q
الحروب\" في العصر الحديث لم تعد كتلك التي كانت تدار بالمفهوم التقليدي، جيش يقابل جيشا آخر، ومن تنفذ ذخيرته يخسر الحرب لقد تعدى مفهوم هذه الحرب إلى \"الدمار الصامت أو الناعم التي لا تطلق فيه رصاصة! تديرها جيوش الكترونية تقصف النفوس والعقول وتزرع اليأس والخوف...

يقول القائل ليست الجزائر في حرب! والدليل أننا لم نسمع دوي القنابل، ولا صوت الرصاص، ولم نشاهد أي اشتباك على الحدود، ولم نر أي جندي في الجهة المقابلة. ويقول "هذا القائل" من هي الدولة التي تقاتلنا؟ ثم يجيب "أصلا مفيهش"!

هذا الكلام صحيح في اعتقاد عقول السذج، والإعلام منعدم الضمير الذي يغطي "الشمس بالغربال" لأنه يركز على الترفيه والتسلية، لإلهاء المواطنين، وصدهم على متابعة حاضرهم ومستقبلهم.

ولأن "الحروب" في العصر الحديث لم تعد كتلك التي كانت تدار بالمفهوم التقليدي، جيش يقابل جيشا آخر، ومن تنفذ ذخيرته يخسر الحرب! لقد تعدى مفهوم هذه الحرب إلى "الدمار الصامت أو الناعم" التي لا تطلق فيه رصاصة! تديرها جيوش الكترونية تقصف النفوس والعقول وتزرع اليأس والخوف والضغينة وتغيير القناعات حول كل ما يهم الأمة من قضايا إستراتيجية.

تعمل الحرب الصامتة على تكسير الإرادة الشعبية والعزيمة باستعمال القصف الإعلامي والتضليل والمعلومة الخاطئة، إضافة لتوظيف العملاء كطابور خامس يعول عليه كثيرا.

قليل من الكتابات الإعلامية التي سلطت الضوء على "الحرب الصامتة التي تدور رحاها في الجزائر" بل أضحت نادرة. تعمل الحرب الصامتة أو الناعمة كما وصفتها الموسوعة الحرة بان هناك:

(مجموعة من الأشخاص يعملون لصالح جهات مغرضة، تستعمل حسابات بأسماء وهمية، ويخترقون مواقع إلكترونية بشكل كيدي، وتهدف هذه "الدولة العدوة " إلى تضليل الرأي العام وتشكيله من جديد وتوجيهه وفق الأجندة، وتروّج الإشاعات وبث الأفكار الهدامة..). لقد أحدثت هذه الحرب تغييرات ملموسة داخل نسيج المجتمع الجزائري، الذي كان يبدو منيعا ومحصّنا إلى وقت قريب، لكن تبين غير ذلك فتسببت الحرب.

أولا: في ضرب تماسك العائلة الجزائرية وتمزيقها حتى أن نسبة الطلاق صارت مقلقة..

ثانيا: تدهور مستوى المدرسة بقرارات مشبوهة حتى توصل الأمر بوزارة التربية الاستعانة بالأجانب لإصلاحها بل لتدميرها أكثر..؟

ثالثا: ضرب القيم الأخلاقية للمجتمع بواسطة "الإعلام المفبرك''.

رابعا: ضرب المنظومة الدينية بتشتيت مذهبها وإبعاد علمائه حتى أن مفتيها الذي نص عليه الدستور لم يعين حتى اليوم..؟

لكن بفضل "سقوط جدار الاستحمار والاستعباد " بتاريخ 22 فبراير 2019 الذي حطمه الحراك الشعبي الجزائري المسالم، تبين مما لا يرقى إليه الشك أن الجزائر كغيرها من الدول فعلا تتعرض لحرب صامتة منذ الاستقلال، وليس منذ السنوات الأخيرة، تشتد تارة وترتخي تارة أخرى.. من طرف جهات داخلية وخارجية. لقد نبه الكثير من الشرفاء لهذه الحرب، لكن لا حياة لمن تنادي، وقد تبين أن الطابور الخامس الداخلي فعلا كان وقودا ومساعدا "للعدو" في التدمير الصامت للبلاد، إضافة للوسائل التي كانت تستعمل عن بعد، كالغزو الثقافي والتجسس عبر الأقمار الصناعية وإقحام مواقع السوشيال ميديا كمتغير فتاك في ترسيخ صورة سلبية وقاتمة عن الجزائر. فضلا عن استعمال القرصنة الالكترونية وتوظيف برمجيات للإعلام الآلي لتحليل البيانات وزرع الفيروسات. إضافة لتعويم الأسواق العالمية للطاقة والمواد الثمينة وأسواق المواد الغذائية كأدوات للضغط. حتى أن 97% من المداخيل تأتي من البترول. ومازلنا نستورد القمح والدواء وكل شيء من الخارج.

كل ذلك أدى لتدمير نهضة الجزائر ولم تعد تدري إلى أي اتجاه تنتمي؟ فتشتيت طاقاتها المادية والبشرية، وفرملة شاملة لاقتصادها، وتدهور قيمة الدينار بنسبة 45%، وزيادة التضخم بنسبة 35%، ودين عام ب50 مليار دولار؟ وما خفي أعظم..

كل ذلك أدى لتراجع مكانة الجزائر أمام دول: كإيران، تركيا، ماليزيا، فيتنام، اسبانيا، البرتغال.. كل هذه الدول وأخرى كانت الجزائر أحسن حالا منها في السبعينيات من القرن الماضي...؟ أين هو مشروع "فاتيا" لتركيب السيارات؟ أين هو مشروع ورشة صناعة السفن؟ أين هو مشروع توليد الطاقة الشمسية "ديزارتيك"؟ أين...

ألم يكشف وزير التجارة الأسبق عن تنازل الجزائر عن سيادتها الوطنية فيما يخص اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي؟ ألم تفكك المؤسسات العمومية وبيعها بالدينار الرمزي؟ ألم ينشط السفير الأمريكي بالجزائر خارج الدستور مدة سنتين!؟ ألم يحبط الأمن العسكري عملية "استراد" 700 كلغ من الكوكايين في عرض البحر؟ وبعدها عملية 300 كلغ؟ هل تحولت الجزائر إلى بلد مدمن؟

إنها نتائج كارثية أسفرتها الحرب الصامتة على الجزائر جعلتها تحتل مؤخرات الترتيبات العالمية: المرتبة 25عالميا في المؤشر العالمي لقوة الجيوش سنة 2017، والمرتبة 66 في مجال الصحة عالميا، و71 عالميا في مجال قوة جواز السفر، و72 عالميا في مجال سيادة القانون، و73 عالميا في المؤشر العالمي لجودة التعليم الابتدائي، و81 عالميا في مؤشر الأمان العالمي، و84عالميا في مجال السعادة، و85 عالميا في مؤشر التنمية البشرية، و96 عالميا في المؤشر العالمي لجودة التعليم العالي، 106 عالميا في مجال الابتكار، 108 عالميا في مؤشر الابتكار العالمي، 134 عالميا في المؤشر العالمي لحرية الصحافة، 137 عالميا في مجال سرعة الإنترنت.

إن ما تعرضت له الجزائر يدخل فيما قاله ابن خلــــــــدون "بنقل قيم الغــــــالب إلى المغلوب، الذي يتبنّاها و تصبح من قيمه. وإذا ما استحكمت فإنها تستوطن في العقول، وهو ما يسميه مالك بن نبي ”القابلية على الاستعمار”. هذا هو الواقع المر الذي تتعرض له الجزائر من حرب ممنهجة عسكرها من الداخل والخارج.

لكن لولا لطف الله وعبقرية الشعب الجزائري لكانت الكارثة التي أوقفها الحراك الشعبي المسالم المتواصل منذ 4 أشهر دون توقف الذي انفجر في وجه هذه الحرب الصامتة لصد هجوم التآمر على البلاد ولكي يتحرر الوعي الجزائري من الاستلاب الذي مورس عليه.

مصداقا لقول الشاعر المرحوم أبو القاسم الشابي:

إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ*** فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر

* أستاذ جامعي الجزائر

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق