q
بعد ثلاثة عقود من الزمن، لم تعد فيتنام ــ كما هي الحال في العديد من الدول النامية ــ محصنة ضد الآثار الضارة الناجمة عن صعود النخب النهّابة. وهناك من الأدلة ما يشير إلى تمكن شركات خاصة قوية من فرض قدر مفرط من النفوذ على السياسات...
بقلم: تران لو ثوي

هانوي ــ قبل خمسة أيام من اجتماع الرئيس الأميركي دونالد ترمب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون في هانوي لعقد قمتهما الثانية، أُلقي القبض على اثنين من وزراء الاتصالات السابقين في فيتنام على خلفية اتهامهما بارتكاب "انتهاكات مرتبطة بإدارة واستخدام المال العام". ويُقال إن هذين المسؤولين وافقا على قيام شركة اتصالات مملوكة للدولة بشراء شركة خاصة لتوريد المواد التلفزيونية في مقابل ثمن يتجاوز أربعة أضعاف قيمتها المقدرة، بخسارة للدولة بلغت نحو 307 مليون دولار.

على نحو مماثل، قبل بضعة أشهر، قُدِّم إلى المحاكمة اثنان من نواب وزير الشرطة، ووزير النقل، ورئيس مؤسسة البترول الحكومية السابق بتهمة بيع أملاك الدولة لشركات خاصة بخسارة. وتشير هذه الحالات مجتمعة إل مستوى مرتفع من الاستيلاء على الدولة ــ وهو شكل من أشكال الفساد منتشر في دول الكتلة السوفييتية السابقة، حيث تستخدم الجهات الخاصة القوية أفرادا من داخل الحكومة لاكتساب السيطرة على المؤسسات والأصول العامة.

مثلها كمثل كوريا الشمالية، بدأت فيتنام تفتح اقتصادها بينما لم تسمح بالملكية الخاصة إلا في حدود ضيقة للغاية. ولكن بعد ثلاثة عقود من الزمن، لم تعد فيتنام ــ كما هي الحال في العديد من الدول النامية ــ محصنة ضد الآثار الضارة الناجمة عن صعود النخب النهّابة. وهناك من الأدلة ما يشير إلى تمكن شركات خاصة قوية من فرض قدر مفرط من النفوذ على السياسات المحلية. وفقا لتعليق نشرته صحيفة "الشعب اليومية" لرئيس فيتنام السابق ترانج تون سانج، فإن الفساد الآن أصبح أسوأ من أي وقت مضى في تاريخ الحزب الشيوعي الفيتنامي الذي دام سبعين عاما. كتب سانج: "هناك تعاون بين القائمين على السلطة والساعين إلى جمع الريع لإساءة استغلال سياسات الدولة. وهم يرتبون صفقات تجارية تعود بالفائدة على بعض الأفراد والمجموعات بشكل كبير، لكنها تتسبب في إلحاق أضرار مهولة بميزانية الدولة وتعوق الاقتصاد".

ومع ذلك فإن نموذج فيتنام الهجين الذي يجمع بين الحكم الاشتراكي واقتصاد السوق كان محل إشادة على نطاق واسع بوصفه مثالا يجب أن يحتذي به كيم. في الفترة من 2007 إلى 2017، سجلت ثروة فيتنام نموا بلغ 210%، ووفقا لشركة الاستشارات العقارية نايت فرانك، فإن أكثر من 200 فيتنامي يملك كل منهم أصولا قابلة للاستثمار بقيمة لا تقل عن 30 مليون دولار أميركي. وبعد أن توسعت بنسبة 320% بين عام 2000 وعام 2016، فإن الطبقة "الفاحشة الثراء" في فيتنام تنمو بسرعة أكبر كثيرا من نظيرتها في الهند (290%) وفي الصين (281%). وإذا استمرت الاتجاهات الحالية، فسوف تنمو هذه الطبقة بنحو 170% أخرى ــ من 14300 مليونير إلى 38600 مليونير ــ بحلول عام 2026.

الواقع أن حصة كبيرة من محدثي الثراء هؤلاء اكتسبت ثرواتها من خلال استغلال ثغرات في نظام الحوكمة. وقد ازدهر هذا النوع من المحسوبية في غياب ضوابط تنظيمية واضحة تحكم الملكية العقارية وفي ظل تضارب المصالح على جانب المسؤولين العموميين. وأحد الأسباب الواضحة وراء هذا هو أن موظفي الحكومة يتلقون رواتب شديدة الانخفاض عادة؛ وحتى رئيس الوزراء يكسب نحو 750 دولارا فقط في الشهر.

على هذه الخلفية، أطلق الحزب الشيوعي الفيتنامي حملته غير المسبوقة لمكافحة الفساد، في حين روج لجهوده في مكافحة "جماعات المصالح" وإحباط الاستيلاء على الدولة. حتى الآن، خففت مقاضاة بعض المسؤولين الرفيعين السابقين من حالة الاستياء العام. ويبدو أن قمة هانوي، إلى جانب حرب ترمب التجارية ضد الصين، دفعت المزيد من الاستثمار المباشر الأجنبي إلى فيتنام، مما خفف بعض الضغوط المفروضة على الاقتصاد، وبالتالي على الحكومة. ولكن في الأمد البعيد، لا يستطيع الحزب أن يعتمد على مثل هذه المكاسب غير المتوقعة.

علاوة على ذلك، كان النمو في فيتنام يعتمد في السابق بشكل كبير على المضاربة في العقارات والأسهم، وليس على التصنيع والتكنولوجيا وغير ذلك من الصناعات ذات القيمة المضافة العالية. ولكن إذا كانت فيتنام راغبة في ارتقاء سلسلة القيمة العالمية وتحقيق نمو أكثر استدامة، فإن الأمر يتطلب إجراء إصلاحات سياسية عميقة.

على مدار السنوات الثلاث المنصرمة، عقد كبار مفكري الحزب الشيوعي الفيتنامي مناقشة عامة حول إدخال المزيد من الضوابط والتوازنات على النظام. وإلى جانب محاكمات مكافحة الفساد، تبرز خطط للحد من عدد العاملين على جدول رواتب الدولة وزيادة مرتبات المتبقين منهم.

في صياغته لخطة التنمية الجديدة، يبدو أن الحزب الشيوعي الفيتنامي استلهم الكثير من سنغافورة ودول الشمال. ويتلخص هدف الحزب في الانتقال من نموذج قائم على العمالة الرخيصة والاستثمار الكثيف الاستهلاك لرأس المال والشديد التلويث في الصناعة إلى نموذج يقوم على التكنولوجيات والخدمات المتقدمة، وهو ما من شأنه أن يضمن نموا أكثر استدامة وعدالة.

استنادا إلى التصريحات العلنية، يبدو أن قادة الحزب أدركوا أن الفساد الصارخ وفجوة التفاوت السريعة الاتساع يشكلان تهديدا لشرعيتهم. ومع ذلك، يظل من غير المعلوم ما إذا كانت جهود الإنفاذ الحالية لتؤدي حقا إلى إصلاحات سياسية حقيقية، وضمانات أقوى ضد الفساد، وضوابط تنظيمية أكثر وضوحا للملكية العقارية، حتى لا يضطر الأثرياء بعد الآن إلى الاعتماد على مصادر داخلية مطلعة لتكديس وحماية ثرواتهم.

كان قسم كبير من خطاب الحزب الشيوعي الفيتنامي يركز على الحاجة إلى "الفضيلة والأخلاق" من جانب المسؤولين الحكوميين. ولكن من الأفضل أن نقبل بأن المصلحة الذاتية سِمة إنسانية قوية ولا مفر منها. فبتوجيه الأوامر إلى المسؤولين الحكوميين ببساطة بالتصرف بأمانة ونزاهة انطلاقا من حِس الواجب العام، يخاطر الحزب بإهدار الفرصة لإنشاء آليات أكثر قوة وعقلانية لرصد الفساد.

أما عن محاولات الحزب لتحويل الاقتصاد، فمن المفيد أن نشير هنا إلى أن رئيس الوزراء الفيتنامي نجوين شوان فوك بذل جهودا غير مسبوقة في الفترة التي سبقت انعقاد قمة ترمب وكيم لتعزيز الصورة العامة لبلاده من خلال قيامه شخصيا باختيار بعض الأطباق الفيتنامية للصحافيين الأجانب. في الماضي، كان الحزب ينظر دائما إلى الصحافة الأجنبية على أنها تهديد يجب تجنبه، وذلك بسبب انتقادات سابقة لسجل حقوق الإنسان في فيتنام. ولكن الآن، يتلخص الهدف في تعزيز صناعة السياحة من خلال ترسيخ فيتنام باعتبارها واحدة من أفضل مقاصد السفر.

عندما مرت سيارة كيم عبر هانوي هذا الأسبوع، هلل العديد من الفيتناميين، ليس لأنهم يفتقدون السياسات الاقتصادية المغلقة من ثمانينيات القرن العشرين، بل لأن المشهد ذكرهم بمفاوضات فيتنام ذاتها لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة في الفترة 1993-1994. فقد مهد ذلك النجاح الدبلوماسي الطريق لانتشال نسبة كبيرة من سكان فيتنام من براثن الفقر.

ولكن في حين استمتع أغلب الفيتناميين بارتفاع مستويات المعيشة، فإن النموذج الاقتصادي المتبع على مدار العقود الثلاثة المنصرمة لابد أن يتحول. فالآن أصبحت فيتنام عند مفترق طرق مرة أخرى. ورغم أن كيم وترمب لم يتمكنا من التوصل إلى اتفاق بشأن إنهاء العقوبات الأميركية هذا الأسبوع، فيبدو أن كيم يتجه صوب الطريق الذي سلكته فيتنام من قبل. وإذا كان جادا بشأن محاكاة النموذج الهجين الذي تبنته فيتنام والذي يضم الحكم الاشتراكي واقتصاد السوق، فلابد أن ينتبه للمخاطر.

* تران لو ثوي، صحفي وباحث في هانوي
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق