q
حينما ندرس تاريخ هذه المدنيات البائدة أو العليلة تفصيلًا، ونقارن بين إحداها والأخرى، نجد ما يدل على وجود ما يشبه النموذج المتكرر في طريقة انهيارها وتدهورها وسقوطها. ونحن نتساءل اليوم بطبيعة الحال، إن كان لا مناص لهذا الفصل المعين من التاريخ من أن يعيد نفسه في حالتنا الراهنة...

ربما كان أرنولد توينبي المؤرخ المعاصر الوحيد الذي استرعى انتباه العالم بأسره وإعجاب الناس أجمعين. وقد انتهت خدمته أخيرًا كأستاذ باحث في التاريخ الدولي بجامعة لندن، وكمدير للدراسات بالمعهد الملكي للشئون الدولية. ويجمع كتابه «دراسة التاريخ» الذي يتألف من عدة مجلدات بين المعرفة التاريخية العميقة النادرة والتصور البعيد المدى الذي يتجه نحو الأساطير ومصطلحات التاريخ. وقد وُصف هذا الكتاب ﺑ «أنه بعد كتاب «رأس المال» الذي ألفه كارل ماركس، أكثر المؤلفات في النظريات التاريخية إثارةً للتفكير مما كُتب في إنجلترا.» ومن المبالغة أن نتوقع لكتاب له ما لهذا الكتاب من أفق تاريخي فسيح أن يصبح شائعًا؛ بمعنى أن تقرأه من أوله إلى آخره، وأن تهضمه عامة الناس. بَيد أن نموذجًا لا بأس به من نظرته الثورية بات مألوفًا للقارئ العادي عن طريق المجلات الواسعة الانتشار والملحقات الأسبوعية للصحف اليومية، وعن طريق منصات المحاضرات العامة.

ومبحث توينبي الرئيسي هو أن التاريخ لا يمكن إدراكه إلا بالنظر إلى المدنيات باعتبارها الوحدات الحقيقية للتاريخ، ويستحيل إدراكه بالمعالجة المألوفة التي تقتصر على سيرة شعب من الشعوب. وقد وجد أن إحدى وعشرين مدنية قد قامت في الستة الآلاف سنةً الماضية، وأن جميع هذه المدنيات قد انهارت أو فنيت فيما خلا المدنية الغربية (أي المدينة اللاتينية المسيحية، التي انبثقت من الهلينية عندما بلغت صورتها الرومانية)، غير أن هذه المدنية الأخيرة التي بقيت على وجه الزمن قد تعقدت مشكلاتها إلى حد كبير، ولا يستطيع أحد أن يضمن نجاحها في المستقبل.

ولكن توينبي - بالرغم من هذا - لا يفتأ يردد إيمانه بنظرية «التحدي ورد الفعل» التي تغمر ميدان الحركة الإنسانية بأسره، وهو يحاول أن يؤكد عامل قدرة الإنسان على الخلق، وينبذ نظرية «قانون القضاء والقدر الصارم»، ويقذف بها في هُوة العقائد البالية. وسواء لديه اتخذ هذا القانون صيغة الحتمية التي يفرضها العنصر أو البيئة أو المستوى الاقتصادي، ولو أن القدرات المجهولة للصفة الخلَّاقة عند الإنسان اهتدت وتحررت بطريقة التطور الديني «الرفيقة» اللينة، لأمكن لحضارة الغرب أن تنقذ نفسها، وبالأخص إذا كرَّست نفسها ﺑ «المجتمع» الذي هو هدف الحضارات؛ ففي هذا تحول الروح «من الدنيا، ومن المادة، ومن الشيطان، إلى مملكة السماء».

وُلد أرنولد توينبي في لندن في عام ١٨٨٩، وتلقَّى تعليمًا كاملًا شاملًا في الدراسات القديمة بكلية باليول في أكسفورد، وترعرع في جو الأمن السائد حينئذٍ، ذلك الجو الذي شعر به الناس حقيقةً واقعةً في مستهل هذا القرن، واستمتع بذلك الوهم اللطيف الذي وصفه توينبي نفسه بقوله: «إن التاريخ قد حدث لغيرنا من الناس.» وكانت الحرب العالمية الأولى هي أولى الكوارث التي هدمت هذا الإحساس البريء المستحب، كما أن سنوات السلم التي أخذت تتقدم باطراد نحو الحرب العالمية الثانية نهضت دليلًا على انحلال المدنية الغربية. ويعتقد توينبي اليوم أنه إذا نشبت حرب عالمية ثالثة فستكون على الأرجح سببًا في فناء البشر، ويستخلص من ذلك أنه من واجبنا في هذه الساعة الحرجة أن نقابل هذا التحدي الذي يُصوبه نحونا عالم طبيعي قوي موحَّد بديانة عالمية قوية موحَّدة.

وإن من يقرأ المقتطَفات التالية من مقالات توينبي - سواء اتفق أو اختلف معه في الرأي بجملته أو بتفصيله - سرعان ما يسلم بأن ما كتبه توينبي يحقق المثل الأعلى الذي رسمه لورد آكتن حين قال: «إنه يتميز عن التاريخ المشترك لجميع الشعوب، وليس عبئًا على الذاكرة، ولكنه إضاءة للروح.»

