q
إنسانيات - علم نفس

لماذا ننجذب لشراء المنتجات الأكثر مبيعا؟

حتى لو لم نكن نحتاج إليها..

خياراتك قد لا تكون نابعة من تفضيلاتك أو رغباتك الشخصية بشكل تام، قد تفعل شيئا أو تشعر أنك تحب شيئا أو تشتري سلعة أو تحصل على خدمة ما، فقط لأن الآخرين يفعلون هذا، ولأن التشكيك في أنفسنا قد يكون أسهل بكثير من الاقتناع أن كل أولئك الأشخاص...
بقلم: أروى نجيب

ما الذي يحكم قرارك بالسفر إلى مكان ما أو قراءة كتاب معين أو شراء سلعة أو الحصول على خدمة ما محددة؟ قد تجيب ببساطة أن السبب الحاكم هنا هو "رغبتك" أو "احتياجك" أو "تفضيلك الشخصي"، لكن ألا يمكن أن يكون اختيارك لكتاب ما يرجع لكونه مدرجا تحت قائمة "الأكثر مبيعا"، أو لأن هناك كلمتين مدونتين على غلافه بلون مميز يخبرانك بأن هذه النسخة التي بين يديك هي من الطبعة السادسة أو السابعة أو العاشرة من الكتاب؟

،، عملية "الاتباع" تجعل اتخاذ القرار أسهل وتحميك من الشعور بالعزلة أو الوحدة أو الاختلاف عن المجموعة ،،

كم مرة ذهبت فيها إلى أماكن، أو شاهدت عروضا، أو تناولت أطعمة معينة، فقط لمجرد أن أصدقاءك قد اختاروا قبلك هذه الخيارات؟ عملية "الاتباع" هذه تجعل اتخاذ القرار أسهل وتحميك من الشعور بالعزلة أو الوحدة أو الاختلاف عن المجموعة، لكن الجانب السلبي هنا أن اختياراتك لا تعكس تفضيلاتك الحقيقية، ولا تُعبِّر بأي درجة عن شخصيتك أنت، هنا أنت تنجرف فقط وراء أذواق وتفضيلات الآخرين.

"عقلية القطيع" قد تحكم تصرفاتنا

في الخمسينيات من القرن الماضي أجرى الباحثون تجربة شهيرة لإظهار مدى استعداد الناس لتغيير سلوكهم ليتوافق ويتناسب مع الأعراف الاجتماعية، خلال التجربة وُضِع مشارك واحد حقيقي في غرفة مع 7 من المشاركين المتواطئين السريين، عرض الباحثون على المجموعة 4 خطوط، وطلبوا منهم تحديد أي خطين لهما الطول نفسه، على الرغم من أن الإجابة كانت واضحة فإن المتواطئين السريين قدموا إجابات غير صحيحة عن قصد.

كان الهدف من تقديم الإجابات الخطأ هو معرفة ما إذا كان المشارك الحقيقي سيُكذِّب نفسه وعينيه اللتين تريان بوضوح الخطوط وطولها ليتوافق مع الأشخاص من حوله، أم أنه سيغرد خارج السرب ويجيب الإجابة التي يرى أنها صحيحة؟ كانت النتائج مفاجئة.

حوالي ثلث المشاركين الحقيقيين أجابوا بشكل غير صحيح، ووافقوا على الإجابة الخطأ التي قدمتها بقية المجموعة، السبب الرئيس وراء امتثال المشاركين وترديدهم الإجابة الخطأ هو أنهم أرادوا الانسجام مع بقية المجموعة، بالإضافة إلى أنهم اعتقدوا أنه من المؤكد أن بقية المجموعة أكثر دراية منهم، يُطلَق على ما حدث في علم النفس اسم "عقلية القطيع"، وهو مصطلح يشير إلى مدى تأثر الأفراد بمجموعة أكبر.(1)

،، الشخصية الواعية للفرد الموجود في حشد ما تكون مغمورة أو غير فعالة أو مؤثرة، وأن عقل الحشد الجماعي هو المسيطر ،،

يعتقد غوستاف لوبون، وهو عالم نفس اجتماعي فرنسي عُرِف بدراسته للخصائص النفسية للحشود والجماهير، أن الحياة الحديثة تتميز بشكل متزايد بالتجمعات الجماهيرية، خلال أشهر أعماله، وهو كتاب "سيكولوجيا الجماهير" الصادر عام 1895، جادل لوبون بأن الشخصية الواعية للفرد الموجود في حشد ما تكون مغمورة أو غير فعالة أو مؤثرة، وأن عقل الحشد الجماعي هو المسيطر، وصف لوبون سلوك الجمهور بأنه إجماعي وعاطفي وضعيف فكريا.(2) تدعم التجربة السابقة وصف لوبون للرأي الجمعي، فالمشارك الحقيقي ببساطة ألغى عقله وكذَّب نفسه وأيد الرأي الخطأ، فقط لأنه رأي الجماعة.

