q
السيناريو الاخير فهو بقاء الوضع كما هو عليه، أي بقاء حالة عدم اليقين وسطوة الدول الخارجية على القرار العراقي وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية وايران مع بروز نوع من التشاحن السياسي والعسكري قبل الجلوس على طاولة المفاوضات من جديد، وخلال مسيرة الانتقال من الاستقرار الهش الى التشاحن ثم التفاوض سيبقى العراق هو الخاسر النازف...

يبلغ من العمر ٣٢ عاماً، امريكي في ريعان الشباب، ربما يمثل الحلم الامريكي مثل مارك زاكربيرغ مؤسس شركة فيس بوك، وغيره من رواد الاعمال الشباب الذين ملؤا قصص النجاح في العالم، لكنه لم يكن كذلك، ولا يؤمن بالحلم الامريكي الذي وُلِدَ على اساسه زاكربيرغ.

انه جاك آنجلي، كما اشتهرت تسميته، من ولاية أريزونا، مؤيد متطرف لحركة "كيو آنون" اليمينية، هذا الحركة التي تخوض حربا شرسة لدعم الرئيس الخاسر في الانتخابات دونالد ترامب. اقتحم مبنى الكونغرس الامريكي ليلة التصديق النهائي على فوز الرئيس المنتخب جو بايدن، استقطب جاك اهتمام المصورين والكاميرات خلال تنقله في أرجاء الكابيتول بصدره العاري وتسريحته الغريبة مع قرون حيوان "البيزون" (الجاموس الأمريكي).

بعد انتهاء احداث اقتحام مبنى الكونغرس وجهت تهمة لآنجي وهي الدخول عمداً والبقاء في مبنى أو ارض محظورة بدون اذن قانوني، بالاضافة الى السلوك العنيف وغير المنضبط داخل مبنى الكونغرس الامريكي وهو ما يعد جنحة على المستوى الفيدرالي.

غليان الازمات

مشهد انجلي اختصر ما يحدث في امريكا خلال السنوات الماضية، ازمات تغلي بسبب سوء الادارة وترهل امريكا داخليا وخارجيا، مع تدخل في السياسة والاقتصاد والعسكر والاعلام وحرية الرأي والتعبير، نخبة من رجال الاعمال والسياسيين يقودون الدولة الاولى في العالم، ولا يسمعون لاحد، فانفجر بوجههم ذو القرنين.

هذا الكلام قد لا يقدم تحليلاً جديداً لما حدث ليلة اقتحام مبنى الكابيتول، لكنني اريد ربطه بالمسألة العراقية عبر تسليط الضوء على ظاهرة بدأت تتفشى بقوة، وهي الانقسام الامريكي الذي يولد تضييقا على الحريات من جهة وتضييقا لنطاق سلطة القانون من جهة اخرى.

على مستوى الحريات، ورغم اقرار حق السود في الحياة العامة من تصويت في الانتخابات والتظاهر والتعبير عن الرأي، لكن الواضح ان هناك اختلافاً في التعامل من قبل قوات الامن الامريكية التي تحمي المواطنين وتنفذ القانون، فقبل اشهر قليلة تم قتل جورج فلويد بسبب ورقة نقدية يشتبه بانها مزورة، وما تبعها من احداث عنف واستهداف الشرطة للمتظاهرين السود، بينما يتفرج الشرطي الامريكي على اقتحام المتطرفين البيض لمبنى الكونغرس ولولا تهديدهم لمركز التشريع الاول في البلاد وتهديدهم لسلطة الرئيس المقبل لما تم منعهم بالطريقة التي جرت.

ننتقل الى مواقع التواصل الاجتماعي التي تمثل اقصى ما توصلت اليه الديمقراطية الامريكية، ونموذجها الليبرالي المتحرر من كل القيود الحكومية، انبهر العالم بها وصارت منصات للمحرومين، وعلى اثرها حدثت ما يسمى بـ"ثورات الربيع العربي" وازاحت حكام البلاد.

وعلى الطريقة ذاتها حاول ترامب الانقلاب على مؤسسة الحكم المتجذرة في بلاده، لكنه لم يلقى الحرية التي تتغنى بها مواقع التواصل الاجتماعي في البلدان العربية، وضعت اشارات على تغريداته خلال الانتخابات بانها تغريدات مضللة، وتكرر الامر معه في اكثر من تغريدة، لنشاهد الحدث الاكبر "تعليق حساب ترامب"، ثم لحقه الحدث الذي نعتبره انقلابا حقيقيا في امريكا، وهو الاغلاق النهائي لحساب ترامب، مع عشرات الالاف من الحسابات المناصرة له.