(١-١) هل نحن خاضعون لقدر محتوم؟

هل يعيد التاريخ نفسه؟ كان الكُتاب في عالمنا الغربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يحاولون الإجابة عن هذا السؤال لمجرد التدريب على البحث العلمي. إن شدة الذهول التي أصابت أجدادنا من جرَّاء الرفاهية التي اتسمت بها الحضارة في ذلك الحين قد غشت أبصارهم حتى لم يروا أمامهم إلا رأيًا عجيبًا يجافي الحقيقة، وتوهَّموا أنهم «ليسوا كغيرهم من الناس»، واعتقدوا أن مجتمعنا الغربي يبرأ من إمكان وقوعه في تلك الأخطاء والنكبات التي أدت إلى انهيار بعض المدنيات الأخرى، التي أصبح تاريخها من بدايته إلى نهايته كتابًا مفتوحًا. أمَّا بالنسبة إلينا نحن أبناء هذا الجيل، فقد أصبحت لهذا السؤال القديم على حين غرة دلالةٌ عملية أخرى. وتنبهنا إلى الحقيقة (وإني لأعجب كيف يعمى عنها الإنسان)، وهي أن الرجل الغربي وأعماله ليست أشد حصانةً من المدنيات البائدة، مدنيات الأزاتقة والأنكا والسومريين والحيثيين؛ ومن ثَم فنحن اليوم نبحث - في شيء من الجزع - في ثنايا الكتب المقدسة عن الماضي لعلنا نلتمس فيها درسًا نستطيع الإفادة منه. فهل التاريخ يمدنا بأي نوع من أنواع المعرفة التي تتعلق بمصيرنا؟ وإن كان يمدنا بنوع منها، فما مداه؟

إن نظرةً شاملة إلى الرقعة التاريخية في ضوء ما نعلمه اليوم، تُبيِّن أن التاريخ - حتى اليوم - قد أعاد نفسه عشرين مرة تقريبًا، وفي كل مرة يتمخض عن مجتمعات بشرية من النوع الذي ينتمي إليه مجتمعنا الغربي، كما تُبيِّن أيضًا أن هذه المجتمعات التي نُسميها المدنيات - ربما فيما خلا المدنية الحاضرة - قد بادت فعلًا أو هي في دور الاحتضار. ثم إننا - فوق ذلك - حينما ندرس تاريخ هذه المدنيات البائدة أو العليلة تفصيلًا، ونقارن بين إحداها والأخرى، نجد ما يدل على وجود ما يشبه النموذج المتكرر في طريقة انهيارها وتدهورها وسقوطها. ونحن نتساءل اليوم بطبيعة الحال، إن كان لا مناص لهذا الفصل المعين من التاريخ من أن يعيد نفسه في حالتنا الراهنة: هل هذا النمط المتكرر في التدهور والسقوط ينتظرنا بدورنا باعتباره قدرًا محتومًا لا أمل لحضارة من الحضارات في الفرار منه؟

إن الإجابة على هذا السؤال - في رأي الكاتب - هي بالنفي بكل تأكيد. إن الجهد الذي يُبذل لخلق صورة جديدة من صور الحياة - سواء أكانت نوعًا جديدًا من الحيوانات اللافقرية أو نوعًا جديدًا من المجتمع الإنساني - قلَّما، بل يستحيل أن ينجح في المحاولة الأولى؛ فليس الخلق عملًا هيِّنًا بكل هذه السهولة. إنما يبلغ نجاحه النهائي بعد عدة محاولات تتعثر في الزلل والخطأ. ويترتب على ذلك أن الفشل في التجارب السابقة، لا يحتم فشل التجارب اللاحقة بدورها بالطريقة عينها، بل إنه ليهيئ الفرصة لهذه التجارب الأخيرة لكي تحقق النجاح عن طريق الحكمة التي يمكن أن تُكتسب من أسباب الفشل. إن تتابع الفشل فيما مضى لا يكفل النجاح بطبيعة الحال للمرحلة اللاحقة، كما أنه لا يحتم عليها الفشل بدورها. وليس هناك ما يمنع حضارتنا الغربية من أن تتأثر بسوابق التاريخ - إن هي شاءت - فتنتحر انتحارًا اجتماعيًّا. بَيد أنه لا يتحتم علينا أن نحكم على التاريخ بأن يعيد نفسه. وأمامنا الفرصة أن نوجه التاريخ في عصرنا - بجهدنا - وجهةً جديدة غير مسبوقة. ولقد وُهبنا باعتبارنا بشرًا هذه القدرة على الاختيار، وليس بوسعنا أن نلقي تبعاتنا على الطبيعة أو على الآلة، بل ينبغي لنا أن نواجه مسئولياتنا، والأمر مفوَّض لنا.

(١-٢) الموقف الدولي الحاضر

ما هي القضية التي تثير هذا القلق اليوم في كل أرجاء العالم؛ بين الأمريكان والكنديين، وبين أنفسنا وجيراننا الأوروبيين والروس …؟ سوف أقدم إليكم رأيي الشخصي، وهو رأي - كما سوف ترون - يقبل الجدل. عقيدتي الشخصية أن هذه القضية المفزعة قضيةٌ سياسية، وليست قضية اقتصادية. ولست أعتقد أن هذه القضية السياسية لا تتعلق بالوحدة السياسية للعالم في المستقبل القريب. إني أعتقد أن العالم سوف يتَّحد سياسيًّا في المستقبل القريب على أية صورة من الصور، وأن هذه النتيجة قد انتهينا من الوصول إليها. ولعل هذه العقيدة فيما أظن هي أكثر مبادئي عُرضةً للجدل، ولكني لا أملك إلا أن أذكر ما أعتقده بأمانة وإخلاص (ولست أرى كيف يستطيع المرء أن يبلغ نتيجةً غير هذه، إذا هو تدبَّر أمرين اثنين؛ مقدار اعتماد شعوب الأرض في وقتنا الحاضر بعضها على بعض، وقوة الفتك في أسلحتنا الراهنة؛ ثم ضم هذين الاعتبارين أحدهما إلى الآخر). أعتقد أن القضية السياسية الكبرى المفزعة الحقيقية اليوم لا تنحصر في الشك في وحدة العالم السياسية الوشيكة، بل في أي طريق من الطريقين الوحيدين الممكنين سوف تسير هذه الوحدة العاجلة.

فهناك الطريقة العتيقة المألوفة التي لا يستسيغها أحد، طريقة الحروب المتواصلة التي تبلغ نهايةً مُرة تستطيع عندها دولة حية كبرى أن تنقضَّ على منافستها الأخيرة الباقية، ثم تفرض السلم على العالم بحق الغزو. هذه هي الطريقة التي وحَّدت بها روما بالقوة في القرن الأخير قبل الميلاد العالمَ الإغريقي الروماني، ووحَّدت بها إمارة «تسن» ذات العقلية الرومانية العالم في الشرق الأقصى في القرن الثالث قبل الميلاد. ثم هناك التجربة الجديدة، وهي الحكومة التعاونية العالمية - ولا أقول إنها طريقة جديدةٌ كل الجدة - فقد كانت هناك محاولات فاشلة سابقة لإيجاد طريقة تعاونية للتخلص من المتاعب التي انتهت فعلًا بفرض ميثاق السلم الروماني، وميثاق السلم السنيكي، عنوةً وبالقوة. بَيد أن متابعتنا لهذا الاتجاه - خلال الحياة التي عِشناها - الذي يدعو إلى هذا الحل الموفق كانت أشد حزمًا، وأعمق في نفوسنا وعيًا، حتى إننا لنستطيع أن نعدها بحق بدايةً جديدة. وكانت المحاولة الأولى هي إنشاء عصبة الأمم، والمحاولة الثانية هي الأمم المتحدة. وواضح أننا في هاتين المحاولتين نشغل أذهاننا بمشروع سياسي مبتكر عظيم المشقة يشمل مجالًا مجهولًا إلى حد كبير. ولو نجح هذا المشروع، حتى إذا لم يفلح نجاحه إلا في أن ينقذنا من طريقة فرض السلام بالغزوات والحروب، أقول لو نجح هذا المشروح لفتح للبشرية آفاقًا بعيدة، آفاقًا لم تمتد إليها أبصارنا من قبلُ خلال الخمسة أو الستة الآلاف سنةً الماضية التي شهدتنا ونحن نقوم بعدة محاولات لإقامة الحضارة.

وبعدما نحيي هذه البارقة من الأمل التي لمعت في الأفق، أرى أننا نحيد عن الصواب إذا نحن لم ندرك طول ووعورة الطريق الذي يصل ما بين هدفنا والموقف الذي نقفه اليوم. ولا يحتمل أن ننجح في التحول عن طريقة الاحتكام إلى نتائج الحروب إلا إذا وضعنا في اعتبارنا الظروف التي تدعو إليها لسوء الحظ.

وأول هذه الظروف السيئة التي تتحتم علينا مجابهتها هو أن عدد الدول الكبرى ذات القوى المادية العظمى - إذا نحن قِسْنا هذه القوى بمجرد القدرة على القتال - قد انخفض من ثمانٍ إلى اثنتين؛ فالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي يتقابلان اليوم وجهًا لوجهٍ وحدهما في ميدان القوى السياسية المجردة. وإذا نشبت حرب عالمية أخرى فالأرجح ألا تبقى سوى دولة واحدة تقوم بتوحيد العالم بالطريقة العتيقة، طريقة فرض الغازي حكمه وإرادته.

وهذا الهبوط السريع المذهل في عدد الدول الكبرى ذات القوى المادية العظمى يُعزى إلى الوثبة المفاجئة في معيار الحياة المادي، الذي دعا إلى انكماش دول ضخمة مثل بريطانيا العظمى، وفرنسا أصبحت ضئيلة بالقياس إلى دول مثل الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. وقد حدث مثل هذه الوثبات المفاجئة من قبلُ في التاريخ؛ فمنذ نحو خمسمائة أو أربعمائة عام تضاءلت دول ضخمة مثل البندقية وفلورنسة بالظهور المفاجئ لدول أضخم مثل إنجلترا وفرنسا.

وهذا التضاؤل الذي أحدثته للدول الأوروبية الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كان لا بد من حدوثه - من غير شك - على أية حالة من الحالات في أي وقت من الأوقات؛ فهو في رأيي نتيجةٌ نهائية حتمية لاتساع الرقعة الأرضية أخيرًا في روسيا وأمريكا الشمالية، ولنمو الموارد فيهما الذي حدث بعد ذلك نتيجةً لتطبيقهما - على نطاق واسع - للوسائل الفنية التي تم اختراع بعضها في معامل غرب أوروبا. غير أن الوقت الذي تطلَّبته هذه العملية الحتمية كان ربما يستغرق نحو مائة عام، لولا أنه اختُصر إلى ثلث أو ربع هذا المدى بسبب تجمُّع آثار حربين عالميتين. ولولا التعجل الذي لازم أحداث هذا التغير لتمَّت العملية تدريجيًّا بحيث تسمح لكل الأطراف المعنية بتكييف نفسها طبقًا لها دون معاناة تُذكَر. ونتيجةً للعجلة التي أحدثت بها الحربان العالميتان هذه العملية، كانت العملية ثوريةً وضعت كل جهة من الجهات في حيص بيص.

(١-٣) الحرب والطبقات في حضارتنا

هذه الانتصارات التي حقَّقها الزمن جعلت الطبقة الوسطى في الغرب تتمخض عن ثلاث نتائج دون تدبير سابق - ليس لها في التاريخ نظير - وقد دفعت هذه النتائج مجتمِعةً عجلة التاريخ نحو روح الانتقام؛ ذلك أن الغرب قد عرف الوسائل التي يوحد بها العالم بأسره بالمعنى الحرفي، أي سطح الأرض المسكون الذي يمكن عبوره، كما شجَّع بهذا النوع من المعرفة نظام الحرب ونظام الطبقات، وهما مرضان وراثيان في المدنية، وجعل منهما مرضَين فتَّاكين قتَّالين. وهذا الثالوث من النتائج غير المقصودة يتحدَّانا تحديًا مريعًا حقًّا.

لقد كابَدنا من الحروب والطبقات منذ عليت المدنيات الأولى فوق مستوى الحياة البشرية البدائية لخمسة أو ستة آلاف عام خلت، وكانت دائمًا موضعًا للشكوى. ولقد بادت أو اعتلت جميع الحضارات التي عرفها المؤرخون الغربيون المحدَثون، ويبلغ عددها العشرين تقريبًا، بادت جميعها فيما خلا حضارتنا. وإذا ما نحن بحثنا في سبب العلة في كل حالة من الحالات بعد موت الحضارة أو فنائها ألفينا أنه دائمًا وبغيرِ استثناءٍ الحرب أو نظام الطبقات، أو هما مجتمعَين على صورةٍ ما. هاتان العلتان كانتا معًا حتى اليوم كافيتين لإبادة تسعة عشر نموذجًا من عشرين من هذا النوع من المجتمع البشري الذي تطور في الفترة الأخيرة من التاريخ العام. غير أن قوة الفتك في هذه الأسلحة المبيدة كان لها حتى اليوم حدٌّ تقف عنده؛ فبينما استطاعت هذه الأسلحة أن تقضي على نماذج فردية، فشلت في إبادة الجنس البشري نفسه. لقد قامت المدنيات ثم ماتت، ولكن ظاهرة «المدنية» نفسها قد نجحت كل مرة في تجسدها مرةً أخرى في مثال جديد من أمثلة الظاهرة نفسها؛ لأن الحروب والطبقات - برغم كونهما من عوامل التدمير الاجتماعي لخطيرة - لم تكن في يوم من الأيام عامةً شاملة، فهي قد تحطم المراتب العليا في مجتمع من المجتمعات، ولكنها تفشل عادةً في الحيلولة دون بقاء المراتب الدنيا سليمة إلى حد كبير، مدثَّرة بأزهار الربيع، ومعرَّضة للضوء والهواء. وحينما كان ينهار مجتمع من المجتمعات في ركن من أركان العالم فيما مضى، لم يجرِ غيره معه من المجتمعات حتمًا إلى هوة السقوط؛ فلمَّا انهارت مدنية الصين القديمة في القرن السابع قبل الميلاد، لم يمنع هذا الانهيار المدنية الإغريقية المعاصرة في الطرف الآخر من العالم القديم من مواصلة الصعود نحو قمتها. ولما بادت المدنية الإغريقية الرومانية في النهاية من المرضَين المتلازمين، مرض الحرب ومرض الطبقات، خلال القرن الخامس والسادس والسابع بعد الميلاد، لم يحل ذلك دون ميلاد مدنية جديدة نابضة بالحياة في الشرق الأقصى خلال هذه السنوات الثلاثمائة عينها.

لماذا لا تسير المدنية متعثرة، متنقلة من فشل إلى فشل بالطريقة الأليمة الشائنة - وإن لم تؤدِّ إلى الفناء المطلق - التي سارت عليها في بعضة ألوف السنين الأولى من وجودها؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تُحدِّدها الاختراعات الحديثة التكنولوجية التي تخصُّ الطبقة الوسطى الحديثة في الغرب. هذه الحيل الآلية التي تُستخدم في استغلال القوى الطبيعية غير البشرية قد تركت الطبيعة البشرية ذاتها بغير تغيير. إن طريقة الحرب ونظام الطبقات ليست إلا انعكاسًا للجانب الآخر من الطبيعة البشرية - أو ما يُسميه رجال الدين الخطيئة الأولى - وذلك في نوع المجتمع الذي نُسميه الحضارة. وهذه الآثار الاجتماعية لطبيعة الإنسان الفردية الآثمة لم تتلاشَ بسبب التقدم المشئوم الحديث في معرفتنا التكنولوجية، بل إنها لم تسلم من براثنها. ولما كانت باقية بغير تلاشٍ، فقد تعهَّدها الإنسان بدرجة قصوى كبقية نواحي الحياة البشرية - نظرًا لقدرتها المادية - فأصبح نظام الطبقات اليوم قادرًا على تفكيك روابط المجتمع بشكل قاطع. كما باتت الحرب قادرة على إبادة الجنس البشري قاطبةً.

إن الشرور التي كانت حتى اليوم شائنةً بكرامة الإنسان داعيةً للأسى وحسب، قد أمست اليوم فتَّاكةً لا يمكن احتمالها؛ ومن ثَم فقد بات أمامنا نحن أبناء العرب في هذا الجبل أن نواجه الاختيار بين أمرين - استطاعت العناصر الحاكمة دائمًا في المجتمعات الأخرى في الماضي أن تتغاضى عنهما - مع ما ترتب على ذلك من نتائج سيئة، في جميع الأحيان، وإن لم يؤدِّ ذلك إلى التضحية الكبرى بتاريخ الإنسان على هذا الكوكب والبلوغ به إلى نهايته. علينا أن نواجه تحديًا لم يتحتم على أسلافنا قَط أن يجابهوه؛ فإما أن نقضي على نظام الحرب والطبقات - وأن يكون ذلك منذ هذه اللحظة - وإما أن نُشهِر انتصارهما - إذا نحن تراخينا أو فشلنا - على الإنسان، نصرًا يكون هذه المرة حاسمًا ونهائيًّا.

إن الصورة الجديدة للحرب قد باتت مألوفة لأهل الغرب؛ فنحن على علم بأن القنبلة الذرية وأسلحتنا الكثيرة الأخرى الجديدة الفتَّاكة قادرة في حرب أخرى، لا على محو الأمم المحاربة وحدها، بل كذلك على محو الجنس البشري بأسره. ولكن كيف عزَّزت التكنولوجيا شرور النظام الطبقي؟ ألم ترفع التكنولوجيا بالفعل إلى درجة ملحوظة الحدَّ الأدنى لمستوى المعيشة، على الأقل في البُلدان ذات الكفاية الخاصة أو المحظوظة فيما وهبته من الثروات الطبيعية وفي نجاتها من دمار الحروب؟ ألا يحق لنا أن نتطلع إلى اطراد الزيادة في ارتفاع هذا المستوى الأدنى إلى درجة عالية، وأن نأمل في أن تستمع نسبة كبيرة من الجنس البشري بهذه الزيادة، بحيث لا تثير بعد ذلك الثرواتُ الضخمة التي تمتلكها الأقليات ذات الحظ الأوفر الأحقادَ في القلوب؟ إن نقطة الضعف في هذا الاتجاه في التفكير هي أنها لا تضع في الاعتبار حقيقةً حيوية، وهي أن الإنسان لا يعيش بالخبز وحده؛ فإنه مهما ارتفع الحد الأدنى لمعيشته المادية، فإن ذلك لا يغنيه عن المطالبة بالعدالة الاجتماعية. وقد تحوَّل عدم المساواة في توزيع السلع في العالم بين الأقلية صاحبة الامتياز والأغلبية المحرومة منه من شر لا مفر منه إلى ظلم لا يُحتمل، وذلك بفعل أحدث المخترَعات التكنولوجية التي ابتدعها الرجل الغربي.