هناك العديد من النظريات والنماذج القائمة التي تفترض أن الناس يختارون فعل ما يختاره الناس حولهم، في النهاية نحن كائنات اجتماعية، يتواصل معظمنا مع الآخرين كل يوم، بل قد نقضي أوقاتا طويلة يوميا في شكل من أشكال التواصل، لذا تُظهِر الأبحاث أننا لا نملك القدر الذي نعتقده من التحكم في أفكارنا وسلوكنا، الواقع أننا فقط نستقي إشارات من بيئتنا، وخاصة من الأشخاص الآخرين المحيطين بنا، وبناء على هذه الإشارات نحدد الكيفية التي سنتصرف بها، ومن هنا تأتي أفعالنا وتتكون سلوكياتنا وتنبع أفكارنا.(3)

الانجراف وراء آراء وأفعال الآخرين

حسنا، نخلص من ذلك إلى أن هناك طريقة إرشادية يستخدمها معظمنا لتحديد ما يجب القيام به، أو ما يجب التفكير فيه، أو ما يجب قراءته أو شراؤه أو حتى تناوله من طعام، هذه الطريقة هي: "مبدأ الدليل الاجتماعي"، لتحديد ما هو صحيح فإننا نفعل شيئا واحدا، وهو أننا ننظر إلى ما يفعله الآخرون، ونحدد بناء على ذلك الطريقة التي نتصرف بها.

حول مسألة "الدليل الاجتماعي" تلك يروي عالم النفس روبرت سيالديني صاحب كتاب "التأثير: علم نفس الإقناع" قصة مثيرة: في متنزه غابة أريزونا الحجرية كان الزوار حينما يصلون إلى الحديقة يتعرفون من خلال اللافتات إلى السرقات الماضية التي تعرَّض لها المتنزه، كانت اللافتات تحمل عبارات مثل: "يتم تخريب تراثك كل يوم بسبب سرقة الخشب المتحجر من المتنزه، بشكل سنوي يُسرَق ما يبلغ مقداره 14 طنا من الخشب، الكمية المسروقة تصل إلى هذا الحجم البالغ من خلال أخذ قطعة صغيرة في كل مرة".

رغم هذه اللافتات التحذيرية فقد كان الزوار يواصلون أخذ الخشب، في إحدى التجارب أزال سيالديني اللافتة من مسار معين في المتنزه لقياس أي اختلافات قد تحدث، كانت المفاجأة أن المسار الذي أزيلت منه اللافتة سجَّل حوادث سرقة أقل بمقدار الثلث من المسار الذي يحتوي على اللافتة، النتيجة التي توصل إليها سيالديني هنا هي أن الزوار فسروا اللافتة على أنها إذن بأخذ قطعة من الخشب، بعبارة أخرى اعتقد الزوار أنه من "الطبيعي" أخذ قطع صغيرة من الخشب، لأن الكثير منها يُسرَق كل عام، وهو عكس ما كانت اللافتات توصيهم به في الظاهر.

بعد ذلك وضع سيالديني وفريقه لافتات مختلفة في الممرات لاختبار ردود أفعال الزوار عندما كُتِب على اللافتة ببساطة: "من فضلك لا تُزِل رقائق الخشب المتحجرة"، سُرِق أقل من 2% من رقائق الخشب، انخفض معدل السرقات إلى نحو الربع، فقط لأن الناس لم يعودوا يعتقدون أن أخذ قطع الخشب هذه هو أمر طبيعي أقدم عليه سابقوهم.(4)

جاذبية الأكثر مبيعا

مما سبق يتضح لك أن خياراتك قد لا تكون نابعة من تفضيلاتك أو رغباتك الشخصية بشكل تام، قد تفعل شيئا أو تشعر أنك تحب شيئا أو تشتري سلعة أو تحصل على خدمة ما، فقط لأن الآخرين يفعلون هذا، ولأن التشكيك في أنفسنا قد يكون أسهل بكثير من الاقتناع أن كل أولئك الأشخاص الذي يتبنون أو يفضلون شيئا محددا هم جميعا على خطأ، ولأننا أيضا لا نرغب في أن نعاني من الوحدة أو العزلة نرغب بشكل فطري في أن نكون مع المجموع، حتى وإن اضطررنا أن نكون على خطأ معهم.

،، لا يتعين على المعلنين إقناع المستهلكين بأن المنتج يتمتع بجودة مرتفعة أو له استخدامات متعددة ومفيدة، بل عليهم فقط أن يقولوا إن الآخرين يعتقدون ذلك، لذا فهم يشترون المنتج ،،

يقول الفيلسوف وعالم الرياضيات الإنجليزي ألفريد نورث وايتهيد: "الحضارة تتقدم وتزدهر من خلال زيادة عدد العمليات التي يمكننا إجراؤها دون التفكير فيها"(3)، قد تعكس مقولة وايتهيد الجانب الإيجابي لعدم التفكير في كل ما نتخذه من قرارات، وتفسر لِم يفضل العديد من المسوقين المعاصرين عبارات مثل "الأكثر مبيعا" عند الترويج للسلع والمنتجات.(5)

في كتابه يستخدم سيالديني مثال المعلنين الذين يخبروننا أن المنتج هو "الأسرع نموا" أو "الأكثر مبيعا"، موضحا أنه لا يتعين على المعلنين إقناع المستهلكين بأن المنتج يتمتع بجودة مرتفعة أو له استخدامات متعددة ومفيدة، بل عليهم فقط أن يقولوا إن الآخرين يعتقدون ذلك، لذا فهم يشترون المنتج، ليصبح المنتج بعد قرارات هذا العدد من المستهلكين بالحصول عليه هو الأكثر مبيعا والأسرع نموا.(3)

كيف تتعرف تفضيلاتك الحقيقية؟

هناك العديد من الأسباب التي تجعلنا ننساق وراء "عقلية القطيع"، ونميل بشكل كامل للتوافق مع الآخرين، حتى لو على حساب تفضيلاتنا، تُعَد معرفة هذه الأسباب هي الخطوة الأولى التي تُمكِّنك من التفرقة بين التفضيلات التي تتبناها بسبب رغبتك الخاصة والخيارات التي تتخذها لتكون منتميا إلى المجموع.

على رأس هذه الأسباب يأتي النفور من الصراع، يميل الأفراد الذين يتجنبون الصراع بشكل تلقائي إلى اتباع المجموعة وتبني عقلية القطيع بدلا من التحدث أو مخالفة الآراء التي تحظى بشعبية أو تأييد جماعي، أيضا يفضل الأشخاص الذين يفتقرون إلى الشجاعة لتحمُّل مخاطر الالتزام بالوضع الراهن الانسياق وراء خيارات المجموعة، لأنهم يتخيلون أن هذا هو الوضع الأكثر أمانا، وأنه سيحميهم من المخاطر التي قد يتعرضون لها عند اتخاذ قرارات فردية أو مختلفة.

كذلك يصبح الشخص أكثر عرضة للانسياق وراء آراء وأذواق الآخرين عندما يعاني من قلة الوعي بذاته، الأشخاص الذين لم يتعرفوا بعد أنفسهم وذواتهم الحقيقية يفضلون تقمص هويات أو أدوار رصدوها سلفا في الآخرين من حولهم، هذا يجعل تفضيلاتهم وخياراتهم هي في الواقع مطابقة لتفضيلات الأشخاص الذين يتقمصونهم.

من ناحية أخرى فإن الكسل المتأصل يلعب دورا مهمّا أيضا في الانسياق وراء أذواق الآخرين واتخاذ خياراتهم نفسها، هنا لا يتعين على الأشخاص الذين يتوافقون مع القطيع اتخاذ قرارات صعبة تستلزم بذل الجهد والوقت لتحسين حياتهم، يمكنهم بدلا من هذا الراحة، والاكتفاء بفعل ما يفعله الآخرون، بالمثل فإن اتباع المجموعة هو أمر مريح يجنب الشخص الشك والريبة، وذلك لأن اتخاذ قرارات مستقلة يفتح الباب للعديد من الأسئلة، والتي ليس أقلها: كيف تعرف أنك ستنجح إذا لم يتخذ أحد هذا الخيار من قبل ليُقدِّم لك نموذجا عمليا لتبعاته؟ هنا يكون اتباع آراء ومواقف المجموعة طريقة لطمأنة أنفسنا أننا نتبع طريقا مؤكدا أو نتخذ خيارات مجربة وصحيحة.

