q
إسلاميات - القرآن الكريم

المفهوم الواقعي للإسلام

من كتاب خواطري عن القرآن

الله تعالى، يدين الناس كونياً ـ في الدنيا والآخرة سواء بسواء ـ حسب المقاييس التي يجمعها اسم واحد هو (الإسلام) فمحاسبة الناس تتم حسبه، لا باعتباره نظاماً شرع كمجرد التشريع ـ قد يحلو للبعض أن يفسر الدين بذلك ـ وإنما لأنه واقع. فهو علم بالسلوك...

(إن الدين عند الله الإسلام... )
(سورة آل عمران: الآية 19)

1ـ الله تعالى، يدين الناس كونياً ـ في الدنيا والآخرة سواء بسواء ـ حسب المقاييس التي يجمعها اسم واحد هو (الإسلام) فمحاسبة الناس تتم حسبه، لا باعتباره نظاماً شرع كمجرد التشريع ـ قد يحلو للبعض أن يفسر الدين بذلك ـ وإنما لأنه واقع. فهو علم بالسلوك الصحيح للإنسان ـ لا غير ـ تماماً. كعلم الطب، وعلم النفس، وعلم الحساب، وعلم الهندسة، وبقية العلوم.. فهي لم توضع لمجرد أن توضع، وإنما لأنها الواقع.

فالإسلام علم. والدين لا يعني إلا ما يدان به الإنسان ويحاسب كونياً. لأن المحاسبة في الدنيا والآخرة، محاسبة واحدة في مرحلتين من حياة الإنسان. لأن الإنسان واحد، (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) سورة القيامة: آية 4، والحياة واحدة، وخالق الدنيا والآخرة واحد.

ففي القرآن محاولات كثيرة، لتغرس في وجدان الإنسان، أن التشريع والتكوين جزآن من نظام واحد لا نظامان مستقلان.

ولعل قمة هذه المحاولات، هي مسألة التوحيد. فهي ليست مسألة مفروضة على الناس اعتباطياً أو أنانية، وإنما هي الواقع ولذلك: نجد القرآن يرجع الناس إلى الكون في هذه المسألة:

ـ (إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ) سورة آل عمران: آية 190.

ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) سورة يوسف: آية 109.

ـ (فَانظُرْ إِلَىَ آثَارِ رَحْمَةِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ) سورة الروم: آية 50.

ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ) سورة الحج: آية 46...

إذن: فالكون يدل على التوحيد، وما يفهم من الكون ليس ديناً ـ بالمفهوم الذي يحلو للبعض أن يكون مفهوم الدين ـ.

وبالنسبة إلى الدين، نجد القرآن ـ أيضاً ـ يرجعنا إلى تجارب البشر للكون. وعندما يرجعنا القرآن إلى استيعاب تجارب الأجيال السابقة، إنما يحاول أن يركز في مفاهيمنا أن الدين علم تجريبي وليس حتى علماً نظرياً.

وما يستخلص من التجارب المتكررة، ليس ديناً ـ بالمفهوم الذي يحلو للبعض أن يكون مفهوم الدين ـ، وإنما هو دين بمعنى أنه يعاقب الإنسان بمناقضته، تماماً.. كنظام الجاذبية، وتماماً.. كنظام الحساب وسائر أنظمة الكون:

فكما أن الإنسان لو لم يعترف بنظام الجاذبية، فحاول أن ينتقل من سطح بناية إلى سطح بناية أخرى كما ينتقل الطائر ـ بلا وسائل ـ؛ فإنه يدان بنظام الجاذبية، ويحطمه النظام.

وكما أن من لم يعترف بنظام الحساب، فاعتبر أن 2+ 2= 5؛ فإنه يدان بنظام الحساب، فيتغلب عليه النظام، ويخسر.

وكما أن من لم يعترف بنظام الطب، فتناول السم؛ فإنه يدان بنظام الطب، وينتصر النظام عليه، فيموت.

