q
ثقافة وإعلام - كتب

رحلة موسوعية مع عمارة المساجد

كتاب عمارة المساجد للمعماري العراقي رؤوف الأنصاري

بين مسجد قباء الذي كان أول مسجد تأسس في الإسلام تحت إشراف الرسول الكريم محمد (ص) وبين آخر مسجد يتأسس في الزمن الحالي، توجد اختلافات ومقاربات كثيرة. وبين مسجد قباء القريب من المدينة المنورة وبين مسجد أقيم في قلب أفريقيا أو في أقصى شمال القارة...

بين مسجد قباء الذي كان أول مسجد تأسس في الإسلام تحت إشراف الرسول الكريم محمد (ص) وبين آخر مسجد يتأسس في الزمن الحالي، توجد اختلافات ومقاربات كثيرة. وبين مسجد قباء القريب من المدينة المنورة وبين مسجد أقيم في قلب أفريقيا أو في أقصى شمال القارة الأوروبية مميزات واحدة وتمايزات متنوعة تتعلق بالبيئة والظروف الاجتماعية من جهة، وبالإيمان الذي يجمع المسلمين في شتى أصقاع المعمورة من جهة أخرى.

ورحلة عمارة المساجد الممتدة على مساحة خمسة عشر قرناً ونيف هي رحلة الزمان كما في المكان، تغطي التطورات المتعاقبة تماماً مثل تغطيتها البيئات الجغرافية المختلفة.

والكتاب الموسوعي الذي أعده المعماري العراقي رؤوف محمد علي الأنصاري هو الدليل الشامل للراغبين في القيام بهذه الرحلة ذات الغنى الحضاري، بالإضافة إلى الكَم الهائل من المعلومات التفصيلية عن أهم المساجد في الإسلام، خصوصاً عن تلك التي قضت عليها عوامل الزمن ولم يبق لنا منها سوى نتف منثورة في بطون الكتب التراثية.

يقول الأنصاري في مقدمته للكتاب « إن فن عمارة المساجد، الذي هو جزء رئيسي من فن العمارة الإسلامية، يتميز في كونه - ولحد الآن - أحد أكثر الفنون انتشاراً في العالم، فضلاً عن مدن وحواضر العالم الإسلامي، ولقد أدى هذا الانتشار إلى تداخل عمارة المساجد وأساليبها وفنونها مع الطرق والأساليب الفنية والمعمارية المختلفة الأخرى إلى درجة أصبح من الطبيعي أن نتلمس تأثيراتها في شتى البيئات والطرز المعمارية المحلية »، الأمر الذي أدى إلى إيجاد ما يمكن تسميته « بالسمات الفنية العامة المشتركة »، وهي التي يعمل الأنصاري على كشفها وتحديدها من خلال فصول الكتاب التي تغطي المراحل الإسلامية المتعاقبة من عهد النبوة فالعصر الراشدي والأموي والعباسي... وصولاً إلى العهد العثماني الذي انتهى في مطلع القرن الحالي ـ الموضوع نشر في عام 1997 ـ. غير أن هذا التعاقب الزمني لا يلغي الافتراقات العديدة التي شهدتها بعض العصور الإسلامية عندما انقسمت الأمة إلى دويلات وإمارات، ومع أن هذه الوحدات السياسية سارت في طريق مغاير للدولة المركزية في معظم الأحيان، إلا أن فن العمارة (خصوصاً المساجد) ظل يربط بينها بصورة جذرية طبعاً، مع بعض الاختلافات المظهرية المتعلقة بالواقع الجغرافي والأبعاد الاجتماعية لكل منطقة.

من هنا نفهم لماذا خصّص الأنصاري فصولاً مستقلة لكل من العهد الأندلسي والطولوني والأغلبي والفاطمي والمرابطي والموحدي والمريني في شمال أفريقيا، ثم للعهود السامانية والغزنوية والبويهية والسلجوقية في العراق وإيران وآسيا، وبعد ذلك العهد السلجوقي في تركيا وعهد أتابكة السلاجقة والأيوبيين والمماليك في بلاد الشام، وكذلك العهد المغولي (الايلخاني) والعهد التيموري والعهد الصفوي في إيران وآسيا الوسطى.

ومن كل مرحلة اختار أبرز مساجدها وأشهرها، وعمل عليها تحليلاً هندسياً ومعمارياً من أجل الإضاءة على « السمات الفنية العامة المشتركة » من دون أن يتناسى بالطبع الإشارة بوضوح إلى المزايا المحلية والإضافات التي حدثت في كل مرحلة ومع كل نموذج.

إن المعماري الأنصاري، تناول عمارة المساجد من زاويتين: الأولى، تقديم عرض تاريخي مكثف لكل عهد من العهود الإسلامية والتي شهدت عمارة المساجد خلاله انجازاً أو أكثر على هذا الصعيد، وذلك عبر إظهار الظروف والمناخات السائدة في تلك الفترة الزمنية موضوع الدرس، بما يعنيه ذلك من إشارة مهمة إلى شكل وطبيعة التأثيرات الناجمة عن ذلك من جهة، وتأثيرات الحكم الذي كان قائماً آنذاك على بناء المساجد من جهة ثانية.

والثانية، إبراز الجانب الفني والجمالي لأهم المساجد والمساجد الجامعة التي شهدت في الفترات المختلفة، أو التي رممت وأصلحت في فترات أخرى، وذلك فضلاً عما كان يطرأ على عمارة المسجد من تطور وإبداع في التصميم والبناء والزخرفة، وكذلك في المواد المستعملة في كل منها.

وثمة زاوية ثالثة لابد من التأكد عليها في هذا المجال، وتتعلق بالجانب التاريخي التوثيقي. إذ أن المعماري الأنصاري رجع إلى أمهات الكتب التراثية باحثاً فيها عن المعلومات النادرة عن عدد مهم من المساجد التي كانت ذات تأثير كبير في فن عمارة المساجد في وقتها، غير أنها اندثرت مع الوقت بصورة كاملة، أو لم يبق منها إلا البعض من المعالم القليلة كالمآذن أو الأسوار وما شابه ذلك، ومن الأمثلة على ذلك المسجد الجامع الكبير في صنعاء ومسجد أبو موسى الأشعري في مدينة زبيد (اليمن)، ومسجد البصرة والجامع الكبير ومسجد أبي دلف في سامراء وغيرها الكثير.

ويوضّح المؤلف هذا الواقع بقوله: « إنّ اعتزاز معظم المدن والحواضر الإسلامية بعمارة مساجدها القديمة واهتمامها بصيانتها وترميمها والحفاظ عليها باستمرار، إنما يعود لكونها جزءاً من تراثها الديني والحضاري ». بيد أنّ افتقاد بعض هذه المدن والحواضر للخبراء والمعماريين والفنيين المتخصصين للقيام بمثل هذه الأعمال أدى - بالإضافة لأسباب أخرى - إلى اندثار الكثير من تلك المساجد التي تحدث عنها بإعجاب المؤرخون المسلمون وغير المسلمين على حدٍ سواء.

إنّ كتاب «عمارة المساجد» الذي عمل عليه المعماري رؤوف الأنصاري على مدى السنوات القليلة الماضية يمكن اعتباره موسوعة مركزة وشاملة لفن عمارة المساجد على المستويين الزماني والمكاني.

ومع أن بعض الشروحات جاءت مختصرة إلى حدٍ ما، إلا أنّ وجودها في سياق العصر الذي تنتمي إليه يعطيها وقعاً مناسباً يساعد في تأكيد الوحدة الروحية لهذا الفن الذي ارتبط - أكثر من أي فن إسلامي آخر - بالمعتقدات الدينية للمسلمين وبرؤيتهم إلى، التمظهر الروحي لتلك المعتقدات... وإذا استوحت عمارة المساجد روح الإسلام وتعاليمه واستلهمت قيمهُ ومثله العليا، فقد تحددت بذلك الأسس والتوجهات التي استندت إليها الفنون الأخرى للعمارة الإسلامية، والتي استخدمت بدورها ما توصلت إليه من خبرة وابتكار وإبداع لتطوير عمارة المساجد تصميماً وزخرفة وضخامة.

المؤلف: د. رؤوف الانصاري: ندعو من الله العلي القدير أن يوفقنا لإعادة طبع الكتاب بعد إضافة بعض المعلومات الجديدة إليه.

* راجعه سمير رزق الله - 1997م، جريدة الحياة اللندنية، العدد 12420

اضف تعليق