اغلاق حساب ترامب يعد انقلابا على الحريات العامة، ونهاية اسطورة الحرية المطلقة في مواقع التواصل الاجتماعي، التي كانت سائدة طوال السنوات السابقة تحت مسميات العقوبات والمستخدمة ضد أي كيان او دولة تعارض السياسة الامريكية، اما اليوم فهي تستخدم ضد المعارضين في امريكا، بالطبع هم يعتبرون ترامب محرضا على العنف، وهذا حق، لكنهم لم يستجيبوا للنداءات التي كانت تصلهم لغلق حسابات محرضة على العنف في دول مختلفة من بينها العراق.

ماذا عن العراق؟

العراق الذي يمثل الولاية رقم 51 التابعة لامريكا بشكل عرفي يخضع لذات المشكلة التي تعاني منها امريكا في الداخل، انه محكوم من قبل اقلية وافقت على وجودها الادارة الامريكية، تلك الاقلية الفاسدة التي لا تهمها سوى مصالحها، تقيد الحريات بالشكل الذي يناسب سياستها، تطلق حروبها ضد الدول الاخرى من خلال العراق، تستخدم سفارتها كمنصة متقدمة للحرب ضد الصين وايران.

مواقع التواصل والانترنت خاضع بشكل تام للسلطة الامريكية، ومعه الاقتصاد وملف الطاقة، فلا يمكن لشركة كبرى مثل سيمنز الالمانية ان تبرم عقودا للكهرباء بدون اخذ الموافقة الامريكية، بل ويلغى العقد وتبقى ازمة الطاقة معلقة لحين موافقة الرئيس الامريكي.

لست بصدد شرح السطوة الامريكية على العراق، لكنني اطرح التساؤلات ذاتها التي يطرحها المواطن الامريكي في كل ولاية، وباعتباري مواطنا اسكن في الولاية 51 واسمها العراق، اتساءل عن دور الرئيس الجديد جو بايدن في تغيير الاوضاع الحالية التي خلقتها بلاده منذ عام 2003، والاوضاع الاكثر تعقيدا التي خلقها سلفه دونالد ترامب.

هل ستتوقف امريكا عن التدخل في الشأن السياسي العراقي بطريقتها القبيحة التي تسلب بغداد كل شيء من سيادتها؟ وهل ستترك للعراق قراره في اختيار من يحكمه، ام ان بايدن سيعود لتقاسم السلطة العراقية مع ايران والدول الخليجية؟

متى تتوقف السفارة الامريكية عن التدخل في شؤون الدول الاخرى، واستخدام رسائلها السياسية الخطيرة ضد الدول الخارجية بما يتجاوز حدود عملها الدبلوماسي؟

متى تتوقف مواقع التواصل الاجتماعي عن التدخل في الشأن العراقي، من خلال السماح او عدم السماح بالمحتوى الرقمي الذي يمثل خرقا واضحا للسيادة العراقية، وانتهاكا لحرية الرأي والتعبير في البلاد.

العراق كورقة تفاوض او ساحة حرب

كل الدلائل مخيبة للآمال، فالرئيس الجديد يركز جهوده على الولايات المتحدة الامريكية فقط، ولا يهتم بالدول الواقعة تحت السيطرة الامريكية كما هو حال العراق، وبرنامجه الانتخابي يركز على قضايا تستبعد العراق منها.

هناك ازمة كورونا التي حصدت ارواح عشرات الالاف من الامريكيين، وهناك الاقتصاد الذي يترنح، وهناك العلاقات مع الاتحاد الاوربي وحلف الناتو، والصراع مع الصين، وفي الجوار العراقي هناك الصراع مع ايران، الذي قد يتم حله على حساب العراق.

ومن غير المستبعد ان يستخدم العراق كورقة ضغط ضد ايران مرة ثانية ونعود من جديد الى دوامة العنف المتبادل بين واشنطن وطهران على الساحة العراقية، واذا استبعد هذا السيناريو، فقد نشهد صيغة توافقية تستخدم العراق كورقة تفاوض لا اكثر.

اما السيناريو الاخير فهو بقاء الوضع كما هو عليه، أي بقاء حالة عدم اليقين وسطوة الدول الخارجية على القرار العراقي وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية وايران مع بروز نوع من التشاحن السياسي والعسكري قبل الجلوس على طاولة المفاوضات من جديد.

وخلال مسيرة الانتقال من الاستقرار الهش الى التشاحن ثم التفاوض سيبقى العراق هو الخاسر النازف بدون اي دلائل على تحسن اوضاعه خلال حكم بايدن، وربما الحسنة الوحيدة التي سيضيفها بايدن هي خفض مستوى الصراع والتشنج السياسي الى مستويات قابلة للتحمل.

اضف تعليق