q
عقد المركز حلقة حوارية بعنوان (المثقف ودوره في التغيير الاجتماعي.. مكافحة الاستبداد طريقا)، وطرح سؤالان، هل نعيش أزمة مثقف أم ثقافة مأزومة؟ وكيف يمكن إعادة تشكيل او صياغة ثلاثية (المثقف – السلطة – المجتمع). عدد من المثقفين فضل التخندق في أبراج عالية، بعيداً عن المجتمع، عزلة كبيرة تفصل بين المثقف...

عقد مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث حلقته الحوارية الشهرية في ملتقى النبأ الاسبوعي تحت عنوان (المثقف ودوره في التغيير الاجتماعي.. مكافحة الاستبداد طريقا)، بحضور عدد من الباحثين وكذلك المشاركين عبر المنصات الرقمية.

وقدم الباحث في المركز محمد علاء الصافي ورقة جاء فيها:

الثقافة هي قيمة إنسانية عليا ومجموعة من الأفكار والعلوم والخبرات والتربية والآداب والمعتقدات، يعتنقها الإنسان وتحدد مسار حياته وطريقة لبسه وأكله وبيته وكلامه وعمله، فهي عنصر مهم في عملية بناء الحضارات وتقدمها.

والمثقف هو الإنسان المهذَّب المستنير مستقل الفكر، الذي يعمل ليرتقي دائما بعاداته وإنجازاته وتواصله، ومطلع على مجموعة من العلوم والمعلومات، وله تفاعل ورأي منطقي بكل ما يدور حوله، ويشارك بكل بناء مجتمعي وثقافي وحضاري لمجتمعه وأمته.

وهناك دور مهم للمثقف، وهو تقديم الأفكار والحلول المختلفة لكل المشكلات، ومن أجل المجتمع وحرياته واستقلاله وتقدمه، فالحضارة لا تقوم على الجهلاء، وإنما على المثقفين والأذكياء، وذلك بنقل التجارب الناجحة للناس ودفعهم الى العمل بها وفق ظروفهم.

وأهم تعريف للمثقف، هو من يحاول تحطيم قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات التي تفرض قيودا شديدة على الفكر الإنساني وعلى التواصل ما بين البشر.

أما ما يعطي الوصف القريب من موضوعنا عن المثقف فهو كما وصفه جان بول سارتر "أن المثقف هو من عليه واجب الوفاء لمجموعة سياسية واجتماعية، مع ممارسة حقه في انتقادها، أو أنه من يتدخل في ما لا يعنيه مع استيفاء شرط الخبرة والدراية، وهو من يسعى جاداً بعَّدته المعرفية والفكرية لإيقاظ الهمم والضمائر وتحريك سواكن الغفلة والتلهي عن قضايا وأوضاع خطرة جسيمة.

في القرن العشرين، كان للمثقف الغربي، عموما ً، وضع اعتباري خاص، أي حتى خارج التكتلات والأحزاب السياسية؛ فقد دأب في اعتماد مواقف وقضايا في ضوء فكره ومبادئه، وفي العمل، على التعبير عنها بقلمه بالوسائل الإعلامية والتواصلية المتاحة. فمن المفترض في المثقفين، أن يكونوا فاعلي الثقافة ومنتجيها ومتطابقين ما أمكن مع قول "المثقف هو من يساهم في تحريك البحر المتجمد فينا". لكن يحسن دوماً أن ننظر إلى مثل هذا التعريف وما يضاهيه مثالية في مرآة واقع الحال والتجربة، وعبر نماذج مخصوصة ملموسة.

وحري َّ بالمثقف النموذجي، وأولى له، أن يتموقع في المجتمع المدني ويظهر، كما أكد ماكس فيبر وأنطونيو غـرامشي، في مقام نقدي إزاء سلطات التشريع والحكم مغاير للسياسي؛ بل هو فرد يلزم وجوده ويخاطر به انطلاقاً من حس ٌ نقدي مطرد؛ فرد يرفض -مهما يكن الثمن- التعابير السهلة، والأفكار الجاهزة، والمواقف الملتبسة، إزاء خطابات رجال السلطة وأفعالهم، وهو لا يرفضها فحسب، بل يجهر لهم برفضه أيضا.

دور المثقفين في العالم العربي

بهت دور المثقف في العالم العربي، نتيجة لأسباب عدة، لعل أهمها التجريف الذي مورس بحق الحركة السياسية العربية، وأفكارها، وتغييب دور الطبقة الوسطى، الملهمة في الفنون والفكر والأدب، وأيضاً بسبب انخراط عدد لا يستهان به من النخب الثقافية في تحالف مع قوى السلطة الحاكمة، التي تزامنت مع تحول المجتمع العربي في معظم البلدان، من النمط المنتج، إلى نمط المستهلك، والاكتفاء بلعب دور الوسيط.

يضاف إلى ذلك، أن عدداً لا يستهان به من المثقفين العرب، فضل التخندق في أبراج عالية، بعيداً عن المجتمع، وموروثه وتقاليده وأعرافه والعناصر التي صنعت تاريخه. وقد أدى ذلك إلى حالة من الفصام والتناقض بين الأمل لتغيير الواقع الاجتماعي، وبين الانعزال عن هذا الواقع.

النظام التعليمي التلقيني وغياب الحرية الفكرية وحرية البحث العلمي والتاريخي او حرية التعبير والمحددات الاجتماعية والسياسية والكثير من المسكوت عنه ساهم بخنق الحركة الثقافية العربية بشكل كبير وعدم ظهور مثقفين كبار قادرين على حمل لواء التغيير والتنظير لأنظمة ديمقراطية منتجة الا ما ندر، وساهمت هذه العوامل بهجرة الكثير منهم نحو الغرب والابتعاد عن مجتمعاتهم وبيئتهم الأم.

يقرأ الكاتب الفلسطيني أحمد مفلح دور المثقفين العرب في التغيير المجتمعي وقدرتهم على استشرافه، ولا سيما من جهة التنبّؤ بثورات الربيع العربي، فيحصر البحوث والدراسات والمقالات المنشورة في مجلة "المستقبل العربي" والمتصلة بالتغيير المجتمعي من خلال العناوين الرئيسة أو الفرعية، بين عامَي 1991 و2010، معتمدًا تقنية تحليل المحتوى. وبحسب الكاتب، كانت قراءة المثقفين معنى التغيير المجتمعي وعوامله وقواه غير واضحة، وكان دور المثقفين ضعيفًا، وليس معدومًا، وسبقتهم قوى المجتمع الشعبية وفاجَأتهم بثوراتها وحراكها. أما بالنسبة إلى استشرافهم، فيرى أنه وإن كان موجودًا، فإنه مشوّش ومغلّف بالتردّد وعدم الثقة.

إن أزمة الهوية في دول الربيع العربي أعادت إلى ساحة السجال إشكال تعريف: من نحن؟، "وهذا من الإشكالات المركزية التي تفاعل معها المثقف العربي سلبًا وإيجابًا، والتي تنتظر تحليلا وحسماً حتى لا تظل أسئلة بلا أجوبة في الثقافة العربية".

ومن دروس الربيع العربي المتعلقة بأدوار المثقفين في التحولات المفصلية لمجتمعاتهم، أن ثورات الشباب العربي لم تسبقها أو تستصحبها ثورة فكرية، فلم يحدث أن قامت ثورة كبرى في التاريخ الحديث دون مثقفين، وفي مقابل ذلك لم تنشب حركة مناهضة كبرى للثورة دون مثقفين.

فلقد كان المثقفون آباء الحركات وامهاتها، ويُنتظر من المثقف العربي أن يعيد مراجعة مفاهيمه، وبناء تصوراته، وتكييف مناهجه، وتجديد مقارباته بغاية ولادة المثقف العربي من جديد ليُساهم بفاعلية في قيام نظام ديمقراطي يضمن سيادة الدولة من أن يخترقها الاحتلال الأجنبي، وسيادة الشعب من أن يُسقطها الاستبداد، والمواطنة الجامعة من أن تنسفها الانتماءات الأولية".

كشف الربيع العربي عن هشاشة البنية السياسية العربية التي اخترقها الاستبداد والفساد، وعن ردة كثير من المثقفين عن قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، "ما يُبرز أزمة المثقف العربي المعاصر وهو يراوح مكانه ضمن ثالوث السلطة والأيديولوجيا والمصالح".

نسجت قطاعات واسعة من المثقفين العرب تحالفات سياسية وأيديولوجية مع المؤسسة العسكرية والأمنية والمستفيدين من الوضع السابق؛ تحالفات، قوامها الحفاظ على بنية الدولة العميقة المتجلية في المؤسسات السابقة، ولو بعناوين وأسماء جديدة، وسد الطريق أمام القوى الجديدة المؤمنة بالإصلاح والتحديث والديمقراطية بما يفرغ الثورات العربية من مضمونها، ويجعلها لا ترقى إلى مستوى الثورات الاجتماعية الحقيقية، وأن الوظائف التقليدية للمثقف العربي لم تبرز بالشكل المطلوب في مرحلة مفصلية في مسار الشعوب العربية.

التغيرات المتسارعة التي عصفت بالعالم العربي في الالفية الجديدة في أبعادها الثقافيّة والسياسيّة، تحتاج محاولة جادة لتفسير ظاهرة الثورات العربيّة وتجليات العنصر الثقافيّ فيها، مثل الهوية واللغة والمواطنة الرقميّة وشبكات التواصل الاجتماعيّ، فضلًا عن الاستقطابات الثقافيّة والاجتماعيّة الجديدة المتصلة بالعقائد والطوائف والتراث والذاكرة والتاريخ، والموصولة أيضًا بجدل الديمقراطية والشورى والعلمانية والدين،...إلخ.

ان استئناف المثقف دوره من جديد يأتي من خلال مدخل يربط النظر بالفكر والقلم بالعمل؛ ويتمثّل ذلك في هبوط المثقف إلى الهموم اليومية التي يعيشها المواطن العربي، بدلًا من التنظير والانعزال عن الناس، ويعطي عنه صورة رجل التأمل المتجرد، المُنفصل عن الواقع.

إن عزلة كبيرة تفصل بين المثقف العربي، خصوصاً المثقف الحداثي، والدين، وهذا أحدث فجوة كبيرة بينه وبين الجمهور بسبب انفصاله عن جذوره الحضارية، واعتماده نهج التغيير الفوقي الآتي من أعلى، المتعالي على القوى المتشكلة في الواقع، والمتجاهل دينامياتها.

إن لكلِّ مُثقفٍ أو مُفكر جمهورًا وقاعدة؛ أيْ جمهورًا مُعينًا يَسمعه، والقضية هي: هل عليه أن يُرضي ذلك الجمهور، باعتباره زبونًا عليه أن يُسعِده، أم أن عليه أن يتحدَّاه؛ ومن ثَم يُحفِّزه إلى المعارضة الفورية أو إلى تعبئة صفوفه للقيام بدرجةٍ أكبر من المشاركة الديمقراطية في المجتمع؟ أيًّا كانت الإجابة على هذا السؤال، فإنه لا بد من مُواجَهة السلطان أو السلطة، ولا مَناصَ من مناقشة علاقة المُثقف بهما.

وتم فتح باب النقاش من خلال طرح السؤالين الآتيين:

السؤال الاول: هل نعيش أزمة مثقف أم ثقافة مأزومة؟

السؤال الثاني: كيف يمكن إعادة تشكيل او صياغة ثلاثية (المثقف – السلطة – المجتمع).

المداخلات:

الشيخ مرتضى معاش، باحث في الفكر الإسلامي المعاصر:

السؤال الأهم الذي يجب طرحه، من هو المثقف؟ هل هو المفكر أم الأكاديمي أم رجل الدين؟

برأيي أن المثقف هو من يملك المسؤولية والتأثير على الناس وإمكانية تغيير حياتهم وواقعهم، مثل المعلم، الذي يقوم بدور تعليمي مسؤول ويقوم بتغيير ثقافة انسان معين وينقله الى مرحلة أخرى أعلى فهذا هو المثقف الذي يملك رسالة أدت الى تغيير حياة انسان، صناعة الأثر من خلال المعرفة وكما نعلم ان المعرفة هي أساس التغيير لدى الانسان.

من ضمن الأساسيات التي يجب أن نراها في المثقف هي الوعي التاريخي، ليس فقط كمعلومات بل كعبرة يستفيد منها الانسان ونقل تجارب الاخرين الناجحة الى مجتمعه.

النقطة الثانية التي يجب ان يتمتع بها المثقف هي الفهم المعاصر، أن يكون فاهما لكثير من الأمور التي تدور حوله، هناك الكثير ممن يدّعون الثقافة نجدهم لا يفهم ماذا يجري ولا يعرف حركة التاريخ أو حركة المجتمع او حركة الصراعات السياسية في البلد والبلاد الاخرى، وكيف تتأثر وتترابط هذه المؤثرات مع بعضها وكيف يفككها المثقف في محاولة لفهم تعقيداتها.

النقطة الثالثة، يجب ان يكون مستقلاً، سواء كان مستقلا عن السلطة او مستقلا مالياً، لكن بلا نزعة ذاتية، والتي قد تتحول بمرور الوقت الى نرجسية، تعزز لديه الشعور بالفوقية والنخبوية وأنه مثقف فوق العادة.

المثقف يجب ان يتوفر لديه استقرار نفسي وان لا يكون لاعناً وساباً للمجتمع وهذا بالأساس ليس مثقفاً، بل يجب ان يكون فاعلا ومؤثرا وايجابيا كما طرحنا في نموذج المعلم الناجح، وعدم الركون لثقافة الإحباط واليأس والانهزام النفسي نتيجة للواقع المتخلف، وان لايكون خاضعا للاستلاب أمام المنجز الغربي في جميع المجالات الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وهذا ما نلاحظه كثيرا وهو أحد مشاكل وازمات الثقافة العربية والإسلامية.

دور المثقف هو إصلاحي للمجتمع لا تهديمي وتفكيكي، معتمداً على العلم والمعرفة لا على المزاجيات والاهواء. المثقف هو المنتج للثقافة، وعن الامام علي (ع): (يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ: إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ النَّاسُ، ثَلَاثَةٌ فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ)، والعالم الرباني هو من يصنع التأثير والمعرفة والثقافة في مجتمعه ولذلك لا توجد ثقافة مأزومة بل هناك مثقف مأزوم وهو من يقرر ان يكون خاضعا للسلطة الفاسدة مثلا من عدمها لا العكس.

هناك تنازع بين السلطة والمثقف على المجتمع، السلطة تخاطب المجتمع بخطاب غرائزي (الامن–الغذاء–العيش)، بينما وظيفة المثقف ان يخاطب المجتمع بخطاب العقل، وهذا الصراع بين السلطة والمثقف على المجتمع مستمر وغالبا تتغلب السلطة على المثقف، لان المثقف تأثيره بطيء وتراكمي ويحتاج الوقت الكثير لكي يتحول الى ثقافة وسلوك. واذا استسلم المثقف لضغوط السلطة وعدم استجابة الكثير من المجتمع لأفكاره فعندها سيكون قد خرج من وظيفته الأساسية التي وجد من اجلها.

الدكتور محمد مسلم الحسيني، باحث علمي واستاذ جامعي‏ في بروكسل:

الثقافة المجتمعية تتطور وتنبعث وتقوم على أعمدة ثلاثة: سلطة مستقرة ومجتمع واع واقتصاد قائم. فهي حصيلة ترابط وانسجام بين هذه الأركان الثلاثة حيث أن المجتمع غير مستقر سياسيا لا يوفر اسباب النهضة الثقافية لأبنائه، فالثقافة لا تتعزز بفقدان الأمن والأمان والاستقرار السياسي وكذلك الحال عندما يكون الجهل والتخلف عنصران يغزوان فكر المجتمع ووجدانه حيث يصبح الوهم حقيقة في ظرف اقتصادي يشل حركة المجتمع وتفكيره.

حينما تتوفر هذه الأركان بشكل صائب عندها ينتقل المجتمع إلى مرحلة الخيارات الستراتيجية في ثقافاته. تماما كما تبنى البيوت، فالأساسات أولا ثم بعدها الهيكل ثم التشطيب. الاساسات الصحيحة تتقبل الهياكل الضخمة كي تقوم فوقها وإلا فالمصير هو السقوط والانهيار. هيكلة الثقافة وتشطيبها يجب أن تقوم على مبادئ معروفة وواضحة ومنها:

ألا تنشأ الثقافة المجتمعية في مجتمع متعدد القوميات والعقائد والاتجاهات على أسس أيديولوجية منحازة بل يجب أن تكون ثقافات متجردة قائمة على ثقافة احترام الرأي والرأي الاخر.

أن تكون هذه الثقافات المكتسبة منبثقة عن الإيمان والوجدان والقيم والمحبة والأدب والمعرفة والعلم والعدل والأخلاق. حيث تمر بمراحل عمرية تبدأ بالثقافة التربوية البيتية الصحيحة، ثم بالمدرسة النموذجية، ثم تخترق المجتمع المؤهل في ادامتها وتطويرها من خلال وجود وسائل إعلام نزيهة وحرة وقادة فكر متفتحي الرؤى والآفاق وإدارات تثقيفية متخصصة غير منحازة.

ألا تكون ثقافة المجتمع المكتسبة ثقافة مستوردة لا تتناسب مع الواقع الإجتماعي القائم بل تتضارب مع التراث والقيم. نعم ممكن أن نتأثر بالثقافات الخارجية في تطوير الفهم والمعرفة والأخذ بما هو صالح ونبذ ما هو طالح دون التقليد الأعمى للمفاهيم والافعال، كي تبقى ثقافاتنا حرة علمية غير هجينة تنسجم مع المنطق والأخلاق والحق والتطور وتحافظ على مبدأ الوسطية في الرؤى والأفكار وخالية من شحنات التمرد والعنف والنعرات وخطابات الكراهية ورفض الآخر.

في كل بقاع العالم تكون الثقافات المجتمعية نسبية فلا توجد ثقافات متكاملة صائبة على طول الخط، بل هناك ممارسات سلبية وإيجابية وربما ماهو إيجابي في نظرهم هو سلبي في نظرنا وهنا تكمن النسبية في طبيعة الثقافات وطبيعة تطبيقها. دون هذا الترابط القوي بين أركان وأسس الثقافة وبين مادتها ونسيجها لا يمكن بناء ثقافة مجتمعية صادقة وواعدة.

الباحث حامد الجبوري، مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:

هنالك مقولة شهيرة تقول، ان الاقتصاد هو عمق السياسة ونقول بل ان الثقافة هي عمق السياسة والاقتصاد، وكلما كانت الثقافة اصيلة فهي تنعكس حتماً على السياسة والاقتصاد ونجد العكس تماما في العراق، حيث ان السياسة هي الفاعل الأول في المشهد العراقي وهي المؤثرة على الجانب الفكري والثقافي وهذا يشكل خللا كبيرا في الثقافة العراقية.

يجب علينا ان نطرح سؤالا اجده مهما، هل دور المثقف إصلاح وتغيير المجتمع أم التنوير؟

يجب ان لا يسعى المثقف للوصول الى السلطة لأنه سيكون متماهيا مع السلطة وبعيدا عن المجتمع الذي يجب ان يبقى قريبا منه باستمرار.

نقد السلطة من الأشياء الأساسية التي يجب ان تكون من سمات المثقف، لأنه بلا نقد وتصحيح يكون المجتمع ميتاً بلا روح أو أمل للتغيير.

الحفاظ على الفضاء العام من اساسيات وجود المثقف ويجب ان يكون غير محتكر لجهة او فئة معينة في المجتمع دون غيرها، بل الساحة للجميع والحرية أساس لكي يكون المثقف والثقافة على الطريق الصحيح.

