q
قطبان فكريان سلوكيان متناقضان يميزان الأفراد والجماعات عن بعضها، ويعطيان هوية تفردها عن غيرها، فهناك من الأفراد والجماعات تحبّذ العزلة والابتعاد عن الآخر، وقد يصل الأمر حد القطيعة وربما يقود إلى نوع من أنواع الحروب المادية أو المعنوية، هذا القطبان، هما: لغة الحوار والعزلة الاجتماعية

قطبان فكريان سلوكيان متناقضان يميزان الأفراد والجماعات عن بعضها، ويعطيان هوية تفردها عن غيرها، فهناك من الأفراد والجماعات تحبّذ العزلة والابتعاد عن الآخر، وقد يصل الأمر حد القطيعة وربما يقود إلى نوع من أنواع الحروب المادية أو المعنوية، هذا القطبان، هما:

الأول: لغة الحوار

الثاني: القطيعة والعزلة والامتناع عن التواصل مع الآخر

فالحوار في معناه اللغوي، يأتي من حاور يحاور محاورة، وقد ورد في تاج العروس أن الحوار يعني مراجعة الكلام، كما ورد في لسان العرب لابن منظور تحت الجذر (حور) وهم يتحاورون أي يتراجعون الكلام والمحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة، وقد حاوره. والمَحُورَة من المُحاوَرةِ مصدر كالمَشُورَةِ من المشاورة، أما الحوار في الاصطلاح اللغوي فهو نشاط عقلي ولفظي يقدم المتحاورون الأدلة والحجج والبراهين التي تبرر وجهات نظرهم بحرية تامة من أجل الوصول إلى حل لمشكلة أو توضيح لقضية ما.

وللحوار آداب جمة ينبغي للأطراف جميعهم التحلي والالتزام بها حتى لا يتحول كلامهم إلى مراء أو جدال، لا ينتهي بالمتحاورين إلى نتيجة وفي هذه الحالة ينقلب الحوار إلى نتاج مبهمة يطلق عليه بالنقاش (البيزنطي)، أي الحوار الذي لا ينتهي إلى نتائج بسبب غياب قواعد تحكم المتحاورين ولا ينبغي لهم التخلي عنها أو تجاوزها أثناء الحوار، وبهذا سوف تقطف الأطراف المتحاورة النتائج المخطَّط لها.

أما العزلة، فهي على نوعين، أما أن تكون مقصودة ومفتعلة من صنع الإنسان، أو أن تأتي كنتاج لحالة نفسية تصيب الأفراد والجماعات، نتيجة لثقافات الإكراه والإجبار على تبني أفكار بعينها، كما يحدث في ظل الأنظمة القمعية التي تفرض أفكارها ذات المسار الواحد على الجميع، بالنتيجة يصبح الفرد والجماعة داخل طوق العزلة التي ترفض الآخر، ولهذا النوع كثير من التداعيات التي تدفع باتجاه النرجسية في التعامل مع الآخر، وفي كل الأحوال سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات، فإن العزلة تعود بنتائج خطيرة على من يتمسك بها ويجعل منها أسلوبا في تعامله مع الآخرين.

العزلة من أخطر الأمراض النفسية

وفي علم النفس تنتمي العزلة إلى أخطر الأمراض النفسية التي تشل قدرات الإنسان الحركية والفكرية معا، وتجعل منه كائنا معطوبا لا جدوى من وجوده، مع أن الإنسان اجتماعي بالفطرة ويرغب في التقارب من جنسه، كما يؤكد ذلك علماء الاجتماع، إلا أن ثمة معوقات كثيرة قد تحول دون هذا التقارب، وقد تزرع في بعض الأحيان مشكلات بين الإنسان وبني جنسه، وعقبات ليس من السهولة تجاوزها، وثمة طريق واحد يمكن من خلاله المرور فوق العقبات والمشكلات التي تحول دون تواصل الناس، أفرادا ومجتمعات، فيما بينهم، هذا الطريق يمكن أن نضعه في دائرة التواصل مع الآخر، فضلا عن القابلية التي يمتلكها الإنسان على تطوير أشكال الحوار مع الآخرين، حتى يتحقق التواصل بشكل جدي، لتنتهي الأمور في المحصلة إلى خدمة الأطراف المتحاورة.

ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا أن أكثر الأفراد نجاحا هم الذين يتقنون هذه اللغة، لغة الحوار، وينطبق هذا على المجتمعات، فهي أيضا عندما تكون منفتحة في إطار الحوار المنضبط بقواعده، فإن هذه المجتمعات تحصل على نتائج باهرة في النجاح والتطور، على العكس من تلك التي تتخذ من العزلة أسلوب حياة لها، ومن حسنات تنمية الحوار مع الآخرين، أنها تبني جسورا مباشرة مع جميع الأطرف، بغض النظر عن التشابه او التناقض بالأفكار والآراء وحتى الثقافات، ولكن ينبغي أن تسبق هذه الميزة برمجة عملية جدّية لتطوير قابلية الإنسان على التمسك بهذه الأمر، وجعلها جسرا إنسانيا للعبور من خلاله إلى الآخر، والتواصل معه بشتى الطرق والأساليب المتاحة، فهذه القيمة المتقدمة تشكل في حقيقة الأمر طريقا وجسرا الى التعايش بين الجميع، حتى المتضادين والمختلفين في كل شيء يتعلق بالأفكار، وقد أثبت الواقع العراقي على نحو خاص، بأن الحوار بين المختلفين سوف يؤتي أُكُلهُ حيث تم إطفاء الكثير من الفتن والاضطرابات المجتمعية عبر الحوارات، لدرجة أن أغلبية من الناس راحوا يؤمنون بالمقولة التي تقول (حوار سنة ولا قتال يوم).

الرغبة في التواصل مع الآخرين

لذلك فإن خطر النرجسية يبدأ باعتماد العزلة بنوعيها المقصودة والمرضية، وتبدأ بالأفراد وقد تنمو لتصيب المجتمع، وقد أثبت الحوار قدرته الكبيرة على التقريب بين الأفكار المتضادة، ومن ثم احتواء الصراعات والنزاعات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، واستطاعت رغبة التواصل مع الآخر أن تحاصر الكثير من الخلافات الجوهرية بين الأطراف المختلفة، ونجح الانفتاح على الآخر ضمن الثوابت بحسب التجارب والدلائل التاريخية والراهنة، في تذويب الكثير من الخلافات على مستوى المجتمع الواحد، وصراعات مكوناته مع بعضها، أو على مستوى النزاعات بين الدول والمجتمعات الكبيرة التي تضم في طياتها شرائح وفئات ومكونات تختلف مع بعضها في الأفكار والآراء والثقافات وحتى العقائد، وهذه الميزة من أهم ما ينتج عن الحوار بين المتضادين المختلفين، لذا ينبغي على الفرد والمجتمع أن يصوغ ثقافة جديدة تجعله يؤمن بالحوار كأسلوب لحل الإشكالات المختلفة مع الآخر.

ومن فوائد هذا الأسلوب أو المنهج، أنه يحجّم النرجسية، ويحاصر العزلة بالانفتاح على الآخر، لذا ليس ثمة بد من تطوير قدراتنا على مستوى الأفراد والجماعات، من اجل تطوير القابلية على التواصل مع الآخر بقدر الإمكان وضمن الثوابت غير القابلة للتفريط، حتى نحصل على جسر للعبور من خلاله إلى فكر الطرف الآخر وإيجاد نوع من العلاقات الضامنة لدرء خطر النزاعات، ولا بد من بذل المزيد من محاولات التناغم والانسجام الإنساني بعيدا عن النرجسية الفارغة، حتى لو اعترضت تحقيق ذلك صعوبات، فلا يصح استمرار القطيعة، ولا استفحال حالة التناقض والخلاف التي قد تصل الى حدود الصراع او النزاع، في حالة التباعد وعدم القدرة على مد خطوط التواصل والتفاهم، وهو أمر تمكننا منه هذه القيمة التي تُحسَب على قيم التقدم، ويمكن أن يتم لنا ذلك، في حالة إصرارنا على تطوير قابليتنا على التواصل مع الآخر، بغض النظر عن التناقضات الفكرية او الثقافات وأشكال العيش او سواها، ومع مرور الوقت ومع التطبيع الذي لا ينتقص من الذات والآخر تنمو فرص كبيرة للحوار الذي يقود إلى نتائج باهرة.

علما أن فرض التوافق بالقوة أو الإكراه المادي والمعنوي لن يقود إلى ما هو مرتقَب، لاسيما إذا عرفنا بأن الصراع ينبع من طبيعة النفس البشرية القائمة على التنافس تحقيقا للذات، وضمانا للمصالح، وتأمينا للحاضر الجيد والمستقبل الأفضل، ولكن يمكن أن نحصل على نتائج جيدة تحيّد النرجسية وتدحر العزلة، إذا كانت هنالك إرادة مشتركة لتغليب الحوار على القطيعة، مع الانتباه إلى الخطر النرجسي والتقوقع الذي ينحو إلى التعصب، فيما ينحو الانفتاح والحوار إلى التهدئة والبحث عن نوافذ جديد تطل على التواؤم الإنساني المتوافق مع الطبيعة البشرية.

اضف تعليق