(١-٤) توحيد العالم

والآن نتحدث عن الثورة الكبرى، وهي ثورة تكنولوجية، كوَّن بها الغرب ثروته، واستغل بها جميع المدنيات الحية، ووحَّدها بالقوة في مجتمع وحيد يشمل العالم بأسره بغير مبالغة. هذا الاختراع الغربي الثوري هو استبدال المحيط بالمُروج كوسيلة رئيسية في وصل أطراف العالم. إن استخدام المحيط لهذا الغرض - أولًا بالسفن الشراعية، ثم بالسفن البخارية - مكَّن الغرب من توحيد جميع العالم المسكون والقابل للسُّكنى، بما في ذلك الأمريكتان.

لقد بلغنا نهاية المطاف، وآنَ لنا أن نرسو على الشاطئ؛ لأنَّا لا نستطيع الرؤية بوضوح إلى مسافة أبعد، ولقد دخلنا في مرحلة تاريخية تنتقل فيها الآن القوى المادية من موطنها الأول قبل داجاما؛ فهي تنتقل من جزيرة بريطانيا الصغيرة التي تقع على مرمى الحجر من الساحل الأطلنطي لقارة آسيا، إلى جزيرة أمريكا الشمالية، وهي أكبر حجمًا وأبعد منها بمرمى القوس. بَيد أن الانتقال للقوى المادية من لندن إلى نيويورك قد يُشير إلى نهاية آثار التفكك التي يتميز بها تبادل الصلات في عهدنا الحاضر - عهد الاتصال عن طريق المحيط - لأننا اليوم على أعتاب عصر جديد سوف لا يكون فيه الوسيط المادي لتبادل الصلات الإنسانية المحيطات أو المُروج، بل الهواء، وقد يفلح الإنسان في عصر الهواء في التحرير من الارتباط بتضاريس السطوح - أرضية أو مائية - التي لا تخضع لنظام أو قانون.

إن مركز الجاذبية في الشئون البشرية، في عصر الهواء، قد لا تُحدِّده الجغرافيا الطبيعية، وإنما تُحدِّده الجغرافية البشرية، لا تُحدِّده أوضاع المحيطات والبحار والمروج الصحاري، والأنهار وسلاسل الجبال، والممرات والمضايق، وإنما يُحدِّده توزيع كثافة السكان، وطاقات البشر، وقدراتهم، ومهاراتهم، وصفاتهم. وقد يكون لعدد السكان - من بين هذه العوامل البشرية - أثرٌ أقوى في النهاية مما كان عليه في الماضي. إن المدنيات المنفصِلة التي كانت قائمةً قبل عصر داجاما قد خلقتها واستمتعت بها أقليةٌ حاكمة متحضرة تعتلي ظهر طبقة من الفلاحين الذين عاشوا في العصر الحجري الأخير عيشةً ساذجة، كما امتطى السندباد البحري رجل البحر العجوز. هؤلاء الفلاحون السُّذَّج هم آخر قوم نيام أقوياء أيقظهم الغرب أمامه.

إن يقظة هذه الكتلة الصناعية البشرية السلبية كان عملًا بطيئًا، فقد أشعلت كلٌّ من أثينا وفلورنسة شمعةً صغيرة وسلَّطتها على العينين الناعستين لهذا النائم المستلقي، ولكنه كان يكتفي في كل مرة بأن ينقلب على الجانب الآخر ثم يغطَّ في نومه مرةً أخرى. وكان على إنجلترا الحديثة أن تُمدن هذا الفلاح، وأن تُمده بقدر من النشاط الجم يكفي لأن يدفع الحركة للسير حول محيط الأرض. غير أن هذا الفلاح لم يتلقَّ هذه اليقظة برفق؛ فقد حاول حتى في الأمريكتين أن يبقى على مِثل ما كان عليه في المكسيك والجمهوريات التي تمرُّ فيها سلسلة جبال الإنديز، ومدَّ لنفسه جذورًا جديدة في أرض عذراء في إقليم كوبك. بَيد أن عمليات إيقاظه كانت - برغم هذا - تستجمع قواها. وحملتها الثورة الفرنسية إلى القارَّة الأوروبية، كما نشرتها الروسية من ساحل إلى ساحل. وبالرغم من وجود ما يقرب من ألف وخمسمائة مليون من الفلاحين لا يزالون حتى اليوم بحاجة إلى الإيقاظ - وهم نحو ثلاثة أرباع الجيل البشري الحي - في الهند، والصين، والهند الصينية، وإندونيسيا، ودار السلام، وشرقي أوروبا، بالرغم من هذا فإن إيقاظهم لا بد آتٍ بعد حين، وبعدما يتم هذا تصبح للأعداد قيمتها.

وسيقول المؤرخون في المستقبل - فيما أظن - إن الحدث الأكبر في القرن العشرين كان تأثير المدنية الغربية في كل المجتمعات الحية الأخرى في العالم في ذلك الحين، سوف يقولون عن هذا التأثير إنه بلغ من القوة والشمول أنه قلب حياة كل من تعرَّض له رأسًا على عقب وباطنًا لظهر، وتشكَّل به سلوك الأفراد من الرجال والأطفال والنساء، ونظرتهم إلى الحياة ومشاعرهم ومعتقداتهم، حتى نفذ إلى صميم أفئدتهم، ومسَّ فيها أوتارًا لا يمكن أن تمسَّها القوى المادية الخارجية المجردة - مهما بلغت شدتها ودرجة إرهابها. ولست أشك في أن المؤرخين سيقولون بهذا وهم يرجعون بأبصارهم إلى زماننا حتى بعد فترة وجيزة من الزمان لا تتجاوز عام ٢٠٤٧ بعد الميلاد. أمَّا مؤرخو عام ٣٠٤٧ بعد الميلاد فسوف يهتمون اهتمامًا شديدًا - فيما أعتقد - بالآثار الرجعية القوية التي سوف يُحدِثها المتأثرون - بعدما يبلغون هذا التاريخ - في حياة أولئك الذين أثَّروا من قبلُ فيهم. وإذا ما حل عام ٣٠٤٧ فقد تتحول مدنيتنا الغربية - كما عرفنا وكما عرفها أسلافنا في الألف ومائتي أو الألف وثلاثمائة عام الأخيرة تقريبًا، منذ خروجها من العصور الوسطى المظلمة؛ أقول قد تتحول هذه المدنية إلى صورة تطمس جميع معالمها، من أثر إشعاع مضاد يصدر عن العوالم الأجنبية التي نحن اليوم بصدد احتضانها في عالمنا، إشعاع مضاد يصدر عن المسيحية الأرثوذكسية، وعن الإسلام والهندوكية، وعن الشرق الأقصى.

وإذا ما حل عام ٤٠٤٧، فإن التفرقة بين المدنية الغربية مؤثرةً والمدنيات الأخرى متأثرةً - وهي تفرقة تبدو اليوم ضخمةً كبيرة - سوف تبدو على الأرجح عديمة الأهمية. وبعدما يعقب الإشعاعَ إشعاعٌ مضاد، سوف لا يبقى قائمًا إلى تجربة فريدة كبرى، يشترك فيها جميع أفراد البشر، وتلك التجربة هي تحطم الميراث الاجتماعي الإقليمي من أثر الصدام مع مواريث إقليمية لمدنيات أخرى، ثم إيجاد حياة جديدة - حياة مشتركة جديدة - تنبع من الحطام المتخلف. سوف يقول مؤرخو عام ٤٠٤٧ بعد الميلاد إن أثر المدنية الغربية في المدنيات المعاصرة لها، في النصف الثاني من الألف عام الثانية من بعد ميلاد المسيح، كان أهم سمات العصر؛ لأنه كان الخطوة الأولى نحو توحيد الجنس البشري في مجتمع واحد.

(١-٥) تغير النظرة التاريخية

إذا نظرنا إلى التاريخ بهذه العين، تحتَّم على مؤرخي هذا الجيل ومؤرخي الأجيال القادمة - فيما أحسب - أن يقوموا بهذا الواجب إذا أردنا أن نؤدي الخدمة التي بوسعنا أن نؤديها - كاملةً - لإخواننا في الإنسانية. أعني تلك الخدمة الهامة، خدمة معاونتهم على إيجاد العلاقات فيما بينهم وبين أنفسهم في عالم موحَّد، إذا أردنا ذلك تحتم علينا إعنات الخيال وتصميم الإرادة على شق طريقنا خلال أسوار السجن الذي تحبسنا فيه تواريخ أقطارنا وتواريخ ثقافاتنا - تلك التواريخ المحلية القصيرة المدى.

ولست شخصيًّا أعتقد أن هذه النظرية التقليدية التاريخية الغربية العتيقة سوف تبقى طويلًا بعد اليوم. ولست أشك أننا سوف نتجه وجهةً جديدة في المستقبل، وأعتقد أننا سوف نتجه نحو الشرق مرةً أخرى. ولكن لماذا ننتظر حتى يمسكنا التاريخ من رقابنا ويلفت رؤوسنا إلى الأمام، ويعاملنا كما كان جندي التدريب البروسي في القرن الثامن عشر يعامل مرءوسيه من الجنود؟ ولو أن جيراننا قد أُعيد تدريبهم حديثًا بهذه الطريقة المُذلة المُنفِّرة، إلا أنه ينبغي لنا بالتأكيد أن نكون أحسن منهم تصرفًا؛ لأننا لا نستطيع الزعم بأننا أُخذنا على غِرَّة، كما أُخذوا. إن الحقائق تجابهنا صراحةً، ولو استخدمنا خيالنا التاريخي ربما استطعنا أن نتنبأ بالتربية الإجبارية التي بدأت فعلًا تسير نحو صفوفنا؛ فقد كان الفيلسوف الروائي كلنثيز يدعو زيوس والقدر أن يمكِّناه رحمةً به من السير في إثرهما بإرادته دون تخلف «لأني» - كما قال - «إذا صرخت أو عصيت فسوف تتحتم عليَّ الطاعة رغمًا عني».

ماذا يجب علينا إذَن أن نعمله - نحن أبناء الغرب - إذا تمنَّينا - كما تمنَّى كلنثيز - أن نسير في إثر زيوس والقدر مستخدمين ذكاءنا وممارسين لإرادتنا، بدلًا من أن نكره هذه الآلهة على أن تخضعنا بطريقة الإرغام المذلة؟

أقترح أولًا أن نعيد توجيه نظرتنا التاريخية على الأسس التي أعاد عليها الممثلون المثقفون للمجتمعات الأخرى الشقيقة نظرتهم خلال هذه الأجيال القليلة الأخيرة. إن المعاصرين لنا من غير أبناء الغرب قد أدركوا أن تاريخنا الماضي قد أمسى جزءًا حيًّا من تاريخهم نتيجةً لتوحيد العالم الذي تم أخيرًا. وعلينا إزاء ذلك نحن الغربيين - الذين لا تزال عقولنا تغطُّ في نعاسها - أن ندرك الآن من ناحيتنا أنه بفضل الثورة ذاتها - وهي ثورةٌ نحن الذين أحدثناها - سوف يصبح ماضي جيراننا جزءًا حيًّا من مستقبل الغرب.