وكما أن من لم يعترف بنظام الهندسة، فحمل القوائم أكثر من طاقتها؛ يدان بنظام الهندسة، ويعلوه النظام، فيخر عليه السقف.

وكما أن من لم يعترف بأي نظام من أنظمة الكون، يدان به، فيستمر النظام، وينهار هو...

كذلك: الدين مجموعة من المعادلات الكونية. فمن حاول التمرد عليه، يسحقه الكون، ويبقى الكون ومعادلاته.

فكل العلوم: دين يدين الله به خلقه، والدين: علم يشرح مقاييس الكون:

فمن ترك فريضة، لا يعاقبه الله، لأنه خالف الله فحسب، وإنما ترك الفريضة ـ ذاته ـ يعاقبه. كما أن من ترك التغذية يعاقبه ترك التغذية ذاته، وكما أن من ترك التنفس يعاقبه ترك التنفس ذاته...

ومن ارتكب حراماً، لا يعاقبه الله، لأنه خالف الله فقط، وإنما ارتكاب الحرام ـ ذاته ـ يعاقبه تماماً.. كمن تناول السم، أو طعن نفسه.

والأنبياء جاؤوا بالأديان لا ليفرضوا على الإنسان فرضيات، ولم يبعثهم الله لمجرد ممارسة ألوهيته، وإنما أرسلهم الله ليشرحوا له الحياة العامة ـ عبر الدنيا والآخرة ـ. فكما أتوا بجذور كل العلوم واللغات، هكذا.. أتوا بجذور الدين. وكما أن الإنسان تابع مسيرة الأنبياء في العلوم واللغات استجابة لحاجاته، كان عليه أن يتابع ذات المسيرة في الدين استجابة لحاجاته. ولكنه أهمل مسيرتهم في مجال الدين، لأن المعادلات التي نسميها بالدين أبعد من أحاسيسه اليومية ـ في أدلتها ونتائجها ـ من المعادلات التي نسميها بالعلوم واللغات.

يبقى سؤال: إذا كان الدين عبارة عن المعادلات الكونية، فالمجتمعات الدينية يلزم أن تكون بريئة من العقد والمشاكل. فلماذا كانت المجتمعات الدينية تشكو من العقد والمشاكل؟

والجواب: إن المجتمعات الدينية كانت بريئة من العقد والمشاكل بمقدار تمسكها بالدين، ومريضة بالعقد والمشاكل بمقدار انحلالها عن الدين. كما أن مجتمعات اليوم التي هي ـ بصورة عامة ـ مجتمعات صحية، تشكو من الأمراض، لا لأن علم الصحة غير واقع، وإنما لأنها لا تنفذ علم الصحة مئة بالمئة، فهي صحيحة بمقدار التزامها بعلم الصحة ومريضة بمقدار إهمالها لعلم الصحة.

ـ ويدل على ذلك: أن الإسلام ـ كمثال للدين الكامل ـ يعالج مشاكل الإنسان، ويلبي حاجاته، منذ انعقاده جنيناً وحتى تفرقه تراباً.

وإن كنا قد لا نفهم ـ بسرعة ـ معالجته وتلبياته للجانب الروحي من خلال العبادات، ولكن عدم استيعابنا ـ بسرعة ـ لدوافع ونتائج العبادات، لا يعني عدم مواكبة الإسلام للإنسان في مسيرته الأبدية عبر الحياة من خلال العبادات، أو أنه يحاول جر الإنسان إلى توجهات بعيدة عن مشاكله وحاجاته. فالبشر ـ على العموم، وخاصة: بشر اليوم المبهور ببهرجة الحضارة المادية ـ بعيد عن جانبه الروحي، لأن الجانب الروحي هو الجانب المظلم أو الغامض من الإنسان. ولأن البشر ـ على العموم ـ لا يعنى بمستقبله البعيد عنايته بيومه المعاصر أو القريب، وأكثر اهتمام العبادات بالجانب الروحي والمستقبل البعيد.

ـ ويدل على ذلك: أن القرآن يبدأ ـ مسيرته الفكرية ـ بـ(الله) في: (بسم الله الرحمن الرحيم) من سورة الفاتحة، وينتهي بـ(الناس) في سورة الناس؛ مما يبرهن على أن القرآن يساير البشر من بدئه إلى انتهائه.

ـ ويدل على ذلك: أنك لا تجد كلمة (الله) في القرآن إلا وتحسن استبدالها بكلمة (الناس) أو (الشعب) ـ فيما عدا الآيات الموجهة إلى الباري تعالى ـ، دون أن تفقد الآية دلالتها في المفهوم الديمقراطي.

فمثلاً: (في سبيل الله) قل: (في سبيل الناس)، أو (عند الله) قل: (عند الناس)، أو (لله خمسه) قل: (للناس خمسه)... مما يشير إلى أن الله ـ في أحكامه ـ لا يمارس حق ألوهيته، وإنما يمثل المصلحة العامة، ويمارس حق المجموع على الفرد، الذي هو ـ بحصته ـ من المستفيدين من هذه الممارسة، ومن أصحاب ذلك الحق الذي يفرض عليه وعلى غيره أداؤه، لتتحرك مصالحهم جميعاً إلى حاجاتهم جميعاً.

ـ من كل ذلك يمكن أن نفهم: أن الثواب والعقاب في الآخرة، يتمان كما يتم النجاح والفشل في الدنيا، إنهما من النتائج العادية لعمل الإنسان، وليسا من الأمور الفوقية، وحتى ليسا من نوع ثواب أو عقاب الإنسان للإنسان، وإنما من نوع حصاد النتائج فقط.

وربما يمكن أن نفسر الشفاعة بـ: أنها من نوع إعانة القوي للضعيف، وإمداد الناجح للفاشل. وليست: من الأمور الفوقية أيضاً، ولا من نوع (الوساطة) التي تكون في المجتمعات التي تشكو من عدم تكافؤ الفرص، ولا من نوع (المحاماة) للاطمئنان على أخذ العدالة مجراها.

ولذلك: نجد القرآن والحديث، يضعان للشفاعة حدودها ومقاييسها:

(وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) سورة الأنبياء: آية 38، (يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَـَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) سورة طه: آية 109.

وفي الحديث النبوي: «يا فاطمة بنت محمد! اعملي، فأنا لا أغني عنك من الله شيئاً»(1)، «ائتوني بأعمالكم لا بأنسابكم»(2)، وعن الإمام الصادق (ع): «لا ينال شفاعتنا ـ أهل البيت ـ من استخف بالصلاة»(3)...

ـ وربما يمكن أن نفسر الاستغفار بـ: أنه تغليب الحسنات على السيئات، وانتصار نقاط القوة على نقاط الضعف، وأن الجانب الأقوى من الخير والشر في الإنسان هو الذي يتحكم في مصيره.

ـ وهذا.. لا يعني إغفال دور الله ـ فالله هو المصدر والمنتهى، وله الدور كله. لأنه الذي خلق الكون والإنسان، وخلق لهما نظاماً دقيقاً حكيماً، وهو الذي أراد أن يبقى هذا النظام سارياً، فبقي سارياً وهو يستطيع أن يخرقه متى يشاء، ولكنه لا يريد أن يخرقه إلا في حالات معينة تشبه الحالات الاستثنائية، وخرقه النظام هو (المعجزة) التي تتم على أيدي أنبيائه وأوليائه (ع) وهذه الحالات المعينة ـ هي بدورها ـ من ضمن النظام، كما أن مستثنيات كل نظام من ضمنه، وليست ثغرات فيه.

...................................
(10) مضمون ما في مسند أحمد بن حنبل ج2 ص333 و350 و360 و399 و519.
(11) بحار الأنوار ج7 ص241 ح11.
(12) وسائل الشيعة ج3 باب تحريم الاستخفاف بالصلاة ص16 ح3.

اضف تعليق