد السياسي في العراق قادرة على التعايش مع الدولة المدنية؟".

- بينما يرى الدكتور خالد العرداوي مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية " إن العهد يوصي مالك الأشتر بمجموعة وصايا منها تقسيم المجتمع إلى طبقات إلى طبيعة السلوك ناهيك عن القوة العسكرية، والسؤال هنا أين تكمن المشكلة في العراق والعالم الإسلامي ولماذا فشلت قواعد ذلك العهد رغم مرور 14 قرنا؟.

- ويشير محمد الصافي الناشط المدني من جهته "إلى وجود فكر مدني بالدين الإسلامي وهذا ما نصت عليه وثيقة المدينة قبل عهد الامام علي عليه السلام، وكيف استطاعت أن تنظم الواقع الاجتماعي في المدينة التي كانت تتألف من أديان مختلفة، والأنكى من ذلك إن الواقع الإسلامي بتفاصيله التاريخية البعيدة وإلى الآن لم يستطع أن يحاكي تلك الوثيقة عمليا، كذلك لم يتم التعاطي مع مفهوم الشريعة وكيفية تماشيها مع الدولة المدنية".

- أمّا الإعلامي عدي الحاج " فيرى أن نظرة الإمام علي عليه السلام لمفهوم الدولة قائمة منذ اليوم الأول الذي تلا إستشهاد الرسول الاكرم (ص) وما تبعه من أحداث السقيفة، وبالتالي يتشكل من خلال ذلك سؤالان الأول هل كانت الدولة الإسلامية الأولى دينية ام مدنية؟ والسؤال الاخر هل أن تسمية الدولة المدنية نسبة الى نشأتها في المدينة المنورة وهل تشكل نقيضا للدولة الإسلامية؟".

- ويعتقد عدنان الصالحي مدير مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية "أن العلاقة الجدلية ما بين موضوع الدولة المدنية والدولة الدينية ليس له حدود واضحة، خصوصا وأن الإمام علي عليه السلام حاول أن يتعامل مع المجتمع في إنتاج روح القوانين لا بإنتاج ووضع القوانين، بالنتيجة إنّ إقامة الدولة المدنية هي لخدمة الانسان وإنّ أمير المؤمنين اختلف عن باقي الامراء حيث كان تعامل مع الانسان كثقة رغم علمه وقناعاته بخفاياه، وواقعا إنّ مكمن البحث هنا يصب في الواقع العراقي وما هو شكل الدولة التي كان ينظر اليها أتباع الأحزاب الإسلامية وهي أشبه ما تكون ضبابية، وهنا ثمة سؤال يطرح نفسه ماذا نريد أن يكون شكل الدولة هل هو مدني ام ديني على أساس ولاية الفقيه ام إسلامي؟".

- من جانبه ينكر احمد جويد مدير مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات "وجود تعريف جامع للدولة المدنية وإن دعاة الدولة المدنية هم أول من ينتهك الحقوق المدنية، وبالتالي حينما نأتي الى الإسلام كنظام ينظم حياة وسلوك الانسان، فتارة ينظم السلوك بين الانسان وربه وتارة أخرى بين الفرد والسلطة وتارة اخرى بين الفرد ونفسه، لذا فأكثر من فهم هذا النظام هو الإمام علي عليه السلام، أمّا من سبقوه وإلى يومنا هذا كيفوا النظام من أجل قتل وقمع وإذلال الانسان".

- أما قيصر حمد الباحث القانوني ومدير الشعبة القانونية في دائرة صحة كربلاء "يرى أنّ وثيقة الإمام عليه عليه السلام هي وثيقة مهمة بامتياز، إلى جانب ذلك فإنّ الورقة إشارة الى أن واقع بناء الاخلاق هو من واجب الاسرة وهذا مناف لأصل النظرية السلوكية كون الانسان عندما يولد لديه استعداد لكلّ شيء، النقطة الأخرى أن شكل الدولة في عهد الامام علي عليه السلام كانت بسيطة، والسؤال الأخير هل نستطيع اليوم أن نقول إنّ الدولة الإسلامية هي ذات امتداد مدني أم ذات امتداد ديني؟".

التعليق على المداخلات

 أخيرا يرد الدكتور سليم كاطع بشكل تفصيلي على معظم المداخلات خاصة وأنّ الحوار عن الدولة المدنية لا يعني بأننا ننفي عن الإسلام صفة المدنية، أما بالنسبة لوثيقة المدينة هي تعتبر المحاولة البكر التي سبقت وثيقة الامام علي عليه السلام لمالك الاشتر، وهناك ايضا تجربة أخرى مشابهة لعهد مالك الاشتر تم تشكلها في العام 172 هجرية في المغرب، وهي دولة الادارسة التي أسسها ادريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الامام الحسن بن الامام علي عليه السلام، إلى جانب ذلك فإن الامام علي عليه السلام دائما ما جعل الفرد هو النواة الحقيقية.

 أما ما يخص المشكلة في واقعنا الإسلامي والعراقي فهو يتعلق بالسلوك والتطبيق، إلى جانب ذلك فإّن عهد الإمام علي عليه السلام تعرض إلى جوانب مختلفة منها سياسية واقتصادية وحتى عسكرية هذا ما جعل أركان الدولة متكاملة، الشيء الآخر إن القيم الأساسية التي انطلق منها الامام علي عليه السلام، قد حددها بأربعة نقاط رئيسية وهي عدم تقريب الأراذل في المجتمع وإبعاد الناس الصالحين، وكذلك التمسك بالغرور والابتعاد عن الأصول، وبالتالي هذه الأركان اذا ما توفرت من الممكن أن تؤمن دولة يعيش فيها المواطن على أسس من العدل والمساواة. 

{img_4}

اضف تعليق