ونحن إذ نوقظ أنفسنا لكي نبذل هذا الجهد في الخيال لا يتحتم علينا أن نتحرك من نقطة البداية. لقد عرفنا واعترفنا دائمًا بديننا لليونان وروما. بَيد أن هذه المدنيات قد بادت بطبيعة الحال. كما استطعنا أن نعترف بالجميل لها دون أن نتزحزح عن موقفنا التقليدي الذي نحفظ لأنفسنا فيه أقدارها؛ لأنَّا كنا نُسلم دائمًا - في العمل الذي فرضته علينا أنانيتنا - بأن نفوسنا النبيلة تكفي تبريرًا للمدنيات «البائدة». تصورنا أن هذه المدنيات قد عاشت وماتت من أجل تمهيد الطريق لنا - تمثل دور يوحنا المعمدان إذا فرضنا أننا نحن الذين نمثل دور المسيح (وأستميح القراء عذرًا في هذه الموازنة التي تتعرض للدين، ولكنها في الواقع تبرز في وضوحٍ مقدارَ انحراف نظرتنا بدرجة مريعة).

كما أنَّا قد أدركنا كذلك أخيرًا أهمية بعض المدنيات الأخرى باعتبارها مسهمة في بناء ماضينا. وهي مدنيات لم تنطفئ شعلتها فحسب، ولكنها اختفت في زوايا النسيان قبل أن ننبش أطلالها. من اليسير علينا أن نسخو في اعترافنا بفضل المانوية والحيثيين والسومريين. ولقد كان الكشف عن هذه الحضارات زينة في صفحات الباحثين الغربيين، كما أنها عادت إلى الظهور على مسرح التاريخ تحت إشرافنا ورعايتنا.

وأشقُّ على نفوسنا من ذلك أن نعترف بحقيقة ليست أقل من هذه وضوحًا، وهي أن التاريخ القديم لمعاصرينا الأحياء الذين يضجُّون بالصياح، والذين يتعرضون أحيانًا للقذف والطعن، وأعني بهم الصينيين واليابانيين والهولنديين والمسلمين، وإخواننا الكبار من المسيحيين الأرثوذكس - هذا التاريخ القديم سوف يصبح جزءًا من تاريخنا الغربي القديم في عالم مقبل لن يكون غربيًّا ولا شرقيًّا، ولكنه سوف يرث كل الثقافات التي مزجنا بينها جميعًا نحن أبناء الغرب في بوتقة واحدة. بَيد أن هذه هي الحقيقة الناصعة حين نواجهها. إن أبناءنا الذين سيَخلفوننا لن يكونوا مجرد غربيين مثلنا، بل سوف يكونون وارثين لكنفشيوس ولاوتي، كما يرثون سقراط وأفلاطون، سيكونون ورثة لجوتاما بوذا كما هم ورثة لأشعياء ويسوع المسيح، ورثة لزرادشت ومحمد كما هم ورثة لإليشع وإيليا وبطرس وبولس، ورثة لشنكارا ورامانوجا كما هم ورثة لكلمنت وأوريجن، ورثة لآباء كبادوشيا التابعين للكنيسة الأرثوذكسية كما هم ورثة لأغسطين الأفريقي وأمبريان بندكت، ورثة لابن خلدون كما هم ورثة بوسويه، ورثة للنين وغاندي وصن يات كما هم ورثة لكرمويل وجورج واشنطن ومازيني (إذا بقينا مُتمرغين في حمأة السياسة).

إن إعادة تشكيل النظرة التاريخية تتطلب ما يناظرها من إعادة النظر في طرق دراسة التاريخ. دعنا - لو استطعنا - نُعد التمسك بطريقة عتيقة في التفكير والشعور، فنعترف - في تواضع جم - بأن ما أنجزه أبناء الغرب فيما مضى من التاريخ كان - بقدرة الله - عملًا لا يتعلق بهم فحسب، وإنما يتعلق بالبشرية كلها، عملًا بلغ من الضخامة أن تبتلع نتائجه تاريخنا الإقليمي. إننا بصنع التاريخ نتجاوز حدود التاريخ. لقد انتهزنا الفرصة التي سنحت لنا دون أن نعلم ماذا نحن صانعون. ولأن يُسمح للمرء بأن يحقق إرادته بتساميه فوق ذاته لميزةٌ جليلة لأي مخلوق من مخلوقات الله.

بهذه النظرة إذَن - وهي نظرة متواضعة ولكنها برغم ذلك تدعو إلى الزهو أيضًا - نرى أن القوة الرئيسية لتاريخنا الغربي الحديث لا تنحصر في الحوادث السياسية المحلية لمجتمعنا الغربي كما نراها منقوشةً فوق أقواس النصر المقامة في بعض عواصم إقليمية، أو مدوَّنة في السجلات الوطنية والبلدية ﻟ «الدول الكبرى» ذات العمر المحدود، بل إن القوة الرئيسية لتاريخنا الغربي ليست في امتداد الغرب فوق أنحاء المعمورة - ما دمنا نُصرُّ على أن هذا الامتداد مشروع خاص لصالح المجتمع الغربي وحده. إنما القوة الرئيسية هي في إقامة هيكل - بأيدٍ غريبة - تُوحِّد بداخله كل المجتمعات - التي كانت منفصِلة في يوم من الأيام - نفسها في بناء واحد. كانت البشرية منذ بدايتها مفكَّكة، وقد استطعنا في الوقت الحاضر أخيرًا أن نتَّحد. وإن العمل الغربي الذي جعل هذه الوحدة ممكنة لم يتم بأعين مفتوحة كما تمَّت أعمال داود الخالية من الأثرة لمصلحة سليمان، إنما تمَّت هذه الأعمال في جهل مطلق للغرض منها، كأنها من عمل تلك الحيوانات البحرية الصغيرة التي تبني الشُّعب المرجانية من قاع البحر حتى تستطيع في النهاية أن ترفع جبلًا من المرجان فوق الأمواج. غير أن الهيكل الذي شيَّده الغرب قد أُقيم من مواد أقل قدرةً من هذه الشُّعب على البقاء. وأوضح مادة من موادها هي التكنولوجيا، ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بالتكنولوجيا وحدها. ولما ينضج الوقت، حينما يقوم البيت العالمي ذو الطوابق العديدة ثابتًا فوق أسسه الخاصة به وتتساقط المعينات التكنولوجية الغربية المؤقتة - ولست أشك في أن ذلك سوف يحدث - أعتقد حينئذٍ أنه سوف يتضح أن الأسس ثابتة في النهاية؛ لأنها تمتد إلى صخرة الدين السحيقة.

