q
ملفات - شهر رمضان

الإصرار على الخطأ ونار العناد

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ العاشِرة (٤)

الجاهل فكُلَّ همِّهِ هو أَن يقُولَ ويفعلَ ما يُرضي الجَو العام ويتماشى مع العقلِ الجمعي حتَّى إِذا كانَ على يقينٍ من أَنَّهُ غَير سليمٍ. إِحذر أَن تكونَ ضحيَّة الجَو العام، واحرَص على أَن لا تسجُنَ نفسكَ بإِرادتِكَ في صندُوقهِ، فعندَها لن يكونَ بوسعِكَ تصحيحُ المسارِ مهما بذلتَ مِن جُهدٍ...

{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

لَسنا معصُومينَ فالخطأُ والزَّللُ واردٌ في حياتِنا، إِلَّا أَنَّ الفرقَ بينَ واحدٍ وآخر هو الإِصرار وحجمهُ والعَناد وسِعته، فبينما يتوقَّف واحدٌ فوراً بمجرَّد أَنَّهُ يشعر بخطئهِ أَو إِذا زاغَ عن الحقِّ، يتغافلُ آخر ويتجاهل فيُفرِّط فيتمادى مُصِرّاً وهو يعرِف.

وبينَ مَن يتحمَّل مسؤُوليَّة خطئهِ بشجاعةٍ، يبحثُ آخر عن ضحيَّةٍ ليُحمِّلها المسؤُوليَّة {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}.

فما الذي يدفعُ بالمرءِ إِلى أَن يتجاهلَ خطأَهُ؟!.

١/ المصالِحُ الذاتيَّة [الأَنانيَّات] فعقلُ المرءِ عادةً في عَينَيهِ وبينَ يدَيهِ يفرحُ بما يلمِسهُ بيدهِ ويطرِب لِما يراهُ بأُمِّ عينَيهِ من مكاسِبَ، من دونِ أَن يحسِبَ لغدٍ حسابهُ ولذلكَ قالَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {كَم مِن شهوَةِ ساعَةٍ أَورثَت حُزناً طَويلاً}.

٢/ قِصر النَّظر الذي يحولُ بينهُ وبينَ أَن يستوعِبَ كُلَّ الصُّورة مِن دونِ أَن يكتفي بالجُزءِ الظَّاهرِ مِنها، ويمنعهُ منَ الغَوصِ في العُمُقِ {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}.

مُشكلتُنا أَنَّنا عادةً لا ننظُر إِلى أَبعدِ من أَرنبةِ أَنفِنا كما يُقال، فلا نرمي ببصرِنا أَقصى الأُمور لنتدبَّر بها كما لَو أَنَّنا نعيش مُستقبلِنا، فاليَومُ يومٌ لهُ ما بعدهُ.

يقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) ناصِحاً {أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْمَرْءَ لَيَفْرَحُ بِالشَّيْ‏ءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَيَحْزَنُ عَلَى الشَّيْ‏ءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ فَلَا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ وَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا قَدَّمْتَ وَأَسَفُكَ عَلَى مَا خَلَّفْتَ وَهَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ}.

٣/ الجَو العام الذي يتحكَّم في خياراتِنا بشكلٍ كبيرٍ أَو ما يُسمَّى بالعقلِ الجمعي الذي تصنعهُ، في أَحيانٍ كثيرةٍ، شبكاتٍ مجهُولةٍ!.

إِنَّ العاقل لا يسجُن نفسهُ أَو يتأَثَّر بالجَو العام الحاكِم على أَيَّةِ حالٍ، فإِذا كانَ خائِفاً منهُ مثلاً أَو يعيشُ تحتَ ضغطهِ فعلى الأَقل يتوقَّف عن قَولِ أَو فعلِ ما لا يعتقِدُ أَنَّهُ صحيحاً من دونِ أَن يُجاملَ فيفعَل الشَّيء الخطأ، كما يقُولُ رسُولُ الله (ص) {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ}.

أَمَّا الجاهل فكُلَّ همِّهِ هو أَن يقُولَ ويفعلَ ما يُرضي الجَو العام ويتماشى مع العقلِ الجمعي حتَّى إِذا كانَ على يقينٍ من أَنَّهُ غَير سليمٍ.

إِحذر أَن تكونَ ضحيَّة الجَو العام، واحرَص على أَن لا تسجُنَ نفسكَ بإِرادتِكَ في صندُوقهِ، فعندَها لن يكونَ بوسعِكَ تصحيحُ المسارِ مهما بذلتَ مِن جُهدٍ.

يجب أَن ننتبهَ إِلى حقيقةٍ في غايةِ الأَهميَّة ونحنُ نتعامَل مع مُؤَثِّراتِ الجَوِّ العام، وهيَ؛ أَنَّ مِعيار الحقِّ والباطلِ لا يستندَ إِلى عددِ الذين يفعلُونَهُما، فالحقُّ حقٌّ حتَّى إِذا لم يلتزِم بهِ أَحدٌ والباطِلُ باطِلٌ حتَّى إِذا فعلهُ كُلَّ النَّاسِ.

إِنَّ الحقَّ لا يتبدَّل إِلى باطلٍ إِذا لم يفعلهُ أَحدٌ، كما أَنَّ الباطلَ لا ينقلِبَ إِلى حقٍّ إِذا مارسهُ كُلَّ النَّاسِ، ولذلكَ فلنحذر عندَ تحديدِ الجبهةِ.

فضلاً عن ذلكَ فإِنَّهما [الحقُّ والباطِلُ] لا يُعرفان بهويَّة الرِّجال وخلفيَّاتهِم ونوعيَّاتهِم، بلِ العَكس هو الصَّحيح.

وَلقد قِيلَ إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ حَوْطٍ أَتَى أَميرَ المُؤمنينَ (ع) فَقَالَ؛ أَتَرَانِي أَظُنُّ أَصْحَابَ الْجَمَلِ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ؟!.

فَقَالَ (ع) {يَا حَارِثُ إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ وَلَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ فَحِرْتَ إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ وَلَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ}.

٤/ والأَخطرُ في كُلِّ ذلكَ عندما يكونُ سببُ التَّغافل هوَ الإِستدراج، فتلكَ هيَ الطَّامَّةُ الكُبرى، يقولُ تعالى {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}.

فأَن تخطأ فذلكَ أَمرٌ طبيعيٌّ، إِلَّا أَنَّ غَير الطَّبيعي عندما تصِرُّ على الخطأ، خاصَّةً إِذا اكتشفتَهُ بنفسِكَ ولم تُقرِّر التوقُّف للتَّصحيحِ على عكسِ قولهِ تعالى {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

٥/ وإِنَّ من أَسخفِ القواعدِ التي يتشبَّث بها كثيرُونَ في تعاملهِم معَ الخطأ هي قاعِدة [النَّار ولا العَار] فالتَّراجُع عن الخطأ يعِدُّهُ كثيرُونَ عيبٌ، فهُم مُستعِدُّونَ لأَن يُصرُّوا عليهِ ويتحمَّلُوا وِزرَهُ حتَّى إِذا قادهُم إِلى النَّارِ على أَن يعترِفُوا بخطأٍ فَعلُوهُ أَو ذنبٍ اقترفُوهُ فيتراجعُوا عنهُما.

فنارُ الغدِ ولا عارُ اليَوم!.

اضف تعليق