وأخيرا فإن اتباع آراء ومواقف وتبنِّي أذواق وخيارات المجموعة يحقق للشخص مستوى من القبول الاجتماعي الذي قد يكون من المؤلم خسارته، إذا خرجت في مسارك لتعرُّف ذاتك وتفضيلاتك الحقيقية فإنك تخاطر بترك المجتمع وراءك ومواجهة قراراته المحتملة برفضك، وقد يكون من الصعب أيضا استعادة هذا القبول إذا أثبتت التجربة فشل خيارك الفردي.(6)

بعد معرفة الأسباب التي تجعلنا ننجرف وراء آراء وأذواق الآخرين ربما أحيانا بلا وعي، يمكنك الآن تحري ما إذا كان اختيارك بناء على تفضيلك الشخصي أم بناء على الانسياق وراء تفضيلات الآخرين من خلال التفكير في السبب الذي يجعلك ترغب في اتخاذ قرار معين، سواء أكان هذا القرار يتمثل في السفر لوجهة محددة أو قراءة كتاب معين أو حتى شراء سلعة ما، إذا كان السبب هو واحد من الأسباب السابق ذِكرها فأنت هنا منساق وراء تفضيلات الآخرين والرغبة فقط في مجاراتهم وتقليد أفعالهم.

هناك طريقة أخرى ربما تكون أكثر سهولة للتفريق بين تفضيلاتك الحقيقية والتفضيلات التي تنجرف فيها وراء أذواق الآخرين، هذه الطريقة تتمثل في تعرُّف نفسك الحقيقية، أخذ الوقت الكافي لتأمُّل شخصيتك وصفاتك الأصلية والأصيلة، مثلا إذا اكتشفت أنك تشعر بالهدوء والانسجام وتميل إلى الشعور بالتوازن عندما تتعامل بشكل مباشر مع الطبيعة هنا عندما تجد نفسك تختار السفر إلى المناطق السياحية الساحلية التي تمتاز بمناظرها الطبيعية المميزة فأنت تعرف أن هذا الاختيار هو تفضيلك أنت الشخصي، لأن شخصيتك تتوافق وتنسجم مع الوجود في مثل هذه الأماكن.

في هذه الحالة يمكنك ببساطة أن تتأكد من أنك لم تتخذ قرارك بالسفر لوجهة ما لأن زميلك في العمل قد سافر إلى هذا المكان خلال إجازته الماضية، أو أنك تريد فقط أن تحصل على بعض الصور واللقطات الفوتوغرافية لنفسك في هذا المكان لتشاركها مع أصدقائك عبر حساباتك على مواقع التواصل الاجتماعي لتحصل على علامات الإعجاب وتتمكن من إبهار الآخرين، أو تتشبه بأحد المشاهير الذين تتابعهم والذي شارك صورا له من المكان ذاته.

صحيح أن هناك نسبة خطورة في صياغة مسار جديد وغير مثبت، تتمثل هذه الخطورة في أن هذا المسار لم يسلكه أحد من قبل لتحدد من تجربته السابقة مدى فاعلية هذا المسار، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم نجاح كل الجهود المبذولة، لكن الأشخاص الراغبين في التواصل مع ذواتهم الحقيقية لا يهابون فكرة الفشل، بل إنهم يعتبرون الفشل جزءا لا يتجزأ من رحلتهم، ومصدرا للتعلم، وتجربة غنية يمكنهم من خلالها النمو وتحقيق النجاح.(7)

* المصدر: الجزيرة-ميدان

..................................
المصادر:
1- What Is Mob Mentality?
2- Gustave Le Bon
3- The Science Behind Why People Follow the Crowd
4- The Petrified Wood Principle
5- Finding the most effective slogan
6- Herd Mentality: Why Do We Want To Do What Everyone Else Does?
7- The 7 Habits of Truly Genuine People

اضف تعليق