(١-٦) ماذا نصنع لكي ننجو؟

إن المشكلات التي أحاطت بالمدنيات الأخرى وقهرتها في نهاية الأمر قد بلغت ذروتها في عالمنا اليوم. لقد اخترعنا السلاح الذري في عالم تتقسمه دولتان كبيرتان عظيمتان، وتقف كلٌّ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ممثلتين لنظريتين متعارضتين بلغتا من التناقض حدًّا لا يمكن من التوفيق بينهما كما هما الآن؛ ففي أي طريق نلتمس النجاة في هذه الأزمة الخطيرة التي نمسك فيها بين أيدينا الخيار بين الحياة أو الموت، لا لنا وحدنا، ولكن للجنس البشري كله؟ ربما يقع طريق النجاة - كما يحدث دائمًا - في التماس طريق وسط، وهذا الطريق الذهبي لا يتحقق - في السياسة - بالسيادة المطلقة في الدول الإقليمية أو بحكم الاستبداد الذي لا يلين والذي تتولاه حكومة عالمية مركزية، وهو لا يتحقق - في الاقتصاد - بالمشروعات الفردية غير المقيدة أو بالاشتراكية غير المخففة.

وينبغي في الحياة الروحانية أن نقيم البناء الدنيوي الخارجي على أسس من الدين. إن جهودًا تُبذل في عالمنا الغربي اليوم لكي نشقَّ طريقنا صوب كلٍّ من هذه الأهداف. ولو بلغنا ثلاثتها، حُق لنا أن نشعر بأنَّا كسبنا معركتنا الحاضرة في سبيل بقاء حضارتنا. غير أن هذه الأهداف كلها فيها طموح بالغ، وتتطلب العمل الشاق والشجاعة القصوى لكي نُحرِز أي درجة من درجات التقدم نحو تحقيق أيٍّ منها وإبرازه إلى حيِّز الوجود.

وليس من شك في أن الهدف الديني من بين الأهداف الثلاثة أهمها جميعًا في النهاية. بَيد أنَّا أسرع حاجة إلى الهدفين الآخرين؛ لأنَّا لو فشلنا في تحقيقهما في المستقبل القريب، فربما فقدنا إلى الأبد فرصتنا في تحقيق ميلاد روحاني جديد لا يمكن أن نستنزله حينما نشاء، ولكنه لن يأتي - إذا أتى إطلاقًا - إلا بخُطًا وئيدة تتدفق عندها أعمق تيارات الخلق الروحاني.

ولعل الهدف السياسي هو أشد الأهداف الثلاثة لَجاجةً. والمشكلة الحالية العاجلة في هذا الميدان مشكلة سلبية. إننا اليوم - باعتماد كل شعب من شعوبنا على غيره وبما نملك من سلاح - نُقبِل على أعتاب وحدة سياسية لا بد أن تتم بوسيلةٍ ما. ولما كان الأمر كذلك، فإن علينا أن نتحاشى حدوث هذه الوحدة بصورة أليمة نلجأ فيها إلى قوة السلاح، وهي الطريقة المألوفة التي يفرض فيها بالقوة «صلح روماني»، الذي ربما كان أيسر السُّبل لتَفادي القوى السياسية المريعة التي يقع عالمنا اليوم في قبضتها. هل تستطيع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى أن تتعاون مع الاتحاد السوفيتي عن طريق الولايات المتحدة؟ لو أن منظمة الأمم المتحدة نمَت حتى أصبحت نظامًا فعَّالًا لحكم عالمي، لكان ذلك أفضل حل للخروج من الأزمة السياسية التي نتردى فيها، بَيد أنه يجب علينا أن نحسب حساب إمكان فشل هذا المشروع، وأن نستعد - في حالة الفشل - بحلٍّ آخر نلجأ إليه. هل يمكن أن تنقسم الأمم المتحدة - في الواقع - إلى مجموعتين دون أن يتحطم السلام؟ ولو فرضنا أنَّ وجه هذا الكوكب الأرضي كله أمكن تقسيمه سلميًّا إلى عالم أمريكي وآخر روسي، فهل يمكن أن يعيش عالمان جنبًا إلى جنب فوق كوكب واحد متساويين، لا يستخدمان العنف ولا يتعاونان، أمدًا يكفي لأن تتهيأ لهما الفرصة لكي يخف تدريجًا ما بينهما من فوارق في الجو الاجتماعي والجو العقائدي؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على إمكان كسب الوقت - في هذه الظروف - الوقت الذي نحتاج إليه لكي نحقق هدفنا الاقتصادي الذي يرمي إلى إيجاد طريق وسط بين المشروعات الحرة والاشتراكية.

إن هذه الألغاز قد تصعب قراءتها، ولكنها تبين لنا في جلاء ووضوحٍ ما نحن في أشد الحاجة إلى معرفته. إنها تنبئنا بأن مستقبلنا يتوقف على أنفسنا إلى حد كبير. ولسنا تحت رحمة قدر لا يلين وحسب.

* مقتبس من كتاب (آراء فلسفية في أزمة العصر)، لمؤلفه: أدريين كوخ، ترجمة: محمود محمود، صدر أصل هذا الكتاب باللغة الإنجليزية عام ١٩٥٩. صدرت هذه الترجمة عام ١٩٦٣. صدرت هذه النسخة عن مؤسسة هنداوي عام ٢٠٢٣.

اضف تعليق