الكاتب حيدر الجراح:

يجب أن يكون المثقف ملّما بكل ما يحيط بالمجتمع وعلى دراية وقراءة ومتابعة للتغييرات الاجتماعية الحاصلة بمرور الزمن والاحداث، لكن دون ان يكون رأيه مبتذلا ومكررا فقط ليثبت بأنه موجود.

التحدي والاستفزاز للسلطة من اهم مهام المثقف، يجب ان لا تكون السلطة بلا ضغط ونقد وتعيش حالة الاسترخاء، بل يجب ان تبقى تحت نيران المثقف والثقافة، وكل سلطة يجب ان تكون في تحدي واستفزاز مستمر.

الثقافة سبقت المثقف وبدأت من خلال الحركة الاجتماعية في جميع المجالات سواء اقتصادية او فكرية او دينية او مجال الفنون والادب ومن ثم جاء الافراد المثقفون ليقيمون التجارب كل على حدة، لذلك عند غياب المثقف الناقد والذي يمتلك المعرفة تنحدر الثقافة دون أي مقاييس ونجد التردي الثقافي في أوجه.

الدكتور خالد العرداوي، مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:

الثقافة تسبق المثقف، والمشكلة التي نعيشها اليوم هي ازمة ثقافة مأزومة، الوسط الثقافي هو من ينتج المثقفين وعندما يكون الوسط مأزوما فبكل تأكيد سينتج لنا مثقفين مأزومين.

ومن الصعب جدا بل ومن النادر أن ينزع المثقف ثقافة محيطه ومجتمعه دون أن يثور عليها، الا اذا كان بمنزلة الأنبياء او الاوصياء وهذا كان دورهم، فهم مثقفو وعلماء زمانهم وهم من غيروا العادات والتقاليد والثقافات التي كانت سائدة وخاطئة بمنهج إصلاحي جديد.

إذا استطعنا ان نحرر الثقافة من ازمتها وقيودها عند ذلك نستطيع إعادة صياغة وتشكيل المجتمع والسلطة والمثقف. علينا ان نحدد من هو المثقف الذي نحتاجه في التغيير، وهل كل المثقفين مناسبين لمحاربة الاستبداد الاجتماعي والسياسي؟

النتيجة قطعا كلا، لأن بعض المثقفين هم بالفعل من ضمن أدوات السلطة تجاه المجتمع وليس العكس، لذلك ظهرت مصطلحات مثقفو السلطة او ابواق السلطة أو المثقف المنتمي او اللامنتمي، ونحن بأمس الحاجة اليوم للمثقف المنتمي لمجتمعه وغير المغترب المبتعد في برجه العاجي، مثقف من المجتمع وبنفس الوقت يحمل الأفكار الحداثوية ويسعى لتصحيح العادات والأفكار السيئة في مجتمعه.

الباحث حسن كاظم السباعي:

السؤال عن؛ "هل نعيش اليوم أزمة مثقف أو ثقافة مأزومة؟" كمثل السؤال عن الفرق بين "النظرية" و "التطبيق". فنتساءل هل المشكلة في النظرية أم في التطبيق؛ وبناء على هذه المقارنة؛ فإننا أمام رؤية جديدة عن "الثقافة" مختلفة عما كان سائدًا من قبل، فالثقافة التي كانت عبارة عن مجموعة من المعارف تقود للتغيير نحو الأفضل، انقلبت اليوم إلى العكس وصارت تقود المجتمع نحو التقهقر؛ مثلا: كل من صار وجيها فهو المثقف وصاحب الكلمة القوية بغض النظر عن علمه أو جهله الواقعي. هذا النوع من "الثقافة" حري أن يطلق عليه عنوان "اللاثقافة؛ anticulture".

أما المثقف الحقيقي الصادق؛ ذاك الذي يحمل الهم للتغيير، فلا كلمة ولا رأي لمن لا يُطاع بل ولا يجد أحدًا يلتفت إليه ويسبر بحر علمه وحكمته فهو كالعالم بين جهال. فمعنى الثقافة انقلب وتشخيص المثقف صار بالوجاهة لا بالعلم والإصلاح.

أما بالنسبة لصياغة ثلاثية المثقف والمجتمع والسلطة فذلك باختصار؛ أمر قد انتهى مفعوله منذ سقط احترام المثقف وحلّ محله تلك القوة الموازية المغشوشة التي أبطالها هم رموز العالم الافتراضي وحسب.

الدكتور قحطان حسين طاهر، باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

ما أكثر الثقافات وأقل المثقفين، كلا الحالتين موجودة في مجتمعنا العراقي اليوم، أزمة مثقف وثقافة مأزومة. هنالك تبادل في التأثير والتأثر بين المثقف والبيئة الثقافية، اذا كان المثقف نتيجة ثقافة مأزومة فبكل تأكيد سيكون مثقف غير مؤثر ومهزوم أما اذا كان نتيجة بيئة ثقافية إيجابية فحتماً سيكون مؤثراً وفاعلا في مجتمعه.

لا بد ان تتوفر للمثقف بيئة حرة للتفكير، وهذه شبه مفقودة في مجتمعنا لأنه مجتمع مليء بالقيود، أحيانا قيود دينية او اجتماعية او سياسية او قيود قانونية، وإذا ما أراد المثقف ان يكون ملماً في كل مجالات مجتمعه سنجده يصطدم بكثير من العقبات والقيود وتحدد من منطقة عمله وتأثيره.

أحيانا يكون المثقف نفسه هو المشكلة قبل غيره، وقد يكون مصاب بالغرور او النرجسية او اعتبار نفسه اعلى من المجتمع وهذا سيصل بالمثقف الى الاغتراب والابتعاد عن دائرة التأثير.

المثقف يجب ان يكون محايداً وموضوعيا ومعتدلاً ووسطياً، من غير الممكن ان يكون المثقف مصلحا في مجتمعه وهو يتسم بفكر متطرف او يتعصب لجهة معينة من المجتمع.

ويجب ان يكون المثقف إيجابيا وغير انعزالي في مواجهة السلطة وانحرافات المجتمع، وعدم اليأس والاستسلام اذا ما واجهته الصعوبات او قلة الاهتمام من قبل المجتمع.

السلطة يجب ان لا تعتبر المثقف عدواً لها وتعمل على اقصاءه وتهميشه او حرمانه من حريته بالتعبير والنقد، بل يجب الاستفادة مما ينقد ويكتب لإصلاح الأخطاء والهفوات في العمل والاستفادة من ملاحظاته.

على المجتمع ان لا يعتبر المثقف الحقيقي خطراً على اعرافه وعاداته وتقاليده، الا اذا كان سلوك المثقف موجه فقط في هذا الاتجاه، المثقف له رسالة واهداف يريد تحقيقها للرقي بالمجتمع ونقد سلبياته وتصحيح عاداته السيئة وعلى المجتمع ان يعي ذلك جيدا.

الدكتور حسين السرحان، باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:

وظيفة المثقف الأساسية هي كسر القوالب الجاهزة باتجاه التصحيح والتنوير والتعديل، مجتمعاتنا عانت لعقود بل قرون طويلة من الاستبداد والاحتلالات وهذه الثقافة أصبحت متجذرة ضمن القوالب المجتمعية والسياسية والدينية، كل نظام شمولي مستبد نجده يتحكم بكل هذه القوالب كيفما يشاء ووظيفة المثقف هنا تكسير هذه القوالب وتنوير المجتمع وتصحيح أفكاره.

كما اننا نواجه في عصرنا الحالي سياسة نشر التفاهة والاحتفاء بها من قبل السلطة واقصاء وتهميش المثقف وخطاب العقل وكل ذلك للسيطرة على الشعوب والتحكم بها كيف ما تريد السلطة لأن الحاكم المستبد لا تؤثر على سلطته التفاهة ونشرها بقدر ما يتأثر بوجود المثقفين والمفكرين.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2023
http://shrsc.com

اضف تعليق